اعلام الصوفية

أصول المشايخ
فهذه: فصول تشير إلى أصول المشايخ على وجه الإيجاز، وباللّه التوفيق.
في ذكر مشايخ هذه الطريقة وما يدلّ من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة إعلموا، رحمكم اللّه تعلى، أن المسلمين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم، سوى صحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: الصحابة.
ولمَّا أدركهم أهل العصر الثاني سمى من صخب الصحابة: التابعين ورأوا في ذلك أشرف سِمة. ثم قيل لمن بعدهم: أتباع التابعين.
ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس مِمَّن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزّهاد والعُباد.
ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادَّعوا أن فيهم زهاداً.
فانفرد خواصُّ أهل السُّنة المراعون أنفسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الفعلة باسم التصوف.
واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.
ونحن نذكر في هذا الباب أسامي جماعة من شيوخ هذه الطريقة، من الطبقة الأولى إلى وقت المتأخرين منهم، ونذكر جُملاً من سِيَرهم، وأقاويلهم، بما يكون فيه تنبيه على أصولهم، وآدابهم إن شاء الله تعالى.
فمنهم:
إبراهيم بن أدهم
أبو إسحق إبراهيم بن أدهم بن منصور من كُورة بلخ، رضي الله تعالى عنه.
كان من أبناء الملوك، فخرج يوماً متصيِّداً، فأثار ثعلباً أو أربناً وهو في طلبه، فهتف به هاتف: يا إبراهيم، ألهذا خُلقتَ، أم بهذا أمُرت؟.
ثم هتف به أيضاً من قربوس سرجه: والله ما لهذا خُلقت، ولا بهذا أُمرت.
فنزل عن دابته.

وصادف راعياً لأبيه، فأخذ جُبَّةً للراعي من صوف، ولبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثم إنه دخل البادية، ثم دخل مكة، وصحب بها سفيان الثوري.
والفضيل بن عياض، ودخل الشام ومات بها.
وكان يأكل من عمل يده، مثل: الحصاد، وحفظ البساتين، وغير ذلك.
وأنه رأى في البادية رجلاً علَّمه اسم الله الأعظم فدعا به بعده، فرأى الخضر عليه السلام، وقال له: إنما علَّمك أخي داود اسم الله الأعظم.
أخبرنا بذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الخشاب قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، قال: حدثنا أبو سعيد الخراز قال: حدثنا إبراهيم بن بشَّار قال: صحبت إبراهيم ابن أدهم، فقلت: خبّرني عن بدء أمرك فذكر هذا.
وكان إبراهيم بن أدهم كبير الشأن في باب الورع، ويحكى عنه أنه قال: أطب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا نصوم النهار.
وقيل: كان عامة دعائه: " اللهم انقلني من ذلِّ معصيتك إلى عزِّ طاعتك " وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم قد غلا!!.
فقال: أرخصوه أي: لاتشتروه وأنشد في ذلك:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا "
أخبرنا محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن خضرويه يقول: قال إبراهيم بن أدْهم لرجل في الطواف: أعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات: أولاها: تغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدَّة.
والثانية: تغلق باب العزِّ، وتفتح باب الذلِّ.
والثالثة: تغلق باب الراحة، وتفتح باب الجهد.
والرابعة: تغلق باب النوم؛ وتفتح باب السهر.
والخامسة: تغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر.
والسادسة: تغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للموت.
وكان إبراهيم بن أدهم يحفظ كَرْماً، فمرَّ به جندي، فقال: أعطنا من هذا العنب فقال: ما أمرني به صاحبُه.
فأخذ يضربه بسوطه، فطأطأ رأسه وقال: اضرب رأساً طالما عصى الله. فأعجز الرجل ومضى.
قال سهل بن إبراهيم: صحبت إبراهيم بن أدهم، فمرضت، فأنفق عليَّ نفقته فاشتهيت شهوة، فباع حماره وأنفق عليَّ ثمنه. فلما تماثلت، قلت: ياإبراهيم، أين الحمار؟ فقال: بعناه، فقلت: فعلى ماذا أركب؟ فقال: يا أخي على عنقي. فحملني ثلاث منازل.
ومنهم:
ذو النون المصري
أبو الفيض ذو النون المصري وإسمه: ثوبان بن إبراهيم، وقيل الفيض بن إبراهيم، وأبوه كان نوبياً.
تُوفي سنة: خمس وأربعين ومائتين. فائق في هذا الشأن، وأوحد وقته علماً، وورعاً، وحالاً، وأدباً.
سعَوا به إلى المتوكِّل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظّه فبكى المتوكِّل وردَّه إلى مصر مكرَّماً، وكان المتوكل إذا ذُكر بين يديه أهل الورع يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فجهلاً بذي النون.
وكان رجلاً نحيفاً، تعلوهُ حمرة، ليس بأبيض اللحية.
سمعت أحمد بن محمد يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون يقول: مدار الكلام على أربع: حبُّ الجليل، وبغض القليل، واتِّباع التنزيل، وخوف التحويل.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله؛ يقول: سمعت سعيد بن أحمد ابن جعفر يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد ابن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: من علامات المحبِّ لله عزَّ وجلَّ: متابعة حبيب الله، صلى الله عليه وسلم، في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه.
وسئل ذو النون عن السِّفلة فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله، ولا يتعَرَّفه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: حضرت مجلس ذي النون يوماً؛ وجاء، سالم المغربي، فقال له: يا أبا الفيض، ما كان سبب توبتك؟ قال: عجب لا تطيقه. قال: بمعبودك إلا أخبرتني.
فقال ذو النون: أردت الخروج من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عيني، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان: إحداهما ذهب، والأخرى فضة وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا.
فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني الله عز وجل.

سمعت محمد بن الحسين يقول. سمعت على بِّن عمر الحافظ يقول: سمعت ابن رشيف: يقول سمعت أبا دجانة يقول: سمعت ذا النون يقول: لا تسكن الحكمة معدة مُلئت طعاماً.
وسئل ذو النون عن التوبة فقال: توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواصِّ تكون من الغفلة.
ومنهم:
أبو علي الفضيل بن عياض
خرساني، من ناحية مرو.
وقيل إنه وُلد بسمرقند، ونشأ بأبيَورد مات بمكة في المحرم سنة: سبع وثمانين ومائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن عبد الله العسكري، قال: حدثنا ابن أخي أبي زرعة، قال: حدثنا محمد بن إسحق بن راهويه قال: حدثنا أبو عمار، عن الفضل بن موسى، قال: كان الفضيل شاطراً: يقطع الطريق بين ابيورد وسرخس وكان سبب توبته: أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: " ألمي أن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فقال: يارب قد آن.
فرجع.. فآراه الليل إلى خرِبة، فإذا فيها رُفقة، فقال بعضهم: ترتحل، وقال قوم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا.
فتاب الفضيل وأمَّنهم. وجاور الحرم حتى مات.
وقال الفضيل بن عياض: إذا أحبَّ الله عبداً أكثر غمَّه، وإذا أبغض عبداً وسَّع عليه دنياه.
وقال ابن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عُرضت علىَّ ولا أحاسب بها لكنت أتقذرها، كما يَتقّذَر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أن تصيب ثوبه.
وقال الفضيل: لو حلفت أنِّي مُراء أحبُّ إليَّ من أن أحلف أنيِّ لست بمراء.
وقال الفضيل: ترك العمل لأجل الناس هو الرياءُ، والعمل لأجل الناس هو الشرك.
وقال أبو عليِّ الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً، ولا متبسما، إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أحبَّ أمراً فأحببت ذلك.
وقال الفضيل: إني لأعصى الله، فأعرف ذلك في خُلق حماري وخادمي.
ومنهم:
معروف بن فيروز الكرخي
أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي كان من المشايخ الكبار، مجاب الدعوة، يستشفي بقبره.
وهو من موالى عليٍّ بن موسى الرضا، رضي الله عنه، مات سنة مائتين: وقيل: سنة إحدى ومائتين. وكان أستاذ السري السقطى، وقد قال له يوما: إذا كانت لك حاجه إلى الله فأقسم عليه بي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: كان معروف الكرخى أبواه نصرانيان، فسلَّموا معروفاً إلى مؤدبهم، وهو صبي،فكان المؤدب يقول له :قل ثالث ثلاث . فيقول:بل هو واحد.فضربه المعلم يوماًضرباًمبرحا،فهرب معروف، فكان أبواه يقولان : ليته يرجع إلينا على أي دين يشاء،فنوافقه عليه .
ثم أنه اسلم على يدي علي بن موسى الرضا..ورجع إلى منزله..ودق الباب .فقيل: من بالباب؟فقال: معروف. فقالوا: على أي دين جئت؟ فقال: على الدين الحنيفي. فأسلم أبواه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت سريا السقطي يقول: رأيت معروفا الكرخى في النوم كأنه تحت العرش، فيقول الله عز وجل لملائكته: من هذا؟ فيقولون: أنت أعلم يا رب.
فيقول: هذا معروف الكرخى، سكر من حبي، فلا يفيق إلا بلقائي.
وقال معروف: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل،فإن ذلك الذي يقرّبك إلى رضا مولاك.فقلت: وما ذلك العمل؟ فقال:دوام طاعة ربك،وخدمة المسلمين، والنصيحة لهم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعي محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت على بن محمد الدلال يقول:سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبي يقول: رأيت معروفًا الكرجي في النوم،بعد موته،فقلت له:ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لى.
فقلت بزهدك وورعك ؟ فقال:لا، بقبولي موعظة ابن السماك،ولزوم الفقر،ومحبتي للفقراء.
وموعظة ابن السماك:ما قاله معروف: كنت ماراً بالكوفة.فوقفت على رجل يقال له:ابن السماك وهو يعظ الناس.
فقال في خلال كلامه:من أعرض عنا لله بكلتيه أعرض الله عنه جملة..ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته إليه ، وأقبل بجميع وجوه الخلق إليه، ومن كان مرة و مرة فالله يرحمه وقتاً ما.فوقع كلامه في قلبي، فأقبلت على الله تعالى ، وتركت جميع ما كنت عليه، إلا خدمة مولاي على بن موسى الرضا.

وذكرت هذا الكلام لمولاي، فقال: يكفيك بهذا موعظة إن اتعظت؟ أخبرني بهذه الحكاية محمد بن الحسين،قال: سمعت على بن عيسى يقول: سمعت سريا السقطى يقول: سمعت معروفاً يقول ذلك.
وقيل لمعروف في مرض موته: أوصِ.
فقال: إذا متُّ فتصدُّقوا بقميصي؛ فإني أريد أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً.
ومرَّ معروف بسقَّاء يقول: رحم الله من يشرب، وكان صائماً، فتقدمَ فشرب، فقيل له ألم تكون صائماً؟ فقال: بلى، ولكني رجوت دعاءه.
ومنهم:
سري بن المغلس السقطي
أبو الحسن سري بن المغلس السقطي خال الجنيد، وأستاذه.
وكان تلميذ معروف الكرخي؛ كان أوحد زمانه في الورع، وأحوال السنة وعلوم التوحيد: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت أبا عمرو بن علوان يقول: سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: بلغني أن السريَّ السقطي كان يتَّجر في السوق، وهو من أصحاب معروف الكرخي، فجاءه معروف يوماً، ومعه صبي يتيم، فقال: اكسِ هذا اليتيم. قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، وقال: بغَّض الله إليك الدنيا، وأَراحك مما أَنت فيه.
فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إليَّ من الدنيا.
وكل ما أنا فيه من بركات معروف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: ما رأيت أعبدَ من السري: أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعاً إلا في علة الموت.
ويحكى عن السري أنه قال: التصوُّف: أسم لثلاث معان: وهو الذي لا يطفىء نورُ معرفته نورَ ورعه.
ولا يتكلَّم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة.
ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.
مات السري سنة: سبع وخمسين ومائتين.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدَّقاق يحكى عن الجنيد، رحمه الله، أنه قال: سألني السري يوماً عن المحبَّة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم: الإيثار، وقال قوم: كذا.. وكذا..، فأخذ السري جلدة ذراعه، ومدها، فلم تمتدَّ، ثم قال: وعزَّته تعالى، لو قلت: إن هذه الجلدة يبستْ على هذا العظم من محبته لصدقت.
ثم غشى عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق، وكان السريُّ به أُدمة.
ويحكى عن السريِّ أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي: الحمد لله مرّة.
قيل: وكيف ذلك؟ فقال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل، فقال لي: نجا حانوتك.
فقلت: الحمد لله. فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيراً مما حصل للمسلمين!!.
أخبرني به عبد الله بن يوسف قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت السريَّ يقول ذلك.
ويحكى عن السريِّ أنه قال: أنا أنظر في أنفي في اليوم كذا.. وكذا مرَّة، مخافة أن يكون قد اسودَّ، خوفاً من الله أن يسوِّد صورتي لِما أتعاطاه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسن ابن الخشاب يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السريَّ يقول: أعرف طريقاً مختصراً قصداً إلى الجنة: فقلت له: ما هو؟.
فقال: لا تسأل من أحد شيئاً، ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكن معك شيء تعطى منه أحداً.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج الطوسي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت الجنيد ابن محمد يقول: سمعت السري يقول: أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد، فقيل له: ولم ذلك؟ فقال: أخاف ألا يقبلني قبري فافتضح.
سمعت عبد الله بن يوسف الاصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن بن عبد الله المغوطي الطرسوسي يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السريَّ يقول: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذلِّ الحجاب.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت يوماً على السريِّ السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: جائتني البارحة الصبيَّة، فقالت: يا أبتي، هذه ليلة حارَّةٌ، وهذا الكوز أُعلّقه ها هنا.
ثم إني حملتني عيناي فنمت، فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرَّج في الكيزان.
فتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته.

قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسَّه، حتى عفا عليه التراب.
ومنهم:
بشر بن الحارث الحافي
أبو نصر بشر بن الحارث الحافي أصله من مرو وسكن بغداد، ومات به، وهو ابن أخت عليٍّ بن خشرم. مات سنة سبع وعشرين ومائتين. وكان كبير الشأن.
وكان سبب توبته: أنه أصاب في الطريق كاغدة مكتوباً فيها أسم الله رجلَ قد وطئتها الأقدامُ، فأخذها واشترى بدورهم كان معه غالية، فطيِّب بها الكاغدة، وجعلها في شق حائط فرأى فيها التأ كأن قائلاً يقول له: يا بشر، طيَّبت اسمى، لأطيبنَّ في الدنيا والآخرة.سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: مرَّ بشر ببعض الناس، فقالوا: هذا الرجل لا ينام الليل كلَّه، ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام مرة؛ فبكى بشر، فقيل له في ذلك فقال: إني لا أذكر أني سهرت ليلة كاملة، ولا أني صمت يوماً لم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثرً مما يفعله العبد لطفاً منه، سبحانه، وكرماً.. ثم ذكر إبتداء أَمره: كيف كان علي ما ذكرناه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: بلغني أن بشر بن الحارث الحافي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا بشر، أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟ قلت: لا، يا رسول الله.
قال: باتِّباعك لسنَّتي، وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لا خوانك، ومحبتك لأصحابي، وأهل بيتي: وهو الذي بلَّغك منازل الأبرار.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت بلالا الخواص يقول: منت في تيه بني إسرائيل، فإذا رجل يماشيني، فتعجبت منه، ثم أُلهمت أنه الخضر عليه السلام، فقلت له: بحقِّ الحقِّ من أنت؟ فقال: أخوك الخضر؛ فقلت له: أُريد أن أسألك، فقال: سل. فقلت: ما تقول في الشافعي رحمه الله؟ فقال: هو من الأوتاد.
فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل رضي الله عنه؟ قال رجل صدِّيق.
قال: فما تقول في بشر بن الحارث الحافي؟ قال: لم يخلق بعده مثله.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: أتى بشر الحافي باب المعافي بن عمران، فدقَّ الحافي عليه الباب، فقيل: من؟ فقال: بشر الحافي.
فقالت لهُ بنيةٌ من داخل الدار: لو اشتريت لك نعلا بدانقين لذهب عنك اسم الحافي.
أخبرني بهذه الحكاية محمد بن عبد الله الشيرازي، قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثني محمد بن سعيد، قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: سمعت عبد الله المغازلي يقول: سمعت بشراً الحافي يذكر هذه الحكاية.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين الحجاجي يقول: سمعت المحاملي يقول: سمعت الحسن المسوحي يقول: سمعت بشر بن الحارث يحكي هذه الحكاية.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الفضل العطَّار يقول: سمعت أحمد بن علي الدمشقي يقول: قال لي أبو عبد الله بن الجلاء: رأيت ذا النون، وكانت له العبارة، ورأيت سهلاً، وكانت له الإشارة، ورأيت بشر بن الحارث، وكان له الورع.
فقيل له: فإلى من كنت تميل؟ فقال: لبشر بن الحارث أستاذنا.
وقيل: إنه اشتهى الباقلاء سنين، فلم يأكله، فرؤى في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: عَفر لي، وقال: كُلْ يا من لم يأكل، واشرب يا مَنْ لم يشرب.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا عبيد الله ابن عثمان بن يحيى قال: حدثنا أبو عمرو بن السماك قال: حدثنا محمد ابن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن بنت معاوية قال: سمعت أبا بكر بن عفان يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: إني لأشتهي الشِّواء منذ أربعين سنة ما صفا لي ثمنه؟؟ وقيل لبشر: بأيِّ شيء تأكل الخبز؟ فقال أَذكر العافية وأجعلها إداماً.
أخبرنا به محمد بن الحسين، رحمه الله، قال: أخبرنا عبيد الله بن عثمان قال: أخبرنا أبو عمرو بن السماك قال: حدثنا عمر بن سعيد قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: قال رجل لبشر الحكاية المذكورة.
وقال بشر: لا يحتمل الحلالُ السَّرف.
ورؤي بشر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأباح لي نصف الجنة، وقال لي: يا بشر، لو سجدتّ لي على الجمر ما أديتَ شكرً ما جعلت لك في قلوب عبادي.

وقال بشر: لا يجدُ حلاوة الآخرة رجل يُحِبُّ أن يعرفه الناس.
ومنهم:
أبو عبد الله المحاسبي
الحارث بن أسد المحاسبي عديم النظير في زمانه علماً، وورعاً، ومعاملة، وحالاً.
بصرىُّ الأصل، مات ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
قيل: إنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم فلم يأخذ منها شيئاً. قيل، لأن أباه كان يقول بالقدر، فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه شيئاً، وقال: صحَّت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا يتوارث أهل ملَّتين شيئاً " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت محمد بن مسروق يقول: مات الحارث ابن أسد المحاسبي وهو محتاج إلى جرهم، وخلف أبوه ضِياعاً وعقاراً، فلم يأخذ منه شيئاً.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: كان الحارث المحاسبي إذا مدَّ يده إلى طعام فيه شبهة تحرَّك على أصبحه عِرق، فكان يمتنع منه.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلِّموا لهم حالهم: الحارث بن أسد المحاسبي، والجنيد بن محمد، وأبو محمد رُويم، وأبو العباس ابن عطاء، وعمرو بن عثمان المكيِّ؛ لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله علي الطوسي يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: سمعت أبا عثمان البلدي يقول: قال الحارث المحاسبي: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتِّباع السنَّة.
ويحكى عن الجنيد أنه قال: مرَّ بي يوماً الحارث المحاسبي، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: يا عم، تدخل الدار وتتناول شيئاً؟ فقال: نعم.
فدخلت الدار وطلبت شيئاً أقدِّمه إليه، فكان في البيت شيء من طعام حمل إليَّ من عرس قوم، فقدَّمته إليه، فأخذ لقمة وأدارها في فمه مرات، ثم إنه قام وألقاها في الدهليز، ومرَّ.
فلما رأيته بعد ذلك بأيام قلت له في ذلك، فقال: إني كنت جائعاً، وأردت أن أَسرَّك بأكلي وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله، سبحانه، علامة: أن لا يسوغني طعاماً فيه شبهة، فلم يمكنّي إبتلاعه، فمن أين كان لك ذلك الطعام؟.
فقلت: إنه حُمل إليَّ من دار قريب لي من العرس، ثم قلت: تدخل اليوم؟ فقال: نعم. فقدمت إليه كِسراً يابسة كانت لنا، فأكل وقال: إذا قدمتَّ إلي فقير شيئاً فقدِّم إليه مثل هذا.
ومنهم:
داود بن نصير الطائي
أبو سليمان داود بن نصير الطائي وكان كبير الشأَن. أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السملي، رحمه الله، قال: أخبرنا أبو عمرو بن مطر قال: حدثنا محمد بن المسيَّب قال: حدثنا ابن خُبيق قال، قال يوسف بن سباط: ورث داود الطائي عشرين ديناراً فأكلها في عشرين سنة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: كان سبب زهد داود الطائي: أنه كان يمرُّ ببغداد، فمرَّ يوماً، فنحّاه المطرقون بين يدي حميد الطوسي، فالتفت داود فرأي حميداً، فقال داود: أُفِّ لدنيا سبقك بها حميد.
ولزم البيت وأخذ في الجهد والعبادة.
وسمعت ببغداد بعض الفقراء يقول: إن سبب زهده أنه سمع نائحة تنوح وتقول:
بأيِّ خديك تبدي البلى ... وأي عينيك إذاً سالا
وقيل: كان سبب زهده: أنه كان يجالس أبا حنيفة، رضي الله عنه، فقال له أبو حنيفة يوماً: يا أبا سليمان: أمَّا الأداة فقد أحكمناها فقال له داود: فأي شيء بقي؟ فقال: العمل به.
قال داود: فنازعتني نفسي إلى العُزلة، فقلت لنفسي: حتى تجالسهم ولا تتكلم في مسألة.
قال: فجالستهم سنة لا أتكلم في مسألة، وكانت المسألة تمرُّ بي، وأنا إلى الكلام فيها أشد نزاعاً من العطشان إلى الماء البارد ولا أتكلَّم به.
ثم صار أمره إلى ما صار.
وقيل: حجم جنيدُ الحجام داود الطائي، فأعطاه ديناراً، فقيل له: هذا إسراف.
فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
وكان يقول بالليل: الهي همُّك عطَّل عليَّ الهموم الدنيوية، وحلل بين وبين الرقاد.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفيِّ يقول: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سعيد بن عمرو قال: حدثنا عليٌّ بن حرب الموصلي قال: حدثنا إسماعيل ابن زيا الطائيّ قال: قالت دايةُ داود الطائي له.
أما تشتهي الخبز؟ فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءةُ خمسين آية.

ولما تُوفي داود رآه بعض الصالحين في المنام وهو يعدو فقيل له: مالك؟ فقال: الساعة تخلَّصت من السجن.
فاستيقظ الرجل من منامه، فارتفع الصياح بقول الناس: مات داود الطائي.
وقال له رجل: وسني. فقال له: عسكرُ الموتِ ينتظرونك.
ودخل بعضهم عليه، فرأى جرَّة ماء انبسطت عليها الشمس، فقال له: ألا تحوِّلها إلى الظل؟ فقال: حين وضعتها لم يكن شمس، وأنا أستحي أن يراني الله أَمشي لما فيه حظُّ نفسي.
ودخل عليه بعضهم، فجعل ينظر إليه، فقال: أما علمت أنهم كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام؟ أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصفهانيّ قال: أخبرنا أبو اسحق إبراهيم ابن محمد بن يحيى المزكي: قال: حدثنا قاسم بن أحمد، قال: سمعت ميموناً الغزالي قال: قال أبو الربيع الواسطي: قلت لداود الطائي: أوصني.
فقال: صُمْ عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفرَّ من الناس كفرارك من السبع.
ومنهم:
شقيق بن إبراهيم البلخي
أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي من مشايخ خراسان. له لسان في التوكُّل، وكان أستاذ حاتم الأصم.
قيل: كان سبب توبته: أنه كان من أبناء الأغنياء، خرج للتجارة إلى أرض الترك، وهو حدث. فدخل بيتاً للأصنام، فرأَى خادماً للأصنام فيه؛ قد حلق رأسه ولحيته، ولبس ثياباً أُرجوانية. فقال شقيق للخادم: إنَّ لك صانعاً حيًّا، عالماً، قادراً، فاعبده.. ولا تعيد هذه الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع!!.
فقال: إن كان كما تقول، فهو قادر على أَن يرزقك ببلدك، فلم تعنَّيت إلى هاهنا للتجارة؟ فانتبه شقيق.. وأخذ في طريق الزهد.
وقيل: كان سبب زهده: أنه رأى مملوكاً يلعب ويمرح في زمان قحط، وكان الناس مهتمين به، فقال شقيق: ما هذا النشاط الذي فيك؟ أما ترى ما فيه الناس من الجدب والقحط؟.
فقال ذلك المملوك: وما عليَّ من ذلك، ولمولاي قريةٌ خالصة يدخل له منها ما يحتاج نحن إليه، فانتبه شقيق، وقال: إن كان لمولاه قرية، ومولاه مخلوق فقير، ثم إنه ليس يهتم لرزقه، فكيف ينبغي أن يهتم المسلم لرزقه ومولاه غني؟! سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله ، يقول: سمعت أبا الحسين بن أحمد العطار البلخي يقول: سمعت أحمد بن محمد البخاري يقول: قال حاتم الأصم: كان شقيق بن إبراهيم موسراً، وكان يفتي ويعاشر الفتيان، وكان عليُّ بن عيسى بن ماهان أميرَ بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلباً من كلابه، فسعى برجل أنه عنده، وكان الرجل في جوار شقيق، فطلب الرجل، فهرب... فدخل دار شقيق مستجيراً، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: خلوا سبيله، فإن الكلب عنيد أرده إليكم إلى ثلاثة أيام.
فخلوا سبيله، وانصرف شقيق مهتما لما صنع. فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أصدقاء شقيق غائباً من بلخ فرجع إليها، فوجد في الطريق كلباً عليه قلادة، فأخذه، وقال: أهديه إلى شقيق، فإنه يشتغل بالتفَّتى.
فحمله إليه، فنظر شقيق فإذا هو كل الأمر، فسرَّ به وحمله إلى الأمير وتخلّص من الضمان فرزقه الله الانتباه، وتاب مما كان فيه. وسلك طريق الزهد.
وحكى أنا حاتماً الأصمَّ قال: كنا مع شقيق في مصاف نحارب الترك في يوم لا نري فيه إلا رءوساً تندر، ورماحاً تنقصف، وسيوفاً تنقطع، فقال لي شقيق: كي ترى نفسك يا حاتم في هذا اليوم؟ تراه مثل ما كنت في الليلة التي زفّت إليك امرأتك؟ فقال: لا والله.
قال: لكنّي والله أرى نفسي في هذا اليوم مثلَ ما كنتُ تلك الليلة.
ثم نام بين الصفَّين ودرقته تحت رأسه حتى سمعت غطيطه.
وقال شقيق: إذا أَردت أن تعرف الرجل فانظر لى ما وعده الله ووعده الناس، فبأيهما يكون قلبه أوثق؟ وقال شقيق: تُعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذِه، ومنعِه، وكلامِه.
ومنهم:
أبو يزيد البسطامي
أبو يزيد بن طيفور بن عيسى البسطامي وكان جدُّه مجوسياً أسلم.
وكانوا ثلاثة إخوة: آدم، وطيفور، وعليّ. وكلهم كانوا زهَّاداً عبَّاداً وأبو يزيد كان أجلَّهم حالاً.
قيل مات سنة: إحدى وستين ومئتين، وقيل: أربع وثلاثين ومائتين؟ سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي، يقول: سمعت الحسن بن عليّ يقول: سئل أبو يزيد: بأي شيء وجدتّ هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع، وبدن عار.

سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشدَّ عليَّ من العمل ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد.
وقيل. لم يخرج أبو يزيد من الدنيا حتى استظهر القرآن كلَّه.
حدثنا أبو حاتم السجستاني قال: أخبرنا أبو نصر السرَّاج، قال: سمعت طيفور البسطامي يقول: سمعت المعروف بعمِّي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: قال لي أبو يزيد: قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية، وكان رجلاً مقصوداً مشهوراً بالزهر، فمضينا إليه؛ فلما خرج من بيته، ودخل المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد ولم سلم عليه، وقال: هذا غيرُ مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يكون مأموناً على ما يدَّعيه؟ وبهذا الإسناد قال أبو يزيد: لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء، ثم قلت: كيف يجوز لي أن أسأل هذا ولم يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه؟ فلم أسأله. ثم إن الله سبحانه وتعالى كفاني مؤنة النساء؛ حتى لا أُبالي استقبلتني امرأة أو حائط.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسن ابن علي يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: سألت أبا يزيد عن ابتدائه وزهده، فقال: ليس للزهد منزلة. فقلت: لماذا؟ فقال: لأني كنت ثلاثة أيام في الزهد.
فلما كان اليومُ الرابع خرجت منه: اليوم الأول: زهدت في الدنيا وما فيه، واليوم الثاني: زهدت في الآخرة وما فيها، واليوم الثالث: زهدت فيما سوى الله، فلما كان اليوم الرابع لم يبق سوى الله.. فهمْتُ، فسمعت، هاتفاً يقول: يا أبا يزيد لا تقوى معنا. فقلت. هذا الذي أريده.
فسمعت قائلاً يقول: وَجدتَ، وجدت.
وقيل لأبي يزيد: ما أشد ما لقيتَ في سبيل الله؟ فقال: لا يمكن وصفه.
فقيل له: ما أهون ما لقيَت نفسُك منك؟ فقال: أمَّ هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني، فمتعتها الماءَ سنة.
وقال أبو يزيد: منذ ثلاثين سنة أصلِّي، واعتقادي في نفسي عند كل صلاة أصلها: كأني مجوسي أريد أن أقطع زُنّاري.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت موسى بن عيسى يقول، قال لي أبي: قال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة.
وحكى عميِّ البسطامي عن أبيه أنه قال: ذهب أبو يزيد ليلة إلى الرباط، ليذكر الله، سبحانه، على سور الرباط، فبقي إلى الصباح لم يذكر، فقلت له في ذلك، فقال: تذكَّرتُ كلمة جرت على لساني في حال صباي، فاحتشمت أن أذْكره سبحانه وتعالى.
ومنهم:
أبو محمد التستري
سهل بن عبد الله التستري أحد أئمة القوم، لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع.
وكان صاحب كرامات، لقي ذا النون المصري بمكة سنى خروجه إلى الحج.
تُوفي، كما قيل، سنة: ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: ثلاث وسبعين ومائتين.
وقال سهل: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقولم بالليل، فربما كان يقول لي: يا سهل، إذهب فنمْ فقد شغلتَ قلبي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت أبا الفتح يوسف ابن عمر الزاهر يقول: سمعت عبد الله بن عبد الحميد يقول: سمعت عبيد الله ابن لؤلؤ يقول: سمعت عمر بن واصل البصري يحكي عن سهل بن عبد الله قال: قال لي خالي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال لي: قل بقلبك عند تقلُّبك في ثيابك ثلاث مرات. من غير أن تحرِّك به لسانك: الله معي، الله ناظرٌ إليَّ، الله شاهد عليَّ.
فقلت ذلك ثلاث ليال، ثم أعلمته، فقال لي: قل في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمت، فقال: قل في كل ليلة إحدى عشرةَ مرَّة، فقلت ذلك، فوقع في قلبي له حلاوة.
فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علَّمتك، ودُم عليه إلى أن ندخل القبر، فإِنه ينفعك في الدنيا والآخرة.
فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سرِّي.

ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل، من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهدُه، أيعصيه؟ إيَّاك والمعصيةً.
فكنت أخلو، فبعثوني إلى الكتَّاب، فقلت: إني لأخشى أن يتفرق عليَّ همِّي، ولكن شارطوا المعلِّم: أني أذهب إليه ساعة، فأَتعلّم، ثم أرجع.
فمضيت إلىالكتَّاب، وحفظتُ القرآن، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر، وقوتي خبز الشعير، إلى أن بلغت إثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أهلي أن يبعثوني إلى البصرة أسأل عنها، فجئت البصرة وسألت علماءها فلم يشف أحد منهم عني شيئاً!! فخرجت إلى عبادان، إلى رجل يُعرف بأبي حبيب حمزة بن عبد الله العباداني، فسألته عنها فأجابني. وأقمت عنده مدَّة أنتفع بكلامه وأتأدب بآدابه، ثم رجعت لي تستر فجعلت قوتي اقتصاراً على أن يشتري لي بدرهم من الشعير الفرْق فيطحن ويخبز لي، فأفطر عند السحر كلَّ ليلة على أوقية واحدة بحتاً، بغير ملح ولا إدام فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة.
ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليل، ثم أفطر ليلة، ثم خمساً، ثم سبعاً، ثم خمساً وعشرين ليلة. وكنت عليه عشرين سنة. ثم خرجتُ أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت إبراهيم بن فراس يقول: سمعت نصر بن أحمد يقول: قال سهل ابن عبد الله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء، طاعة كان أو معصية، فهو عيش النفس، وكلُّ فعل يفعله بالاقتداء فهو عذابُّ على النفس.
ومنهم:
أبو سليمان الداراني
عبد الرحمن بن عطية الداراني وداران قرية من قرى دمشق. مات: سنة خمس عشرة ومائتين.
سمعت محمد الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازيّ يقول: أخبرنا إسحق بن إبراهيم بن أبي حسان يقول: سمعت أحمد ابن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: مَن أحسن في نهاره كوفىء في ليله، ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره.ومن صدّق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله تعالى كرم من أن يعذِّب قلباً بشهوة تُركت له.
وبهذا الإسناد قال: إذا سكنت الدنيا القلب ترحَّلت منه الآخرة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين ابن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير، يقول: سمعت الجنيد يقول: قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنَّة.
وقال أبو سليمان: أفضل الأعمال: خلاف هوى النفس.
وقال: لكلِّ شيء عَلَم، وعَلَمُ الخذلان ترك البكاء.
وقال: لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبَعُ البطن.
وقال: كلُّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل، أو مال، أو ولد فهو عليك مشئوم.
وقال أبو سليمان: كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد: فخبَّأت إحدى يدي من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيناي فهتف بي هتف: يا أبا سليمان، وقد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها.
فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان، حرًّا كان الزمن أو برداً.
وقال أبو سليمان: نمت عن وردي، فذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام!! أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو عمرو الجولستي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: دخلت علي أبي سليمان يوماً وهو يبكي. فقلت له ما يبكيك؟ فقال: يا أحمد، ولم لا أبكي، وإذا جنَّ الليل، ونامت العيون، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، وافترض أهل المحبة أقدمهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقّطرت في محاريبهم، وأشرف الجليل؛ سبحانه وتعالى؛ فنادي: من تلذَّذ بكلامي واستراح إلى ذكرى، وإني المطَّلع عليهم في خلواتهم.. أسمع أنينهم.. وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟! هل رأيتم حبيباً يعذِّب أحباءه؟ أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنّهم الليل تملّقوا لي فإني حلفت: أنهم إذا وردوا عليَّ يوم القيامة لأكشف، لهم عن وجهي الكريم، حتى ينظروا إليَّ وأنظر إليهم.
ومنهم:
أبو عبد الرحمن حاتم بن علوان
ويقال حاتم بن يوسف الأصم، من أكابر مشايخ خراسان.
وكان تلميذ شقيق، وأستاذ أحمد بن خضرويه.

قيل: لم يكن أصمَّ، وإنما تصامم مرَّة فسُمّي به.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها في تلك الحالة صوت، فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك. فأَرى من نفسه: أنه أصمُّ، فسرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فغلب عليه اسم الصمم.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: سمعت أبا عليّ سعيد بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت خالي محمد بن الليث يقول: سمعت حامداً اللقاف يقول: سمعت حاتماً الأصمَّ يقول: ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ماذا تأكل؟ وماذا تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له، آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
وبإسناده قيل له: ألا تشتهي؟ فقال: أشتهي عافية يوم إلى الليل.
فقيل له: أليست الأيام كلها عافية؟ فقال: إن عافية يومي، أن لا أعصي الله فيه.
وحكي عن حاتم الأصمَّ، أنه قال: كنت في بعض الغزوات، فأخذني شخص فأضجعني للذبح فلم يشتغل به قلبي، بل كنت أنظر ماذا يحكم الله تعالى فيَّ.
فبينما هو يطلب السكين من حقِّه أصابه سهم غرْب. فقتله، وطرحه عني فقمتً.
سمعت بعد الله بن يوسف الأصبحاني يقول: سمعت أبا نصر منصور ابن محمد بن إبراهيم الفقي يقول: سمعت أبا محمد جعفر بن محمد بن نصير يقول: روي عن حاتم أنه قال: من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موتاً أبيض، وهو الجوع.
وموتاً أسود، وهو: إحتمال الأذى من الخلق.
وموتاً أحمر، وهو: العمل الخالص من الشوْب في مخالفة الهوى.
وموتاً أخضر، وهو: طرح الرقاع بعضها على بعض.
ومنهم:
أبو زكريا الرازي الواعظ
أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ نسيج وحدّه في وقته، له لسان في الرجاء خصوصاً، وكلام في المعرفة. خرج إلى بلخ، وأَقام بها مدَّة.
ورجع إلى نيسابور ومات بها سنة: ثمان وخمسين ومائتين.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن محمد ابن أحمد بن حمدان الكعبري يقول: سمعت أحمد بن محمد بن السرَّي يقول: سمعت أحمد بن عيسى يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: كيف يكون زاهداً من لا وَرع له؟! تورّع عما ليس لك، ثم ازهد فيما لك.
وبهذا الإسناد قال: جوع التوَّابين تجربة، وجوع الزاهدين سياسة، وجوع الصدِّيقين تكرمة.
وقال يحيى: الفوت أشد من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق.
وقال يحيى: الزهد ثلاثة أشياء، القلَّة، والخلوة، والجوع.
وقال يحيى: لا تربح على نفسك بشيء أجلّ من أن تشغلها في كل وقت بما هو أولى بها.
وقيل: إن يحيى بن معاذ تكلم ببلخ في تفضيل الغنى على الفقر، فأعطي ثلاثين ألف درهم، فقال بعض المشايخ: لا بارك الله له في هذ المال فخرج إلى نيسابور، فوقع عليه اللص وأخذ ذلك المال منه.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أبنأنا أبو القاسم عبد الله ابن الحسين بن بالويه الصوفي قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الحسين بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: من خان الله في السرِّ هتك الله ستره في العلانية.
سمعت عبد الله بن يوسف يقول: سمعت أبا الحسين محمد بن عبد العزيز المؤذَّن يقول: سمعت محمد بن محمد الجرجاني يقول: سمعت عليّ بن محمد يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: تزكية الأشرار لك هُجْنة بك، وحبُّهم لك عيب عليك، وهانَ عليك من إحتاج إليك.
ومنهم:
أبو حامد بن خضرويه البلخي
أبو حامد أحمد بن خضرويه البلخي من كبار مشايخ خراسان، صحب أبا تراب التخشبي.
قدم نيسابور، وزار أبا حفص، وخرج إلى بسطام في زيارة أبي يزيد البسطامي وكان كبيراً في الفتوَّة.
وقال أبو حفص: ما رأيت أحداً أكبر همَّة، ولا أصدق حالاً من أحمد بن خضرويه.
وكان أبو يزيد يقول: أستاذنا أحمد.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: كنت جالساً عند أحمد بن خضرويه، وهو في النزع، وكان قد أتي عليه خمس وتسعون سنة.
فسأله بعض أصحابه عن مسألة؛ فدمعت عيناه، وقال: يا بني، بابٌ كنت أدقه منذ خمس وتسعين سنة، وهو ذا يُفتح لي الساعة لا أدري أباب السعادة يُفتح أم بالشقاوت؟ أنَّي لي أوان الجواب؟

قال: وكان عليه سبمعمائة دينار، وغرماؤه عنده، فنظر إليهم. وقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال، وأنت تأخذ عنهم وثيقَتَهم فأدّعنيِّ.
قال: فدّق داقٌّ الباب وقال: أين غرماء أحمد؟ فقضي عنه.
ثم خرجت روحه، ومات، رحمه الله، سنة أربعين ومائتين.
وقال أحمد بن خضرويه: لا نوم أثقل من الغفلة ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة.
ومنهم:
أبو الحسين بن أبي الحواري
أبو الحسين أحمد بن أبي الحواري من أهل دمشق، صحب أبا سليمان الداراني وغيره، مات سنة: ثلاثين ومائتين. وكان الجنيد يقول: أحمد بن أبي الحواري: ريحانة الشام.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا أحمد الحافظ يقول: سمعت سعيد بن عبد العزيز الحلبي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: من نظر إلى الدنيا نظرة إرادة وحبّ لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه. وبهذا الإسناد يقول: من عمل عملا بلا اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباطل عمله.
وبهذا الإسناد قال أحمد بن أبي الحواري: أفضل البكاء: بكاء العبد على ما فاته من أوقاته على غير الموافقةَ.
وقال أحمد: ما ابتلي الله عبداً بشيء أشد من الغفلة والقسوة.
ومنهم:
أبو حفص الحداد
أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد من قرية يقال لها كورداباذ على باب مدينة نيسابور، على طريق بخارى.
كان أحد الأئمة والسادة. مات سنة نيِّف وستين ومائتين.
قال أبو حفص: المعاصي يريد الكفر، كما أن الحمَّى يريد الموت.
وقال أبو حفص: إذا رأيت المريد يحب السماع فأعلم أن فيه بقية من البطالة.
وقال: حُسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن.
وقال: الفتوَّة: أداءالإنصاف، وترك مطالبة الإنصاف.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن موسى يقول: سمعت أبا علي الثقفي يقول: كان أبو حفص، يقول: من لم يزن أفعاله وأَحواله في كل وقت بالكتاب والسنَّة، ولم يتهم خواطره، فلا نعُده في ديوان الرجال.
ومنهم:
أبو تراب النخشبي
أبو تراب عسكر بن حصين النخشبي صاحب حاتماً الأصمَّ، وأبا حاتم العَّار المصري.
مات سنة: خمس وأربعين ومائتين.قيل: مات بالبادية نهسته السباع.
وقال ابن الجلاء: صحبت ستمائة شيخ، مالقيت فيهم مثل أربعة: أوَّلهم: أبو تراب النخشبي.
قال أبو تراب: الفقير قُوتُه: ما وجده، ولباسه: ماستره، ومسكنه: حيث نزل.
وقال أبو تراب: إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فإذا أخلص فيه وجد حلاوته ولذَّته وقت مباشرة الفعل.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدِّي إسماعيل بن نجيد يقول: كان أبو تراب النخشبي إذا رأى من أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده وجدَّد توبته ويقول: بشؤمي دفعوا إلى ما دُفعوا إليه، لأن الله عز وجل يقول: إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغِّيروا ما بأنفسهم قال: وسمعته يقول أيضاً لأصحابه: من لبس منكم مُرَقعة فقد سأل، ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآنِ من مصحف، أو كيما يسمع الناس فقد سأل.
قال: وسمعته يقول: كان أبو تراب يقول: بيني وبين الله عهد أن لا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه.
ونظر أبو تراب يوماً إلى صوفيِّ من تلامذته قد مدَّ يده إلى قشر بطيخ، قد طوى ثلاثة أيام، فقال له أبو تراب: تمد يدك إلى قشر البطيخ؟ أنت لا يصلح لك التصوف، الزم السوق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت أبا عبد الله القارسي يقول: سمعت أبا الحسين الرازي يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنت نفسي عليّ شيئاً قط، إلا مرة واحدة: تمنت عليَّ خبزاً وبيضاً، وأنا في سفري، فعدلت عن الطريق إلى قرية، فوثب رجل وتعلق بي وقال: كان هذا مع اللصوص، فبطحوني وضربوني سبعين خشبة. قال: فوقف علينا رجل صوفي، فصرخ وقال: ويحكم هذا أبو تراب النخشبي، فخلوني واعتذروا إليَّ وأدخلني الرجل منزله، وقدَّم إليَّ خبزاً وبيضاَ، فقلت: كلْها بعد سبعين جلدة.
وحكى ابن الجلاء قال: دخل أبو تراب مكة طيِّب النفس، فقلت: أين أكلت أيُّها الأستاذ؟ فقال: أكلة بالبصرة، وأكلة بالنباج، وأكلة هاهنا.
ومنهم:
أبو محمد عبد الله بن خبيق

من زهَّاد المتصوِّفة، صحب يوسف بن أَسباط.
كان كوفيَّ الأصل. ولكنه سكن أَنطاكية.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت أبا الأزهر الميافارقيني يقول: سمعت فتح بن شخرف يقول: حدثني عبد الله ابن حبيق أول ما لقيته فقال لي: يا خراساني، إنما هي أربع لا غير: عينك، ولسانك، وقلبك، وهواك.. فانظر عينك، لا تنظر بها إلى ما لايحل، وأنظر لسانك، لا تقل به شيئاً يعلم الله تعالى خلافه من قلبك؛ وانظر قلبك، لا يكن فيه غلٌّ ولا حقد على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوي به شيئاً من الشرِّ، فإذا لم يكن فيك هده الأربع من الخصال، فاجعل الرماد على رأسك؛ فقد شقيت.
وقال ابن خُبيق: لا نعتَمّ إلا من شيء يضرك غداً، ولا تفرح إلا بشيء يسرُّك غداً.
وقال ابن خبيق: وحشة العباد عن الحق، أو حشتْ منهم القلوب، ولو أنهم أنسوا بربِّهم لأنس بهم كل أحد.
وقال: أنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكرة في بقية عمرك. وأنفع الرجاء: ما سهَّل عليك العمل.
وقال: طول الاستماع إلى الباطل يطفىء حلاوة الطاعة من القلب.
ومنهم:
أبو علي الأنطاكي
أبو علي أحمد بن عاصم الأنطاكي من أقران بشر بن الحارث، والسريِّ السقطي، والحارث المحاسبيّ.
وكان ابو سليمان الداراني يسميه: جاسوس القلب، لحدة فراسته.
وقال أحمد بن عاصم: إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك.
وقال أحمد بن عاصم: قال الله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ونحن نستزيد من الفتنة.
ومنهم:
أبو السري منصور بن عمار
من أهل مرو، من قرية يقال لها: يرانقان.
وقيل إنه من بوشنج أقام بالبصرة: وكان من الواعظين الأكابر.
وقال منصور بن عمار: من جزع من مصائب الدنيا تحوَّلت مصيبته في دينه.
وقال منصور بن عمار: أحسن لباس العبد: التواضع، والانكسار، وأحسن لباس العارفين: التقوي، قال الله تعالى: " ولباس التقوى ذلك خير " .
وقيل: إن سبب توبته أنه وجد في الطريق رقعة مكتوباً عليها " بسم الله الرحمن الرحيم " ، فرفعها، فلم يجد لها موضعاً فأكلها، فرأى في المنام كأن قائلا قال له: فتح الله عليك باب الحكمة؛ باحترامك لتلك الرقعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا العباس القاصّ يقول: سمعت أبا الحسن الشعراني يقول: رأيت منصور بن عمار في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال قال لي: أنت منصور بن عمار؟ فقلت: بلى يا رب.
قال: أنت الذي كنتّ تزهدِّ الناس في الدنيا وترغب فيها؟ قلت: قد كان ذلك يا رب، ولكني ما اتخذت مجلساً إلا بدأت بالثناء عليك وثنَّيت بالصلاة على نبيك؛ صلى الله عليه وسلم، وثلَّثت بالنصيحة لعبادك.
فقال: صدق، ضعوا له كرسياً، يمجدني في سمائي بين ملائكتي، كما كان يمجِّدني في أرضي بين عبادي.
ومنهم:
أبو صالح القصار
أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصار نيسابوري، منه انتشر مذهب الملامتية بنيسابور صحب سلمان الباروسي، وأبا تراب النخشبي.
مات: سنة إحدى وسبعين ومائتين.
سئل حمدون: متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس؟ فقال: إن تعين عليه أداء فرض من فرائض الله تعالى في علمه، أو خاف هلاك إنسان في بدعة، وهو يرجو أن ينجيه الله تعالى منها.
وقال: من ظن أن نفسه خير من نفس فرعون، فقد أظهر الكبر.
وقال: مذ علمت أن للسلطان فراسة في الأشرار، ما خرج خوف السلطان من قلبي.
وقال: إذا رأيت سكرناً فتمايل؛ لئلا تبغي عليه، فتبتلي بمثل ذلك.
وقال عبد الله بن منازل: قلت لأبي صالح: أوصني.
فقال: " إن استطعت أن لا تغضب لشيء من الدنيا، فافعل " .
ومات صديق له، وهو عند رأسه، فلما مات أطفأ حمدون السراج. فقالوا له: في مثل هذا الوقت يزاد في السراج الدهنُ.
فقال لهم: إلى هذا الوقت كان الدهن له ومن هذا الوقت صار الجهن للورثة.
وقال حمدون: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درك درجات الرجال.
وقال: لا تفش على أحد ما تحب أن يكون مستوراً منك.
ومنهم:
أبو القاسم الجنيد بن محمد
سيد هذه الطائفة وإمامهم.
أصله من نهاوند. ومنشؤه بالعراق. وأبوه كان يبيع الزجاج؛ فلذلك يقال له: القواريري.

وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور وكان يفتي في حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة. صحب خاله السري، والحارث المحاسبي ومحمد بن علي القصاب.
مات سنة: سبع وتسعين ومائتين.
سمعت محمد بن الحسين؛ رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول: سمعت الفراغاني يقول: سمعت الجنيد؛ وقد سئل: من العارف؟ قال: من نطق عن سرَّك وأنت ساكت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع؛ وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة وقال: أهل المعرفة بالله: يصلون إلى ترك الحركات من باب البرِّ والتقربُّ إلى الله عزَّ وجلَّ.
فقال الجنيدِّ: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيتُ ألف عام لم أنقص من أعمال البرِّ ذرَّة إلا أن يحال بي دونها.
وقال الجنيد: إن أمكنك أن لا تكون آلة بينك إلا خزفاً، فأفعل.
وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من أقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا عمر الأنماطي يقول سمعت الجنيد يقول: لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة، كان ما فاته أكثر مما ناله.
وقال الجنيد: من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيَّد بالكتاب والسنَّة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول عن الجنيد: مذهبنا هذا: مقيَّد بأصول الكتاب والسنَّة.
وقال الجنيد: علمنا هذا مشيّد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنبأنا محمد بن الحسين رحمه الله، قال: سمعت أبا الحسين بن فارس يقول: سمعت أبا الحسين علي بن إبراهيم الحداد يقول: حضرت مجلس القاضي أبي العباس بن شريح، فتكلَّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه، فلما رأي إعجابي قال: أتدري من أين هذا؟ قلت: يقول به القاضي.
فقال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد.
وقيل للجنيد: من أين استفدت هذا العلم؟ فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة. وأومأ إلى درجة في داره.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يحكي ذلك، وسمعته يقول: رؤى في يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟! فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه.
سمعت الآستاذ أبا عليّ، رحمه الله يقول: كان الجني يدخل كل يوم حانوته، ويسبل الستر، ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته.
وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فرأيته ختم القرآن.. ثم ابتدأ من البقرة. وقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله.
ومنهم:
أبو عثمان الجبري
أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الجبري المقيم بنيسابور. وكان من الري صحب شاه الكرماني، ويحيى ابن معاذ الرازي ثم ورد نيسابور، مع شاه الكرماني؛ على أبي حفص الحداد وأقام عنده، وتخرَّج به، وزوجه أبو حفص ابنته.
مات سنة ثمان وتسعين ومائتين، وعاش بعد أبي حفص نيفا وثلاثين سنة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عمر بن حمدان يقول: سمعت أبا عثمان يقول: لا يكمل إيمان الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء: المنع، والإعطاء، والعزّ، والذلُّ.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول: سمعت بعض أصحاب أبي عثمان قول: سمعت أبا عثمان، يقول: صحبت أبا حفص مدَّة، وأنا شاب، فطردني مرَّة، وقال: لا تجلس عندي.
فقمت، ولم أوَله ظهري، وانصرفت إلى ورائي، ووجهي إلى وجهه.. حتى غبت عن عينيه، وجعلت على نفسي: أن أحفر على بابه حفرة لا أخرج منها إلا بأمره.
فلما رأي ذلك أدناني، وجعلني من خواصِّ أصحابه.

قال: وكان يقول في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان: بِنيسَابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلاء بالشام.
وقال أبو عثمان: منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخته.
سمعت الشيخ أبا الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت عبد الله ابن محمد الشعراني يقول: سمعت أبا عثمان يقول ذلك.
ولما تغيَّر على أبي عثمان الحال مزّق ابنه أبو بكر قميصاً على نفسه، ففتح أبو عثمان عينيه وقال: خلاف السُّنة يا بني في الظاهر، علامة رياء في الباطن.
سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت محمد بن أحمد الملامتي يقول: سمعت أبا الحسين الوَّراق يقول: سمعت أبا عثمان يقول: الصحبة مع الله: بحسن الأدب؛ ودوام الهيبة، والمراقبة.
والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باتِّباع سنَّته، ولزوم ظاهر العلم.
والصحبة مع أولياء الله تعالى بالاحترام والخدمة.
والصحبة مع الأهل: بحسن الخلق.
والصحبة مع الأخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما.
والصحبة مع الجهَّال: بالدعاء لهم والرحمة عليهم.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني رحمه الله يقول: سمعت أبا عمرو بن نجيد يقول: سمعت أبا عثمان يقول: من أمَّر السنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوي على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة، قال الله تعالى: ون تطيعوه تهتدوا.
ومنهم:
أبو الحسين النوري
أبو الحسين أحمد بن محمد النوري بغدادي المولد والمنشأ، بغوي الأصل.
صحب السريَّ السقطي، وابن أبي الحواري. وكان من أقران الجنيد رحمه الله.
مات سنة: خمس وتسعين ومائتين. وكان كبير الشأن، حسن المعاملة واللسان.
قال النوري، رحمه الله: التصوُّف: ترك كل حظ للنفس.
وقال النوري: أعزُ الأشياء في زماننا شيئان: عالم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة.
سمعت أبا عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن محمد البرذعي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت النوري يقول: من رأيته يدَّعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربنَّ منه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت الفرغاتي يقول: سمعت الجنيد يقول: منذ مات النوري لم يخْبِر عن حقيقة الصدق أحد.
وقال أبو أحمد المغازلي: مارأيت أعبد من النوري، قيل: ولا الجنيد. قال: ولا الجنيد.
وقال النوري: كانت المواقع غطاءً على الدرِّ، فصارت اليوم مزابل على جيّف.
وقيل: كان يخرج كلَّ يوم من داره، ويحمل الخبز معه. ثم يتصدَّق به في الطريق، ويدخل مسجداً يصِّلي فيه إلى قريب من الظهر؛ ثم يخرج منه ويفتح باب حانوته، ويصوم.
فكان أهله يتوهَّمون أنه يأكل في السوق، وأهل السوق يتوهَّمون أنه يأكل في بيته.
وبقي على هذا في ابتدائه عشرين سنة.
ومنهم:
أبو عبد الله الجلاء
أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء بغداديُّ الأصل، أقام بالرملة ودمشق. من أكابر مشايخ الشام.
صحب أبا تراب، وذا النون، وأبا عبيد اليُسري؛ وأباه يحيى الجلاَّء.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد العزيز الطبري يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي، يقول: سمعت ابن الجلاَّء يقول: قلت لأبي وأمي: أحبُّ أن تهباني لله عزَّ وجل. فقالا: قد وهبناك لله عز وجلَّ.
فغبت عنهما مدَّة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة، فدققت الباب، فقال لي أبي: من ذا؟ قلت: ولدك أحمد.
فقال: كان لنا ولد، فوهبناه لله تعالى، ونحن من العرب لا نسترجع ما وهبناه. ولم يفتح لي الباب.
وقال ابن الجلاَّء: من استوى عنده المدح والذم، فهو زاهد. ومن حافظ على الفرائض في أول موافيتها فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله، فهو مُوحِّد لا يرى إلا وَاحداً.
ولما مات ابن الجلاَّء نظروا إليه، وهو يضحك: فقال الطبيب: إنه حي.
ثم نظر إلى مجسَّته فقال: إنه ميت. ثم كشف عن وجهه، فقال: لا أدري أهو ميت أم حي!! وكان في داخل جلده عِرق على شكل الله.
وقال ابن الجلاَّء، رحمه الله، كنت أمشي مع أستاذي، فرأيت حدثاً جميلاً فقلت: يا أستاذي، تُرى يعذِّب الله هذه الصورة؟ فقال: أوَ نظرت إليهّّ سترى غبَّه.
قال: فنسيت القرآن بعده بعشرين سنة.
ومنهم:

أبو محمد رويم بن أحمد
بغداديُّ، من أجلَّة المشايخ. مات: سنة ثلاثة وثمانمائة.
وكان مقرئاً، وفقيها على مذهب داود.
قال رويم: من حِكم الحكيم، أن يوسِّع على إخوانه في الأحكام، ويضيِّق على نفسه فيها، فإن للتوسعة عليهم اتباع العلم، والتضييق على نفسه من حكم الورع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الواحد ابن بكر يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: سألت رويما، فقلت: أوصني.
فقال: ما هذا الأمر، إلا ببذل الروح، فإن أمكنك الدخول فيه مع هذا، وإلا فلا تشتغل بترَّهات الصوفية.
وقال رويم: قعودك مع كل طبقة من الناس أسلم من قعودك مع الصوفية، فإن كل الخَلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وطالب هؤلاء أنفسَهم بحقيقة الورع، ومداومة الصدق، فمن قعد معهم وخالفهم في شيء مما يتحققون به نزع الله نورَ الإيمان من قلبه.
وقال رويم: اجتزت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك، وأنا عطشان، فاستقيت من دار، ففتحت صبيَّة بابها، ومعها كوز، فلما رأتني قالت: صوفيُّ يشرب بالنهار!! فما أفطرتُ بعد ذلك اليوم قط.
وقال رويم: إذا رزقك الله المقال، والفعال، فأخذ منك المقال وأبقى عليك الفعال فإنها نعمة، وإذا أخذ منك الفعال، وأبقى عليك المقال، فإنها مصيبة، وإذا أخذ منك كليهما فهي نقمة وعقوبة.
ومنهم:
أبو عبد الله البلخي
أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ساكن سمرقند: بلخي الأصل، أخرج منها، فدخل سمرقند، ومات بها.
وصحب أحمد بن خَضْرويه، وغيره، وكان أبو عثمان الحيري يميل إليه جداً. مات سنة: تسع عشرة وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد ابن محمد القرَّاء، يقول: سمعت أبا بكر بن عثمان يقول: كتب أبو عثمان الحيري إلى محمد بن الفضل يسأله: ما علامة الشقاوة؟ فقال: ثلاثة أشياء: يُرزق العلم ويحرم العمل، ويرزق العمل ويحرم الإخلاص، ويرزق صحبة الصالحين ولا يحترمُ لهم.
وكان أبو عثمان الحيري يقول: محمد بن الفضل سمسار الرجال.
سمعت محمد الحسين يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محمد ابن الفضل يقول: الراحة في السِّجن من أماني النفوس.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون مالا يعلمون، ويمنعون الناس من التعلم.
وبهذا الإسناد، قال: العجب ممن يقطع المفاوز ليصل إلى بيته، فيرى آثار النبوة، كيف لا يقطع نفسه وهواه، ليصل إلى قلبه فيرى آثار رِّبه عزَّ وجلّ؟ وقال: إذا رأيت المريد يستزيد من الدنيا، فذلك من علامات إدباره.
وسئل عن الزهد، فقال: النظر إلى الدنيا بعين النقص والإعراض عنها تعزُّزاً، وتظرفاً، وتشرفاً.
ومنهم:
أبو بكر الزقاق الكبير
أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق الكبير كان من أقران الجنيد. من أكابر مصر.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد يقول: سمعت الكتاني يقول: لما مات الزَّقاق انقطعت حُجَّةِ الفقراء في دخولهم مصر.
وقال الزقاق: من لم يصحبه التقّي في فقر أكل الحرام المحض.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن عبد الله بن عبد العزيز يقول: سمعت الزقَّاق يقول: تهت في تيه بني إسرائيل مقدار خمسة عشر يوماً، فلما وقعتُ على الطريق استقبلني إنسان جندي، فسقاني شربة من ماء، فعادت قسوتها على قلبي ثلاثين سنة.
ومنهم:
أبو عبد الله المكي
أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي لقي أبا عبد الله النباجي، وصحب أبا سعيد الخرَّاز وغيره.
شيخ القوم، وإمام الطائفة في الأصول والطريقة.
مات ببغداد سنة: إحدى وتسعين ومائتين.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله ابن شاذان، يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول: سمعت عمرو ابن عثمان المكي يقول:

كل ما توهمه قلبك، أو رسخ في مجاري فكرتك، أو خطر في معارضات قلبك من حسن، أو بهاء، أو أنس، أو جمال، أو ضياء، أو شبح، أو نور، أو شخص، أو خيال، فالله تعالى بعيد من ذلك، ألا تسمع إلى قوله تعالى: " ليس كمثله شيء؛ وهو السميع البصير " وقال: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " .
وبهذا الإسناد قال: العلم قائد، والخوف سائق، والنفس حَرون بين ذلك، جَموح، خدَّاعة، مراوغة، فأحذرها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد.
وقال: لا تقع على الواجد عبارة، لأنه سر الله عند المؤمنين.
ومنهم:
سمنون بن حمزة
وكنيته: أبو الحسن، ويقال: أبو القاسم.
صحب السرَّي، وأبا أحمد القلانسي، ومحمد بن علي القصَّار؛ وغيرهم. قيل إنه أنشد:
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
فأخذه الأَسر من ساعته فكان يدور على المكاتب، ويقول: ادعوا لعمِّكم الكذَّاب.
وقيل: إنه أنشد هذه الأبيات، فقال بعض أصحابه لبعض: سمعت البارحة، وكنت في الرُستاق صوت أستاذنا سمنون يدعو الله، ويتضَرَّع إليه، ويسأله الشفاء.
فقال آخر: وأنا أيضاً، كنت سمعت هذا البارحة، وكنت بالموضع الفلاني.
فقال ثالث، ورابع، مثل هذا، فأخبر سمنون، وكان قد امتُحن بعلّة الأسر، وكان يصبر ولا يجزع، فلما سمعهم يقولون هذا؛ ولم يكن هو دعا؛ ولا نطق بشيء من ذلك، علم أن المقصود منه إظهار الجزع تأدُّباً بالعبودية، وستراً لحاله، فأخذ يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمَّكم الكذَّاب.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس محمد ابن الحسن البغدادي يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: قال لي أبو أحمد المغازلي.
كان ببغداد رجل فرق على الفقراء أربعين ألف درهم، فقال لي سمنون: يا أبا أحمد، ألا ترى ما قد أنفق هذا، وما قد عمله؟ ونحن ما نجد شيئاً!! فامض بنا إلى موضع نصلِّ فيه بكل درهم أنفقه ركعة.
فمضينا إلى المدائن، فصلّينا أربعين ألف صلاة.
وكان سمنون ظريف الخلُق، أكثر كلامه في المحبَّة. وكان كبير الشأن مات قبل الجنيد، كما قيل.
ومنهم:
أبو عبيد البسري
من قدماء المشايخ صحب أبا تراب النخشَبي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن عليٍّ يقول: سمعت الدُّقي يقول: سمعت ابن الجلاَّء يقول: لقيت ستمائة شيخ فما رأيت مثل أربعة: ذي النون المصري، وأبي، وأبي تراب، وأبي عبيد البُسري.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن محمد البَغوي يقول: سمعت محمد بن معمر يقول: سمعت أبا زرعة الحسني يقول: كان أبو عبيد البسري يوماً على جرجر يدرس قمحاً له. وبينه وبين الحج ثلاثة أيام؛ إذ أتاه رجلان، فقالا: يا أبا عبيد، تنشط للحج؟ فقال: لا.
ثم إلتفت إليّ وقال: شيخك على هذا أقدر منهما. يعني نفسه.
ومنهم:
أبو الفوارس الكرماني
أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني كان من أولاد الملوك.
صحب أبا تراب النَخْشَبيّ، وأبا عُبيد البُسْري، وأولئك الطبقة.
وكان أحد الفتيان كبير الشأن، مات قبل الثلاثمائة.
وقال شاه: علامة التقوى الورع، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات.
وكان يقول لأصحابه: اجتنبوا الكذب، والخيانة، والغيبة، ثم اصنعوا ما بدالكم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت جدِّي ابن نجيد يقول: قال شاه الكرماني: من غَضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتِّباع السنة، وعوّد نفسه أكل الحلال لم تخطىء له فراسة.
ومنهم:
يوسف بن الحسين
شيخ الرَيِّ والجبال في وقته.
وكان نسيج وحَده في إسقاط التصنُّع.
وكان عالما أديباً، صحب ذا النون المصري، وأبا تراب النخشبي، ورافق أبا سعيد الخرَّاز مات سنة: أربع وثلاثمائة.
قال يوسف بن الحسين: لأن ألقي الله تعالى بجميع المعاصي أحبُّ إلى من أن ألقاه بذرَّةٍ من التصنّع.
وقال يوسف بن الحسين: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص، فاعلم أنه لا يجيء منه شيء.
وكتب إلى الجنيد: لا أذانك لله طعم نفسك فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً.
وقال يوسف بن الحسين: رأيت آفات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ورِفق النسوان.
ومنهم:

أبو عبد الله الترمذي
أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي من كبار الشيوخ، وله تصانيف في علوم القوم.
صحب أبا تراب النَّخشبي، وأحمد بن خضرويه؛ وابن الجلاّء، وغيرهم.
سئل محمد بن عليَّ: عن صفة الخَلْق، فقال: ضعف ظاهر، ودعوى عريضة.
وقال محمد بن عليٍّ: ما صَّنفت حرفاً عن تدبير، ولا لينسب إلىَّ شيء منه ولكن كان إذا اشتّد عليَّ وقتي أتسلى به.
ومنهم:
أبو بكر الوراق الترمذي
أبو بكر محمد بن عمر الوراق الترمذي أقام ببلخ.
وصحب أحمد بن خضرويه، وغيره، وله تصانيف في الرياضيات سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن محمد البلخي يقول: سمعت أبا بكر الورَّاق يقول: من أرضي الجوارح بالشهوات غرس في قلبه شجر الندامات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت أبا بكر البلخي يقول: سمعت أبا بكر الورّاق يقول: لو قيل للطمع من أبوك؟ قال: الشك في المقدور.
ولو قيل: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذلِّ.
ولو قيل: ما غايتك؟ قال: الحرمان.
وكان أبو بكر الورّاق يمنع أصحابه عن الأسفار والسياحات ويقول: مفتاح كل بركة الصبر في موضع إرادتك إلى أن تصحَّ لك الإرادة، فإن صَحت لك الإرادة، فقد ظهرت عليك أوائل البركة.
ومنهم:
أبو سعيد الخراز
أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز من أهل بغداد.
صاحب ذا النون المصري، والنباجي، وأبا عبيد البسريَّ، والسري، وبشراً، وغيرهم.. مات سنة: سبع وسبعين ومائتين.
قال أبو سعيد الخرّاز: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا العباس الصياد يقول: سمعت أبا سعيد الخرّاز يقول: رأيت إبليس في النوم، وهو يمرّ عني ناحية، فقلت له: تعال، مالك؟ فقال: إيش أعمل بكم، وأنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس!! فقلت: وما هو؟ قال: الدنيا.
فلما ولى عني، التفت إليّ، وقال: غير أن لي فيكم لطيفة.
فقلت: وما هي؟ قال: صحبة الأحداث.
وقال أبو سعيد الخرَّاز: صحبت الصوفية ما صحبت، فما وقع بيني وبينهم خلاف.
قالوا: لِمَ؟ قال: لأني كنت معهم على نفسي.
ومنهم:
أبو عبد الله المغربي
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي أستاذ إبراهيم بن شيبان، وتلميذ عليّ بن رزين.
عاش مائة وعشرين سنة. ومات سنة: تسع وتسعين ومائتين.
كان عجيب الشأن، لم يأكل مما وصلت إليه يد بني آدم سنين كثيرة، وكان يتناول من أصول الحشيش أشياء تعوّد أكلها.
وقال أبو عبد الله المغربي: أفضل الأعمال عمارة الأوقات بالموافقات.
وقال: أعظم الناس ذلا فقير داهن غنياً، أو تواضع له. وأعظم الخلق عزا غنيّ نذلل للفقراء، وحفظ حرمتهم.
ومنهم:
أبو الحسن الأصبهاني
أبو الحسن علي بن سهل الأصبهاني من أقران الجنيد.
قصده عمرو بن عثمان المكيِّ في ديْن ركبه، فقضاه عنه، وهو ثلاثون ألف درهم.
لقي أبا تراب النخشبي والطبقة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن عبد الله الطبري يقول: سمعت عليَّ بن سهل يقول: المبادرة إلى الطاعة من علامة التوفيق..
والتقاعد عن المخالفات من علامات التيقظ..
وإظهار الدعاوي من رعونات البشري. ومن لم تصح مبادىء إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه.
ومنهم:
أبو محمد الجريري
أبو محمد بن محمد بن الحسين الجريري من كبار أصحاب الجنيد. وصحب سهل بن عبد الله. أُقعد بعد الجنيد في مكانه وكان عالماً بعلوم هذه الطائفة. كبير الحال. مات سنة: إحدى عشرة وثلاثمائة.
سمعت أبا عبد الل الشيرازي، يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول: مات الجريري سنه الهبير، فجزت به بعد سنة، فذا هو مستند جالس وركبته إلى صدره، وهومشير إلى الله بأصبعه.
من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات، محصوراً في سجن الهوى، وحرّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذُّ بكلام الحق تعالى؛ ولا يستحيله ون كثر ترداده على لسانه؛ لقوله تعالى: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض بغير الحق " .
وقال الحريري:

رؤية الأصول باستعمال الفروع، وتصحيح الفروع بمعارضة الأصول، ولا سبيل إلى مقام مشاهدة الأصول إلا بتعظيم ما عظَّم الله من الوسائط والفروع.
ومنهم:
أبو العباس بن عطاء الآدمي
أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم، كان الخرّاز يعظِّم شأنه.وهو من أقران الجنيد، وصحب إبراهيم المارستاني. مات سنة: تسع وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا سعيد القرشي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: من ألزم نفسه آداب الشريعة نوَّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، في أوامره؛ وأفعاله، وأخلاقه.
وقال ابن عطاء: أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربِّه عز وجلّ، وغفلته عن أوامره ونواهيه، وغفلته عن آداب معاملته.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الرحمن ابن أحمد الصوفيَّ يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: كل ما سئلتَ عنه فاطلبه في مفازة العِلم، فإن لم تجده، ففي ميدان الحكمة، فإن لم تجده فزِنه بالتوحيد، فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان.
ومنهم:
أبو إسحق الخواص
أبو إسحق إبراهيم بن أحمد الخواص من أقران الجنيد والنُّوري، وله في التوكل والرياضات حظُّ كبير.
مات بالري سنة: إحدى وتسعين ومائتين.
كان مبطوناً؛ فكان كلما قام توضأ، وعاد إلى المسجد، وصلى ركعتين، فدخل مرَّة الماء فمات. رحمه الله.
سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الخوّاص يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، نما العالم من أتَّبع العلم واستعمله؛ واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي ابن جعفر يقول: سمعت الأزديَّ يقول: سمعت الخوّاص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل؛ والتضرع عند السَحر، ومجالسة الصالحين.
ومنهم:
أبو محمد الخراز
أبو محمد عبد الله بن محمد الخراز من أهل الريِّ. جاور بمكة.
صحب أبا حفص، وأبا عمران الكبير.
وكان من المتورعين. مات قبل العشرة والثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت أبا نصر الطوسي يقول: سمعت الدقي يقول: دخلت على عبد الله الخرَّاز، ولي أربعة أيام لم آكل، فقال: يجوع أحدكم أربعة أيام فيصبح ينادي عليه الجوع.
ثم قال: إيش يكون لو أن كلَّ نفس منفوسة تلفت فيم تؤمِّله عند الله ترى يكون ذلك كثيراً.
وقال أبو محمد عبد الله الخرَّاز: الجوع طعام الزاهين، والذكر طعام العارفين.
ومنهم:
أبو الحسن الحمال
أبو الحسن بنان بن محمد الحمال واسطي الأصل.
أقام بمصر، ومات بها سنة: ست عشرة وثلاثمائة.
كبير الشأن، صاحب الكرامات.
سئل بُنان عن أجلِّ أحوال الصوفية، فقال: الثقة بالمضمون؛ والقيام بالأوامر، ومراعاة السر، والتخلي من الكوفيين.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسن بن أحمد الرازي، يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: ألقي بنان الحمال بين يدي السبع، فجعل السبع يشمه ولا يضره.
فلما أخرج، قيل: ما الذي كان في قلبك حيث شمَّك السبع؟ قالوا: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السبع.
ومنهم:
أبو حمزة البغدادي البزاز
مات قبل الجنيد، وكان من أقرانه. صحب السريَّ، والحسن المسوحي.
وكان عالماً بالقراءات، فقيهاً.
وكان من أولاد عيسى بن أبان، وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل.
ما تقول فيها يا صوفي؟ قيل: كان يتكلم في مجلسه يوم جمعة فتغير عليه الحل، فسقط عن كرسيه: ومات في الجمعة التالية.
وقيل: مات سنة تسع وثمانين مائتين.
قال أبو حمزة: من علم طريق الحق تعالى سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله تعالى إلا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله، وأفعاله وأقواله.
وقال أبو حمزة: من رُزق ثلاثة أشياء، فقد نجا من الآفات: بطن خال من قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه ذكر دائم.
ومنهم:
أبو بكر الواسطي
أبو بكر محمد بن موسى الواسطي خراسني الأصل. من فرغانة. صحب الجنيد والنوري.

عالم كبير الشأن. أقام بمرو، ومات بها بعد العشرين والثلاثمائة.
قال الواسطي: الخوف والرجاء زمامان يمنعان العبد من سوء الأدب.
وقال: الواسطي: إذا أراد الله هوان عبد القاه لى الأنتان والجيف، يريد به صحة الأحداث.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن عبد العزيز المروزي، يقول: سمعت الواسطي يقول: جعلوا سوء أدبهم إخلاصاً، وشره نفوسهم انبساطاً؛ ودناءة الهمم جلادة، فعموا عن الطريق، وسلكوا فيه المضيق، فلا حياة تنموا في شواهدهم، ولا عبادة تزكوا في محاضرتهم، إن نطقوا فبالغصب وإن خاطبوا فبالكبر، وثب أنفسهم ينبىء عن خبث ضمائرهم، وشرهم في المأكول يظهر ما في سويداء أسرارهم. قاتلهم الله أنى يؤفكون.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله، يقول: سمع بعض المراوزة إنساناً صيدلانياً، يقول: اجتاز الواسطيُّ يوم جمعة بباب حانوتي، قاصداً إلى الجامع. فانقطع شسع نعله، فقلت: أيها الشيخ، أتأذن لي أن أصلح نعلك؟ فقال: أصلح.
فأصلحت شسعه، فقال: أتدري لم أنقطع شسع نعلي؟ فقلت: حتى تقول.
قال: لأني ما اغتسلت للجمعة!! فقلت له: ياسيدي، هاهنا حمام تدخله؟ فقال: نعم. فأدخلته الحمَّام فاغتسل.
ومنهم:
أبو الحسن بن الصائغ
واسمه: علي بن محمد بن سهل الدَّينوري.
أقام بمصر، ومت به، وكان من كبار المشايخ.
قال أبو عثمان المغربي: ما رأيت من المشايخ أنور من أبي يعقوب النهرجوري، ولا أكثر هيبة من أبي الحسن بن الصائغ.
مات سنة: ثلاثين وثلاثمائة سئل ابن الصائغ عن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقال: كيف يستدل بصفات من له مثل ونظير على من لا مثل له ولا نظير؟! وسئل عن صفة المريد، فقال: ما قال الله عز وجل: " وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم " الآية.
وقال: الأحوال كالبروق، فإذا ثبتت فهو حديث النفس وملازمة الطبع.
ومنهم:
أبو إسحق الرقي
أبو إسحق إبراهيم بن داود الرقي من كبار مشايخ الشّام.
من أقران الجنيد، وابن الجلاَّء.
وقد عمر، وعاش إلى سنة: ست وعشرين وثلاثمائة.
وقال إبراهيم الرقي: المعرفة: إثبت الحق على ما هو، خارجا عن كل ما هو موهوم.
وقال: القدرة ظاهرة، والأعين مفتوحة. ولكن أنوار البصائر قد ضعفت.
وقال: أضعفَ الخلق: من ضعف عن ردّ شهواته، وأقوى الخلق: من قوي على ردِّها.
وقال: علامة محبة الله: إيثار طاعته، ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم:
ممشاد الدينوري
من كبار مشايخهم. مات سنة: تسع وتسعين ومائتين.
قال ممشاد.
أدب المريد في التزام حُرمات المشايخ، وخدمة الإخوان، والخروج عن الأسباب، وحفظ آداب الشرع على نفسه.
وقال ممشاد: ما دخلت قط على أحد من شيوخي، إلا وأنا خال من جميع مالي أنتظر بركات ما يَرد عليّ من رؤيته وكلامه، فإن من دخل على شيخ بحظه انقطع عن بركات رؤيته ومجالسته، وكلامه.
ومنهم: خير النساج صحب أبا حمزة البغداديَّ، ولقي السري، وكان من أقران أبي الحسن النوري إلا أنه عمرَّ عمراً طويلاً. وعاش، كما قيل، مائة وعشرين سنة.
وتاب في مجلسه: الشبلي، والخوَّاص. وكان أستاذ الجماعة.
وقيل: كان اسمه محمد بن إسماعيل، من سامرة، وإنما سُمي خير النسْاج، لأنه خرج إلى الحج، فأخذ رجل على باب الكوفة وقال: أنت عبدي، واسمك خير.
وكان أسود - فلم يخالفه. واستعمله الرجل في نسج الخز، فكان يقول له: يا خير فيقول: لبَّيك.
ثم قال له الرجل بعد سنين: غلطت، لا أنت عبدي ولا أسمك خير فمضى وتركه، وقال: لا أغيرِّ اسماً صماني به رجل مسلم.
وقال: الخوف سوط الله يقوّم به أنفساً قد تعودت سوء الأدب.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الحسن القزويني يقول: سمعت أبا الحسين المالكي، يقول: سألت من حضرَ موت خير النساج عن أمره؟ فقال: لما حضرت صلاةُ المغرب غشى عليه، ثم فتح عينيه، وأومأ في ناحية البيت وقال: قف، عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبدٌ مأمور.
وما أُمرت به لا يفوتك وما أمرت به يفوتني.
ودعا بماء فتوضأ للصلاة، ثم تمدّد. وغمض عينيه، وتشهَّد، ومات فرؤى في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟

فقال لسائله: لا تسألني عن هذا، ولكن استرحت من دنياكم الوضرة!!
ومنهم:
أبو حمزة الخراساني
بنيسابور، أصله من محَّلة ملقاباذ. من أقران الجنيد، والخرَّاز وأبي تراب النخشبي. وكان ورعاً، ديِّناً.
قال أبو حمزة: من استشعر ذكر الموت حبب الله إليه كل باق، وبغّض إليه كل فان: وقال: العارف بالله يدافع عيشَه يوماً بيوم، ويأخذ عيشه يوما ليوم.
وقال له رجل: أوصني.
فقال: هيىء زادك للسفر الذي بين يديك.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الطيب العكي يقول: سمعت أبا الحسن المصري يقول: سمعت أبا حمزة الخراساني، يقول: كنت قد بقيت محرماً في عباء، أسافر كل سنة ألف فرسخ تطلع الشمس علي وتغرب، كلما حللت أحرمت.
توفي سنة: تسعين ومائتين.
ومنهم:
أبو بكر بن جحدر الشبلي
بغداديُّ المولد والمنشأ. واصله من أُسرٌ وشنْة.
صحب الجنيد ومن في عصره، وكان شيخ وقته: حالاً، وظرفاً، وعلماً.
مالكي المذهب. عاش سبعاً وثمانين سنة، ومات سنة: أربع وثلاثين وثلاثمائة. وقبره ببغداد.
ولما تاب الشبلي في مجلس خير النسَّاج أتى دماوند، وقال: كنت وإلى بلدكم، فاجعلوني في حل.
وكانت مجاهداته في بدايته فوق الحدّ.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق؛ رحمه الله، يقول: بلغني أنه اكتحل بكذا. وكذا.. ومن الملح؛ ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم ولو لم يكن من تعظيمه للشرع إلا ما حكاه بكران الدينوري في آخر عمره لكان كثيراً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: كان الشبلي، رحمه الله، يقول في آخر أيامه:
وكم من موضع لو مت فيه ... لكنت به نكالا في العشيرة
وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد فوق جدّ من عاصره، ويقول: هذا شهر عظمه ربي، فأنا أوَّل من يعظِّمه.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ يحكي ذلك عنه.
ومنهم:
أبو محمد المرتعش
أبو محمد عبد الله بن محمد المرتعش نيسابوري، من محَّلة الحيرة. وقيل: من ملقاباذ.
صحب أبا حفص، وأبا عثمان، ولقي الجنيد، وكان كبير الشأن.
وكان يقيم في مسجد الشُّونزيّه. مات ببغداد سنة: سمان وعشرين وثلاثمائة.
قال المرتعش: الإرادة: حبس النفس عن مراداتها، والإقبال على أوامر الله تعالى، والرضا بموارد القضاء عليه.
وقيل له: إن فلاناً يمشي على الماء.
فقال: عندي أنَّ من مكَّنه الله تعالى من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي في الهواء.
ومنهم:
أبو علي الروذباري
أبو علي أحمد بن محمد الروذباري بغداديُّ، أقام بمصر. ومات بها سنة: اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
صحب الجنيد، والنوري، وابن الجلاء، والطبقة.
أظرف المشايخ وأعلمهم بالطريقة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال، لأني وصلت إلى درجة لا تؤثِّر في اختلاف الأحوال.
فقال: نعم، قد وصل، ولكن إلى سقر!! وسئل عن التصوف، فقال: هذا مذهب كله جدُّ، فلا تخلطوه بشيء من الهزل.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: من علامة الاغترار أن تسيء فيحسن الله إليك، فتترك الأنابة والتوبة، وهما أنك تسامَح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك..
وقال: كان أستاذي في التصُّوف: الجنيد. وفي الفقه: أبو العباس ابن شريح، وفي الأدب: ثعلب، وفي الحديث: إبراهيم الحربي.
ومنهم:
أبو محمد عبد الله بن منازل
شيخ الملامتية، وأوحد وقته. صحب حمدون القصّار.
وكان عالماً وكتب الحديث الكثير.
مات بنيسابور سنة: تسع وعشرين، أو ثلاثين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: لم يضيّع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله تعالى بتضييع السنن، لم يْبلَ أحد بتصنيع السنن إلا وشك أن يبتلي بالبدع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت أبا أحمد بن عيسى يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: أفضل أوقاتك: وقت تسلم فيه من هواجس نفسك، ووقت تسلم فيه من سوء ظنِّك.
ومنهم:
أبو علي الثقفي

أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي إمام الوقت. صحب أبا حفص، وحمدون القصَّار.
وبه ظهر التصُّوف بنيسابور: مات سنة: ثمان وعشرين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا علي الثقفي يقول: لو أني رجلاً جمع العلوم كلها، وصحب طوائف الناس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة: من شيخ، أو إمام، أو مؤدِّب ناصح. ومن لم يأخذ أدبه من أستاذ يريَه عيوب أعماله، ورعونات نفسه، لايجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات.
وقال أبو علي رحمه الله: يأتي على هذه الأمة زمان لا تطيب المعيشة فيه المؤمن إلا بعد إستناده إلى منافق.
وقال: أف من أشال الدنيا إذا أقبلت، وأف من حسراتها إذا أدبرت، والعاقل من لا يركن إلى شيء إذا أقبل كان شغلاً، وإذا أدبر كان حسرة.
ومنهم:
أبو الخير الأقطع
مغربيُّ الأصل، سكن تينَات.
وله كرامات، وفراسة حادَّة.
كان كبير الشأن، مات سنة: نيف وأربعين وثلاثمائة.
قال أبو الخير: ما بَلغ أحد إلى حالة شريفة إلاَّ بملازمة الموافقة، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين.
ومنهم:
أبو بكر الكتاني
أبو بكر محمد بن علي الكتاني بغدادي الأصل.
صحب الجنيد، والخراز، والنوري.
وجاور بمكة إلى أن مات سنة: اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: نظر الكتَّاني إلى شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل الناس، فقال: هذا رجل أضاع حق الله في صِغره، فضيعَّه الله في كبره.
وقال الكتَّاني الشهوة زمام الشيطان، فمن أخذ بزمامه كان عبده.
ومنهم:؟
 أبو يعقوب اسحق بن محمد النهرجوري
صحب أبا عمرو المكيَّ، وأبا يعقوب السوسي، والجنيد، وغيرهم.
مات بمكة مجاوراً بها، سنة: ثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين أحمد بن علي يقول: سمعت النهرجوري، يقول: الدنيا بحر، والآخرة ساحل، والمركب التقوي، والناس سفْرَ.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازيَّ يقول: سمعت النهرجوري يقول رأيت رجلاً في الطواف بفردعين، يقول أعوذ بك منك.
فقلت: ما هذا الدعاء؟ فقال: نظرت يوماً إلى شخص فاستحسنته، وإذا لطمة وقعت على بصري، فألست عيني، فسمعت هاتفاً يقول: لكمة بنظرة.. ولو زدت لزدناك.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن عليٍّ يقول: سمعت النهرجوري يقول: أفضل الأحوال ما قارن العلم.
ومنهم: ؟
أبو الحسن علي بن محمد المزين
من أهل بغداد، من أصحاب سهل بن عبد الله، والجنيد، والطبقة.
مات بمكة مجاوراً سنة: ثمان وعشرين وثلاثمائة.
وكان ورعاً كبيراً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت المزِّين يقول: الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب الأوَّل، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة الأولى.
وسئل المزين عن التوحيد، فقال: أن تعلم أن أوصافه تعالى بائنة لأوصاف خلق، بَاينَهم بصفاته قدْماً كما باينوه بصفاتهم حدثاً.
وقال: من لم يستغن بالله أحوجه الله إلى الخلق، ومن استغنى بالله أحوج الله الخلق إليه.
ومنهم:
أبو علي بن الكاتب
واسمه الحسن بن أحمد. صحب أبا علي الروذباري، وأبا بكر المصري، وغيرهما.
كان كبيراً في حاله.
مات سنة: نيف وأربعين وثلاثمائة.
قال ابن الكاتب: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه.
وقال ابن الكاتب: العتزلة تزهوا الله تعالى من حيث العقل فأخطأوا، والصوفية نزَّهوه من حيث العلم فأصابوا.
ومنهم:
مظفر القرمسيني
من أشياخ الجبل. صحب عبد الله الخرَّاز، وغيره.
قال مظفر الفرمسيني: الصوم على ثلاثة أوجه: صوم الروحِ بقصر الأمل، وصوم العقل بخلاف الهوى، وصوم النفس بالإمساك عن الطعام والمحارِم.
وقال مظفر: أخَسُّ الإرفاق: أرفاق النسوان، على أيِّ وجه كان.
وقال: الجوع إذا ساعدته القَشاعة فهو مزرعة الفِكرة، وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة، ومصباحُ القلب.
وقال: أفضل أعمال العبيد: حفظُ أوقاتهم الحاضرة، وهو أن لا يقصروا في أمر، ولا يتجاوزوا عن حدِّ.
وقال: من لم يأخذ الأدب عن حكيم لم يتأدَّب به مريد.
ومنهم:
أبو بكر الأبهري
أبو بكر عبد الله بن طاهر الأبهري

من أقران الشبليِّ. من مشايخ الجبل.
عالم وَرع، صحب يوسف بن الحسين، وغيره.
مات بقرب من الثلاثين والثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا بكر بن طاهر يقول: من حُكم الفقير أن لا يكون له رغبة، فإن كان ولابد، فلا تجاوز رغبتَه كفايتُه يعني المحتاج إليه.
وبهذا الإسناد قال: إذا أحببت أخاً في الله، فاقلل مخالطته في الدنيا.
ومنهم:
أبو الحسين بن بنان
ينتمي إلى أبي سعيد الخرَّاز. من كبار مشايخ مصر.
قال ابن بُنان: كل صوفيِّ كان همٌّ الرزق قائماً في قلبه فلزومُ العمل أقرب إليه.
وعلامة سكون القلب إلى الله: أن يكون بما في يد الله أوثقُ منه بما في يده.
وقال: اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبون الحرام.
ومنهم:
أبو إسحق القرمسيني
أبو اسحق إبراهيم بن شيبان القرمسيني شيخ وقته. وصحب أبا عبد الله المغربيَّ، والخوَّاص، وغيرهما.
سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت أبا يزيد المروزي الفقيه يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: من أراد أن يتعطَّل أو يتبطل فليلزم الرُّخص.
وبهذا الإسناد قال: عِلم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية، وصحةِ العبودية وما كان غير هذا، فهو المغاليط والزندقة.
وقال إبرهيم: السِّفلة من يعي الله عزّ وجلَّ.
ومنهم:
أبو بكر بن يزدانيار
أبو بكر الحسين بن علي بن يزدانيار من أرمينية. له طريقة يختص بها في التصوف.
وكان عالماً ورعاً، وكان ينكر على بعض العارفين في إطلاقات وألفاظ لهم.
قال ابن يزدانيار: إيَّاك أن تطمع في الانس بالله وأنت تحب الأنس بالناس.
وإيَّاك أن تطمع في حبِّ الله وأنت تحب الفضول.
وإيَّاك أن تطمع في المنزلة عند الله وأنت تحب المنزلة عند الناس.
ومنهم:
أبو سعيد بن الأعرابي
واسمه: أحمد بن محمد بن زياد البصريِّ.
جاور الحرم، ومات به سنة: إحدى وأربعين وثلاثمائة.
صحب الجنيد، وعمرو بن عثمان المكيِّ، والنوري، وغيرهم.
قال ابن الأعرابي: أخْسَر الأخسرين من أبدي للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد.
ومنهم:
أبو عمرو الزجاجي النيسابوري
أبو عمرو محمد بن إبراهيم الزجاجي النيسابوري جاور بمكة سنين كثيرة ومات بها.
صحب الجنيد، وأبا عثمان، والنوريَّ، والخوَّاص، ورويماً.
مات سنة: ثمان وأربعين وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدِّي أبا عمرو بن نجيد يقول: سئل أبو عمرو الزجاجي: ما بالك تتغير عند التكبيرة الأولى في الفرائض؟ فقال: لأني أخشى أن أفتتح فريضتي بخلاف الصدق، فمن يقول: الله أكبر، وفي قلبه شيء أكبر منه، أو قد كبرَّ شيئاً سواءه على مرور الأوقات، وفقد كذّب نفسه على لسانه.
وقال: من تكلم عن حالٍ لم يصل إليها كان كلامه فتنة لمن يسمعه، ودعوى تتولد في قلبه، وحرَمه الله الوصول إلى تلك الحال.
وقد جاور بمكة سنين كثيرة لم يتطهرَّ في الحرم، بل كان يخرج إلى الحلِّ ويتطهرَّ فيه.
ومنهم:
أبو محمد بن نصير
أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير بغدادي المنشأ والمولد.
صحب الجنيد، وانتمى إليه، وصحب النوري، ورويما، وسمنون، والطبقة. مات ببغداد سنة: ثمان وأربعين وثلاثمائة.
قال جعفر: لا يجد العبد لذّة المعاملة مع الله مع لذة النفس، لأن أهل الحقائق قطعوا العلائق التي تقطعهم عن الحق، قبلأن تقطعهم العلائق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت جعفراً يقول: إن ما بين العبد وبين الوجود أن تسكن التقوى قلبه، فإذا سكنت التقوى قلبه نزلت عليه بركات العلم، وزالت عنه رغبة الدنيا.
ومنهم:
أبو العباس السياري
واسمه: القاسم بن القاسم.
من مرو صحب الواسطي، وانتمي إليه في علوم هذه الطائفة.
وكان عالماً.
مات سنة: اثنتين وأربعين وثلاثمائة.
سئل أبو العباس السيَّاري: بماذا يروض المريد نفسه؟ فقال: بالصبر على فعل الأوامر، واجتناب النواهي، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء.
وقال: ما التذَّ عاقل بمشاهدة الحق قد، لأن مشاهدة الحق فناء، ليس فيها لذة.
ومنهم:
أبو بكر الدينوري

أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقيّ.
أقام بالشام وعاش أكثر من مائة سنة.
مات بدمشق بعد الخمسين والثلاثمائة.
صحب أبن الجلاَّء، والزقَّاق.
قال أبو بكر الدقيّ.
المعدة موضع يجمعُ الأطعمة، فإذا طرحتَ فيها الحلال صدرت الأعضاء بالأعمال الصالحة، وإذا طرحت فيها الشبهة اشتب عليك الطريق إلى الله تعالى - وإذا طرحت فيها التبعات كان بينك وبين أمر الله حجاب.
ومنهم:
أبو محمد الرازي
أبو محمد عبد الله بن محمد الرازي مولده ومنشؤه بنيسابور.
صحب أبو عثمان الحيريَّ، والجنيد، ويوسف بن الحسين، ورويماً، وسمنوناً، وغيرهم.
مات سنة: ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول وقد سئل: ما بال الناس يعرفون عيوبهم ولا يرجعون إلى الصواب؟ فقال: لأنهم اشتغلوا بالمباهاة بالعلم، ولم يشتغلوا باستعماله، واشتغلوا بالظواهر ولم يشتغلوا بآداب البواطن، فأعمى الله قلوبهم، وقيد جوارحهم عن العبادات.
ومنهم:
أبو عمرو إسماعيل بن نجيد
صحب أبا عثمان، ولي الجُنيد.
وكان كبير الشأن.
آخر من مات من أصحاب أبي عثمان. توفي بمكة سنة: ست وستين وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدِّي أبا عمرو بن نجيد يقول: كل حال لا يكون عن نتيجة علم؛ فإن ضررَه على صاحبه أكثر من نفعه.
قال: وسمعته يقول: من ضيع في وقت من أوقاته فريضة افترضها الله عليه حرِمَ لذَّة تلك الفريضة، ولو بعد حين.
قال: وسئل عن التصوف، فقال: الصبر تحت الأمر والنهي.
قال، وقال: آفة العبد رضاه من نفسه بما هو فيه.
ومهنهم:
أبو الحسن البوشنجي
أبو الحسن علي بن أحمد بن سهل البوشنجي أحد فتيان خُراسان.
لقي أبا عثمان، وابن عطاء، والجريري، وأبا عمر والدَّمشقيَّ.
مات سنة: ثمان وأربعين وثلاثمائة.
وسئل البوشنجي عن المروءة فقال: هي ترك استعمال ما هو محرَّم مع الكرام الكاتبين.
وقال له إنسان: ادع الله لي.
فقال: أعاذك الله من فتنتك.
وقال: أوَّل الإيمان منوط بآخره.
ومنهم:
أبو عبد الله الشيرازي
أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي صحب رويماً، والجريري، وابن عطاء، وغيرهم.
مات سنة: إحدى وسبعين وثلاثمائة.
وهو شيخ الشيوخ وواحد وقته.
قال ابن خفيف: الإدارة استدامةُ الكدِّ؛ وترك الراحة.
وقال: ليس شيء أضر على المريد من مسامحة النفس في ركوب الرحل وقبول التأويلات.
وسئل عن القرب، فقال: قُربك منه بملازمة الموافقات، وقُربه منك بدوام التوفيق.
سمعت أبا عبد الله الصوفيَّ، يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: ربَّما كنت أقرأ في ابتداء أمري في ركعة واحدة عشرة آلاف مرةًّ قل هو الله أحد وربما كنت أقرأ في ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلي من الغداة إلى العصر ألف ركعة.
سمعت أبا عبد الله بن باكويه الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أحمد الصغير يقول: دخل يوماً من الأيام فقير، فقال الشيخ أبي عبد الله أبن خفيف.
بي وسوس!! فقال الشيخ: عهدي بالصوفيَّة يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم.
وسمعته يقول: سمعت أبا العباس الكرخي يقول: سمعت أبا عبد الله ابن خفيف يقول: ضعفت عن القيام في النوافل، فجعلت بدل كل ركعة من أورادي ركعتين قاعداً، للخبر: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.
ومنهم:
أبو الحسين الشيرازي
أبو الحسين بندار بن الحسين الشيرازي كان عالماً بالأصول، كبيراً في الحال.
صحب الشبلي.
مات بأرَّجان سنة: ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
قال بُندار بن الحسين: لا تخاصم لنفسك، فإنها ليست لك، دعها لمالكها يفعل بها ما يريد.
وقال بُندار: صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق.
وقال بُندار: اترك ما تهوى لما تأمل.
ومنهم:
أبو بكر الطمستاني
صحب إبراهيم الدَّباغ، وغيره.
وكان أوحد وقته علماً، وحالاً مات بنيسابور بعد سنة: أربعين وثلاثمائة قال أبو بكر الطمِّستاني: النعمة العظمة الخروج من النفس، والنفس أعظم حجاب بينك وبين الله سمعت أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت منصور ابن عبد الله الأصبهانيِّ، يقول: سمعت أبا بكر الطمِّستاني يقول:

إذا هَم القلب عوقب في الوقت.
وقال: " الطريق واضح، والكتاب والسنَّة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم؛ لسبقهم إلى الهجرة، ولصحبتهم؛ فمن صحب منا الكتاب والسنة وتغرَّب عن نفسه والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله، فهو الصادق المصيب " .
ومنهم:
أبو العباس الدينوري
أبو العباس أحمد بن محمد الدينوري صحب يوسف بن الحسين، وابن عطاء، والجريريَّ.
وكان عالماً فاضلاً؛ ورد نيسابور وأقام بها مدّضة، وكان يعظ الناس، ويتكلم على لسان المعرفة، ثم ذهب إلى سمرقند، ومات بها بعد الأربعين وثلاثمائة.
قال أبو العباس الدَّينوري: أدْنى الذكر أن تنسى مادونه، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر في الذكر عن الذكر.
وقال أبو العباس: لسان الظاهر لا يغيَّر حكم الباطن.
وقال أبو العباس الدينوري: أدنى الذكر أن تنسى ما دونه، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر في الذكر عن الذكر.
وقال أبو العباس: لسان الظاهر لا يغيَّر حكم الباطن.
وقال أبو العباس الدينوري: نقضوا أركان التصوف، وهدموا سبيلها، وغيروا معانيها بأسامي أحدثوها: سمُّو الطمع زيادة، وسوء الأدب إخلاصاً والخروج عن الحق شطحاً والتلذذ بالمذموم طيبة، واتباع الهوي ابتلاء والرجوع إلى الدنيا وصلا،وسوء الخلق صولة، والبخل جلادة والسؤال عملاً وبذاءة اللسان ملامة. وما هذا كان طريق القوم.
ومنهم:
أبو عثمان المغربي
أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي واحد عصره، لم يوصف مثله قبله.
صحب ابن الكاتب، وحبيباً المغربيَّ، وأبا عمرو الزجاجيَّ، ولقي النهرجوري وابن الصائغ وغيرهم.
مات بنيسابور سنة: ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
وأوصى بأن يُصلى عليه الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى.
سمعت الأستاذ أبو بكر بن فورك يقول: كنت عند أبي عثمان المغربي حين قرب أجله، وعليّ القوال الصغير يقول شيئاً، فلما تغير عليه الحال أشرنا على عليّ بالسكوت، ففتح الشيخ أبو عثمان عينيه، وقال: لم لا يقول عليّ شيئاً؟ فقلت لبعض الحاضرين: سلوه، علام يسمع المستمع، فإني أحتشمه في تلك الحالة فسألوه، فقال: إنما يسمع من حيث يسمع.
وكان في الرياضة كبير الشأن.
وقال أبو عثمان: التقوى، هي: الوقوف مع الحدود، لا يُقصر فيها ولا يتعدَّاها.
وقال: من آثر صحبة الآغنياء على مجالسة الفقراء ابتلاه الله بموت القلب.
ومنهم:
أبو القاسم النصراباذي
أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي شيخ خراسان في وقته.
صحب الشبليَّ، وأبا علي الروذباريَّ، والمرتعش.
جاور بمكة سنة: ست وستين وثلاثمائة. ومات بها سنة تسع وستين وثلاثمائة.
وكان عالماً بالحديث، كثير الرواية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: إذا بدا لك شيء من بوادي الحق، فلا نلتفت معها إلى جنَّة، ولا إلى نار، فإذا رجعت عن تلك الحال فعظِّم ما عظمه الله.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: قيل للنصراباذي: إن بعض الناس يجالس النسوان، ويقول: أنا معصوم في رؤيتهن.
فقال: ما دامت الأشباح باقية فإن الأمر والهي باق، والتحليل والتحريم مخاطب به؛ ولن يجترىء على الشبهات إلا من تعرض للمحرمات.
وسمعت محمد بن الحسين، رحمة الله، يقول: قال النصراباذي: أصل التصوف: ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات.
ومنهم:
أبو الحسن الحصري البقري
أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري البقري سكن بغداد.
عجيب الحال واللسان، شيخ وقته.
ينتمي إلى الشبليِّ.
مات ببغداد سنة: إحدى وسبعين وثلاثمائة.
قال الحصري: الناس يقولون: الحصري لا يقول بالنوافل، وعلى أوراد من حال الشباب لو تركت ركعة لعوقبت.
وقال: من ادَّعى في شيء من الحقيقةُ كذَّبته شواهد كشف البراهين.
ومنهم:
أبو عبد الله الروذباري
أبو عبد الله بن أحمد بن عطاء الروذباري ابن أخت الشيخ أبي علي الروذباري.
شيخ الشم في وقته مات بصور سنة: تسع وستين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت على بن سعيد المصيصي، يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول:

كنت راكباً جملاً، فغاصت رجلاً الجمل في الرمل، فقلت: جل الله، فقال الجمل: جل الله. وكان أبو عبد الله الروذباري إذا دعا أَصحابه معه إلى دعوة في دور السوقة، ومن ليس من أهل التصوف لا يُخْبر الفقراء بذلك، وكان يطعمهم شيئاً، فإذا فرغوا أخبرهم، ومضى بهم فكانوا قد أكلوا في الوقت فلا يمكنهم أن يمدوا أيديهم إلى طعام الدعوة إلا بالتعزز.
وإنما كان يفعل ذلك، لئلا تسوء ظنُون الناس بهذه الطائفة فيأثموا بسببهم.
وقيل: كان أبو عبد الله الروذباري يمشي على أثر الفقراء يوماً، وكذا كانت عادته أن يمشي على أثرهم، وكانوا يمضون إلى دعوة فقال إنسان بقَّال: هؤلاء المستحلون وبسط لسانه فيهم، وقال في اثناء كلامه: إن واحداً منهم قد استقرض منيِّ مائة درهم. ولم يردها عليَّ ولست أدري أين أطلبه؟ فلما دخلوا دار الدعوة، قال أبو عبد الله الروذباري لصاحب الدار وكان من محِّبي هذه الطائفة.
إثنتي بمائة درهم إن أردت سكون قلبي.
فأتاه بها في الوقت فقال لبعض أصحابه: أحمل هذه المائة إلى البقَّال الفلانيِّ، وقل له: هذه المائة التي استقرضها منك بعض أصحابنا، وقد وقع له في التأخير بها عذر، وقد بعثها الآن.. فأقبل عذهر!! فمضى الرجل، وفعل، فلما رجعوا من الدعوة اجتازوا بحانوت البقَّال، فأخذ البقال في مدحهم يقول: هؤلاء هم الثقاةُ الأمناء الصلحاء، وما أشبه ذلك.
وقال أبو عبد الله الروذباري: أقبح من كل قبيح صوفي شحيح.
قال أبو القاسم الأستاذ الإمام جمال الإسلام، رضي الله عنه هذا هو ذكر جماعة من شيوخ هذه الطائفة.
وكان الغرض من ذكرهم في هذا الموضع التنبيه على أنهم مجمعون على تعظيم الشريعة؛ متصفون بسلوك طرق الرياضة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من آداب الديانة، متفقون على أن من خلا من المعاملات والمجاهدات ولم يبن أمره على أساس الورع والتقوى كان مفترياً على الله سبحانه وتعالى، فيما يدعيه، متفونا، هلك في نفسه، وأهلك من أغتر به ممن ركن إلى أباطيله.
ولو تقصينا، وتتبعنا ما ورد عنهم: من ألفاظهم، وحكاياتهم، ووصف سيرهم مما يدل على أحوالهم، لطال به التاب، وحصل منه الملال: وفي هذا القدر الذي لوحنا به في تحصيل المقصود غنية، وبالله التوفيق.

فأما المشايخ الذين أدركناهم، وعاصرناهم، وإن لم يتفق لنا لقياهم، مثل: الاستاذ الشهيد، لسان وقته، وأوحد عصره، أبي عليِّ الحسن بن علي الدقاق، والشيخ، نسيج وحده في وقته، أبي عبد الرحمن السلمي، وابي الحسن علي بن جَهضم مجاور الحرم والشيخ أبي العباس القصار بطبرستان. وأحمد الأسود بالدينور؛ وابي القاسم الصيرفي بنيسابور، وابي سهل الخشاب الكبير بها. ومنصور بن خلف المغربي، وأبي سعيد الماليني، وأبي طاهر الخوزندي، قدس الله أرواحهم، وغيرهم، فلو اشتغالنا بذكرهم، وتفصيل أحوالهم، لخرجنا عن المقصود في الإيجاز وغير ملْتَبَس من أحوالهم حسن سيرتهم في معاملاتهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة