مقامات الصوفية 6

باب الشوق
قال الله عز وجلَّ: " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت " .

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: أخبرنا ابن أبي قماش قال: أخبرنا إسماعيل بن زرارة، عن حماد ابن يزيد، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة، فأوجز فيها، فقلت: ففت أبا اليقظان!! فقال: وما عليّ من ذلك، ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات، فقال: " اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحبني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي.
اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرَد العيش بعد الموت، واسألك النظر إلى وجهك الكريم، وشوقاً إلى لقائك في غير ضواء مضرة ولا فتنةُ مُضلة.
" اللهم زينا بزينة الإيمان.. اللهم اجعلنا هداة مهتدين " ..
قال الأستاذ الشوق: اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يفرق بين الشوق والاشتياق، ويقول: الشوق يسكن باللقاء والرؤيةِ، والاشتياقُ لا يزول باللقاء. وفي معناه أنشدوا:
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرفُ مشتاقً
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت النصراباذي يقول: للخلق كلهم مقامُ الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يُرى له أثر ولا قرار.
وقيل: جاء أحمد بن حامد الأسود إلى عبد الله بن منازل فقال: رأيت في المنام أنك تموت إلى سنة، فلو استعددت للخروج؟ فقال له عبد الله بن منازل: لقد أجلتنا إلى أمد بعيد أأعيش أنا إلى سنة!! لقد كان لي أنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي يغني أبا علي:
يا من شكا شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غدا
وقال أبو عثمان: علامة الشوق: حب الموت مع الراحة.
وقال يحيى بن معاذ: علامة الشوق: فطام الجوارح عن الشهوات.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: خرج داود عليه السلام يوماً إلى بعض الصحارى منفرداً، فأوحى الله تعالى إليه: مالي أراك يا داو وحدانياً؟ فقال يا إلهي، استأثر الشوق إلى لقائك على قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق. فأوحى الله تعالى إليه: أرجع إليهم؛ فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتُك في اللوح المحفوظ جهبذاً.
وقيل: كانت عجوز قدَمَ بعض أقاربها من السفر فأظهر قومُها السرور، والعجوز تبكي، فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: ذكرَّني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله تعالى.
وسئل ابن عطاء عن الشوق فقال: أحتراق الأحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد.
وسئل أيضاً عن الشوق، فقيل له: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة؛ لأن الشوق منها يتولد.
وقال بعضهم: الشوق لهيب ينشأ بين أثناء الحشى، يسنح عن الفرقة، فإذا وقع اللقاء طفىء، وإذا كان الغالب على الأسرار مشاهدة المحبوب لم يطرقها الشوق.
وقيل لبعضهم: هل تشتقا؟ فقال: لا، إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر.
سمعت الأستاذ أبي علي الدقاق يقول: في قوله عزَّ وجلَّ: وعجلت إليك ربِّ لترضي قال: معناه: شوقاً إليك، فستره يلفظ الرضا.
وسمعته رحمه الله تعالى يقول: من علامات الشوق: تمنى الموت على بساط العوافي، كيوسف عليه السلام لمَّا القى في الجب لم يقل توفي؛ ولما أدخل السجن لم يقل توفني؛ ولما دخل عليه أبواه وحرَّ له الإخوةُ سُحداً وتم له الملك والنعم قال: توفني مسلماً. وفي معناه أنشدوا:
من سرَّه العيد الجيد ... فقد عدمت به السرورا
كان السرور يتمُّ لي ... لو كان أحبابي حضورا
وقال ابن خفيف: الشوق: ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء بالقرب.
وقال أبويزيد: إن لله عباداً لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لا ستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.

أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: أخبرنا أبو العباس الهاشمي بالبيضاء قال: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي قال: حدثنا عبد الله الأنصاري قال: سمعت الحسين الأنصاري يقول: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت وشخص قائم تحت العرش فيقول الحق، سبحانه: يا ملائكتي، من هذا؟ فقالوا: الله أعلم فقال هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق بلقائي.
وفي بعض الحكايات في مثل هذا المنام أنه قيل: هذا معروف الكرخي خرج من الدنيا مشتاقاً إلى الله، فأباح الله عز وجلَّ له النظر إليه.
وقال فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور الله تعالى، فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: عزلاً المشتاقون إلىَّ... أشهدكم أني إليهم أشوق..
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: " أسألك الشوق إلى لقائك " قال:كان الشوق مائة جزء، تسعة وتسعون له، وجزء متفرق في الناس، فأراد أن يكون ذلك الجزء له أيضاً، فغار أن يكون شطية من الشوق لغيره.
وقيل: شوق أهل القرب أتم من شوق المحجوبين؛ ولهذا قيل:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنتِ الخيامُ من الخيام
وقيل: إن المشتاقين يتحسون حلاوة الموت عند وروده؛ لما قد كشف لهم من رَوح اوصول أحلى من الشهد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السرِّي يقول: الشوق أجلّ مقام المعارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه.
وقال أبو عثمان الحيري في قوله تعالى: " فإن أجل الله لآت " : هذا تعزية المشتاقين، معناه: أني أعلم أن اشتياقكم إلى غالب. وأنا أجلت للقائكم أجلاً، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه.
وقيل: أوحى الله تعالى لداود عليه السلام: قل لشبان بني إسرائيل لم تشغلون أنفسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم، ما هذا الجفاء!! وقيل: أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى داود عليه السلام: لو يعلم المديرون على كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إليّ، وانقطعت أوصالهم من محبتي، ياداود هذه برادتي للمديرين علي، فبكيف إرادتي للمقبلين إليّ؟ وقيل: مكتوب في التوراة: شوقناكم فلم تشتاقوا، وخوفنا كم فلم تخافوا، نحنا لكم في تنوحوا.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بكى شعيب حتى عمي، فرد الله عز وجل بصره عليه، ثم بكى حتى عمي، فرد الله عز وجل بصره عليه. ثم بكى حتى عمي، فأوحى الله تعالى إليه: إن كان هذا البكاء لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها، فقال لا، بل شوقاً إليك. فأوحى الله إليه: لأجل ذلك أخدمتك نبي وكليمي عشر سنين.
وقيل: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء.
وفي الخبر: " اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان " .
سمعت الأستاذ أبا علي يقول: قال بعض المشايخ: أنا أدخل السوق والأشياء تشتاق إليّ، وأنا عن جميعها حُر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: سمعت محمد بن عمر الرملي يقول: حدثنا محمد بن جعفر الإمام قال: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم قال: حدثنا مرحوم قال: سمعت مالك بن دينار يقول: قرأت في التوراة: شوقنا كم فلم تشتاقوا، وزمَّرنا لكم فلم ترقصوا.
سمت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان يقول: سمعت الجنيد، وقد سئل من أي شيء يكون بكاء المحب إذا لقي المحبوب؟ فقال: إنما يكون ذلك سروراً به، ووجداً من شدة الشوق إليه، ولقد بلغني أن أخوين تعانقا، فقال أحدهما: وأشوقاه، وقال الآخر: واوجداه!!
باب حفظ قلوب المشايخ
وترك الخلاف عليهم
قال الله تعالى في قصة موسى مع الخضر، عليهما السلام: " هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً " .
قا الإمام: لما أراد صحبة الخضر حفظ شرط الأدب، فاستأذن أوَّلاً في الصحبة، ثم شرط عليه الخضر أن لا يعارضه في شيء ولا يعترض عليه في حكم، ثم لما خالفه موسى عليه السلام تجاوز عنه المرة الأولى والثانية، فلما صار إلى الثالثة، والثلاثُ آخر حد القلة وأول حد الكثرة، سلمتة الفرقة؛ فقال: هذا فراق بيني وبينك.

أخبرنا أبو الحسين الإهوازي قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا أبو سالم القزاز قال: حدثنا يزيد عن بيان قال: حدثنا أبو الرجال، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أكرم شاب شيخاً لسنَّه إلا قبض الله تعالى له من يكرمه عند سنه " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: بدء كل فُرقة المخالفهُ. يعني به: أنَّ من خالف شيخه لم يبق على طريقته وانقطعت العُلقْهُ بينهما وإن جمعتهما البقعة؛ فمن صحب شيخاً من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة، على أن الشيوخ قالوا: عُقوق الأستاذين لا توبة عنها.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: خرجت إلى مرو في حياة شيخي الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، وكان له قبل خروجي أيام الجمعة بالغدوات مجلس دَوْر القرآن والختم، فوجدته عند رجوعي قد رفع ذلك المسجد، وعقد لأبي الغفاني في ذلك الوقت مجلس القول، فأدخلني من ذلك شيءٌ؛ فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول، فقال لي فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول: فقال لي يوماً: يا أبا عبد الرحمن، ما يقول الناسُ فيّ؟ فقلت: يقولون رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القول!! فقال: من قال لأستاذهِ لِمَ؟ لا يفلح أبداً، ومن المعروف أن الجنيد قال: دخلت على السريّ يوماً، فأمرني شيئاً، فقضيت حاجته سريعاً، فلما رجعت ناولني رقعة وقال: هذا المكان قضائك لحاجتي سريعاً، فقرأت الرقعة، فإذا فيها مكتوب سمعت حادياً يحدو في البادية:
أبكي، وهل يدريك ما يبكيني ... أبكي جداراً أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني ويحكى عن أبي الحسن الهمداني العلوي قال: كنت ليلة عند جعفر الخلدي، وكنت أمرت في بيتي أن يُعَلَّق طير في التنور، وكان قلبي معه، فقال لي جعفر: أقم عندنا الليلة، فتعللت بشيء، ورجعت إلى منزلي، فأخرج الطير من التنور، ووضع بين يدي، فدخل كلب من الباب، وحمل الطير عند تغافل الحاضرين، فأتى بالجواذب الذي تحته، فتعلق به ذيل الخادمة، فانصب.. فلما أصبحتُ دخلت على جعفر، فحين وقع بصره عليّ قال: من لم يحفظ قلوب المشايخ سُلّط عليه كلب يؤذيه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت أبا عبد الله الدينوري يقول: سمعت الحسن الدامغاني يقول: سمعت عمي البسطامي يحكي عن أبيه: أن شقيقاً البلخيِّ، وأبا تراب النخشبي، قدما على أبي يزيد، فقُدَّمت السفرة، وشاب يخدم أبا يزيد، فقالا له: كل معنا يا فتى. فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر. فأبى. فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة. فأبى. فقال أبو يزيد: تدعُوا من سقط من عين الله تعالى!! فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة، فقطعت يده!! سمعت الأستاذ أبا عليّ يقول: وصف سهل بن عبد الله رجلاً بالولاية خبازاً بالبصرة.. فسمع رجل من أصحاب سهل بن عبدالله ذلك، فاشتاق إليه؛ فخرج إلى البصرة، فأتى حانوت الخباز.. فرآه يخبز وقد تنقب لمحاسنه على عادة الخبازين، فقال في نفسه. لو كان هذا ولياً لم يحترق شعره بغير نقاب. ثم إنه سلم عليه وسأله شيئاً، فقال الرجل: إنك استصغرتني، فلا تنتفع بكلامي، وأبي أن يكلمه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الرحمن الرازي أبا عثمان الحيري يصف محمد بن الفضل البلخي ويمدحه، فاشتاق إليه، فخرج إلى زيارته، فلم يقع بقلبه من محمد بن الفضل ما اعتقد، فرجع إلى أبي عثمان وسأله، فقال: كيف وجدته؟ فقال: لم أجد أحداً إلا حُرم فائدته، ارجع إليه بالحرمة. فرجع إليه عبد الله، فانتفع بزيارته.
ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور يكتب شيئاً، فقال. ما هذا؟ فقال: هو ذا أُعارض القرآن، فدعا عليه وهجره؛ قال الشيوخ إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: لما نفى أهل بلخ محمد بن الفضل من البلد؛ دعا عليهم وقال: اللهم امنعهم الصدق. فلم يخرج من بلخ بعد صديق.

سمعت أحمد بن يحيى الأبيوري يقول: من رضي عنه شيخه لا يكافأ في حال حيته: لئلا يزول عن قلبه تعظيم ذلك الشيخ. فإذا مات الشيخ أظهر الله عز وجل عليه ما هو جزاء رضاه ومن تغير عليه قلبُ شيخه لا يكافأ في حال حياة ذلك الشيخ، لئلا يرقَّ له، فإنهم مجبولون على الكرم، فإذا مات ذلك الشيخ، فحينئذ يجد المكافأة بعده.
؟باب السماع قال الله عزَّ وجلَّ: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " .
اللام في قوله القول تقتضي التعميم والاستغراق، والدليل عليه: أنه مدحهم باتباع الأحسن.
وقال تعالى: " فهم في روضة يحيرون " ، جاء في التفسير: أنه السماع وأعلم أن سماع الأشعار بالألمان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظوراً، ولم يسمع على مذموم في الشرع، ولم ينجز في زمام هواه، ولم ينخرط في سلك لهواه، مباح في الجملة.
ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان.
هذا ظاهر من الأمر. ثم ما يوجب المستمع توفر الرغبة على الطاعات، وتذكر ما أعدّ الله تعالى لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرر من الزلات، ويؤدي إلى قلبه في اعمال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع، وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر، وإن لم يقصد أن يكون شعراً.
أخبرنا: أبو الحسن علي بن أحمد ألإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا الحارث بن أبي أسلمة قال: حدثنا أبو النضر قال: حدثنا شعبة عن حميد قال: سمعت أنساً يقول: كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فأكرم الأنصار والمهاجرة " وليس هذا اللفظ منه، صلى الله عليه وسلم، على وزن الشعر، لكنه قريب منه.
وقد سمع السلف الأكابرُ الأبيات بالألحان؛ فمن قال بإباحته من السلف: مالك بن أنس: وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء، وأما الحداء فإجماع منهم على إجازته.
وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك، وروي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع، فقيل له: إذا أتى بك يوم القيامة، ويؤتى بحسناتك ولا في السيآت. يعني أنه من المباحات: وليس كلامنا في هذا النوع من السماع: فن هذه الطائفة جلت رتبتهم عن أن يستمعوا بلهو، أو يقعدوا للسماع بسهو، أو يكونوا بقلوبهم مفكرين في مضمون لغو. أو يستمعوا على صفة غير كفء.
وقد روي عن أبن عمر آثار في إباحة السماع، وكذلك عن عبدالله بن جعفر ابن أبي طالب. وكذلك عن مر رضي الله عنهم أجمعين، في الحداء وغيره.
وأنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الأشعار فلم ينه عنها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم استنشد الأشعار.
ومن المشهور الظاهر أنه دخل بيت عائشة رضي الله عنها، وفيه جاريتان تغنيان، فلم ينههما.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد ابن مطر قال: حدثنا الحباب بن محمد التستري قال: أخبرنا أبو الأشعث قال: حدثنا محمد بن بكر البرساني قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، دخل عليها وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: مزمار الشيطان مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عبداً وعيدنا هذا اليوم " .
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا عثمان بن الضي قال: حدثنا أبو كمال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عائشة رضي الله عنها: " أنها أنسكحت ذات قرابتها من الأنصار. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ فقالت: نعم. قال: فأرسلت من يغني؟ قالت: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ن النصار فيهم غزل، فلو أرسلتم من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم "

أخبرنا الأستاذ الإمام أبوبكر محمد بن الحسين بن فورك، رضي الله عنه، قال: حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ قال: حدثنا الحسين بن الحارث الإهوازي قال: حدثنا سلمة بن سعيد، عن صدقة بنت أبي عمرن، قالت: حدثنا علقمة ابن مرثد، عن زاذان، عن البراءة بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً " دلّ هذا الخبر على فضيلة الصوت الحسن.
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا أبو الربيع قال: حدثنا عبد السلام ابن هاشم قال: حدثنا عبدالله بن محرز، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن " .
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن يونس الكريمي يقال: حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم قال: حدثنا شبيب بن بشر بن البجلي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوتان ملعونان: صوتُ ويل عند مصيبة، وصوت مزمار عند نغمة " .
مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا في غير هذه الأحوال، وإلا بطل التخصيص.
والأخبارُ في هذا الباب تكثر، والزياة على هذا القدر من ذكر الروايات تخرجنا عن المقصود من الاختصار، وقد روي أن رجلاً أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اقبلت فلاح لها ... عارضان كالسبج
أدبرت فقلت لها ... والفؤاد في وَهج
هل على ويحكما ... إن عشقت من حرج
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.
وإن حُسن الصوت مما أنعم الله تعالى به على صاحبه من الناس: قال الله عز وجل: " يزيد في الخلق ما يشاء " . قيل في التفسير: من ذلك، الصوت الحسن وذم الله سبحانه الصوت الفظيع؛ فقال تعالى: " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " .
واستلذاذ القلوب واشتياقها إلى الأصوات الطيبة واسترواحها إليها مما لا يمكن جحوده؛ فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء. قال الله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " .
وحكى إسماعيل بن عالية قال: كنت أمشي مع الشافعي، رحمه الله تعالى، وقت الهاجرة فجزنا بموضع يقول فيه أحد شيئاً، فقال: مل بنا إليه، ثم قال: أيطربك هذا؟ فقلت: لا. فقال: مالك حسن!! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ماأذن الله تعالى لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن " .
أخبرنا علي بن أحمد الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا ابن ملحان قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب أنه قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عنعقيل، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " .
وقيل: إن داود عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إذا قرأ الزبور، وكان يحمل مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: " لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " متفق عليه.
وقال معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو علمت أنك تسمع لحبرتَه لك تحبيراً " .
أخبرنا أبو حاتم السجستاني قال: أخبرنا عبد الله بن علي السراج قال: حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري الرقي قال: كنت في البادية، فوافيت قبيلة من قبائل العرب، وأضافني رجل منهم، فرأيت غلاماً أسود مقيداً هناك. ورأيت جمالاً قد ماتت بفناء البيت، فقال لي الغلام: أنت الليلة ضيف، وأنت على مولاي كريم، فتشفع لي؛ فإنه لا يردك.
فقلت لصاحب البيت: لا آكل طعامك حتى تحل هذا العبد.
فقال: هذا الغلام قد أفقرني وأتلف مالي!! فقلت: فما فعل؟

فقال: له صوت طيب، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقيلة، وحدا لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة في يوم واحد، فلما حط عنها ماتت كلها، ولكن قدوهبته لك وحلَّ عنه القيد، فلما أصبحنا أحببت أن أسمع صوته، فسألته عن ذلك، فأمر الغلامَ أن يحدو على جمل كان على بئر هناك يستقي عليه، فحدا الغلام.. فهام الجمل على وجهه وقطع حباله، ولم أظن أني سمعت صوتاً أطيب منه، فوقعت لوجهي.. حتى أشار إليه بالسكوت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول، وقد سئل: ما بال الإنسان يكون هادئاً، فذ سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذرَّ في الميثاق الأول بقوله: " ألست بربك قالوا بلى " استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: السماع حرام على العوام؛ لبقاء نفوسهم، مباح للزهاد؛ لحصول مجاهداتهم، مستحب لأصحابنا؛ لحياة قلوبهم.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الصوفي يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا عليّ الروذباري يقول: كان الحارث بن أسد المحاسبي ثلاث إذا وجدن مُتسع بهنَّ، وقد فقدناها: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الصوت مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء.
وسئل ذو النون المصري عن الصوت الحسن، فقال: مخاطبات وإشارات أودعها أنه تعالى كلّ طيب وطيبة.
وسئل مرة أخرى عن السماع فقال: وارد حقٌ يزعج القلوب إلى الحقِّ؛ فمن أصغى إليه بحق تحقق، ومن أصغًى إليه بنفس تزندق.
وحكى جعفر بن نصير: عن الجنيد أنه قال: تنزل الرحمة على الفقراء في ثلاثة مواطن: عند السماع؛ فإنهم لا يسمعون إلا عن حق، ولا يقولون إلا عن وجد، وعند أكل الطعام؛ فأنهم لا يأكلون إلا عن فاقة، وعند مجاراة العلم: فإنهم لا يذكرون إلا صفات الأولياء.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول سمعت أبا بكر بن ممشاد يقول: سمعت الجنيد يقول: السماع فتنة لمن طلبه. ترويح لمن صادفه.
وحكي عن الجنيد أنه قال: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان. والمكان؛ والإخوان.
وسئل الشبلي عن السماع فقال: ظاهره فتنة، وباطنه عبرة؛ فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة، وإلا فقد استدعي الفتنة، وتعرض للبلية.
وقيل:لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حيّ؛ فنفسه ذُبحت بسيوف المجاهدة، وقلبه حي بنور الموافقة.
وسئل أبو يعقوب النهرجوري عن السماع فقال: حال يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الاحتراق.
وقيل: السماع لطف غذاء الأرواح لأهل المعرفة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: السماع طبع، إلا عن شَرعْ. خرق، إلا عن حق، وفتنةٌ إلا عن عبرة.
ويقال: السماع على قسمين: سماع بشرط العلم والصحو؛ فمن شرط صاحَبَه معرفةُ الأسامي والصفت، وإلا وقع في الكفر المحض. وسماع بشرط الحال؛ فمن شرط صاحبه الفناءُ عن أحوال البشرية، والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة.
وحكي عن أحمد بن أبي الحراري أنه قال: سألت أبا سليمان عن السماع، فقال: من اثنين أحب إليّ من الواحد.
وسئل أبو الحسن النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع، وآثر الأسباب.
وسئل أبو علي الروذباري عن السماع يوماً فقال: ليتنا تخلصنا منه رأسا برأس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من أدعى السماع ولم يسمع صوت الطيور، وصرير الباب، وتصفيق الرياح، فهو فقير مدع.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: سمعت أبا الطيب أحمد بن مقاتل العكي يقول: قال جعفر: كان ابن زيري، من أصحاب الجنيد، شيخاً فاضلاً، فربما كان يحضر موضع سماع، فإنه استطابه فرش إزاره وجلس وقال: الصوفي في قلبه، وإن لم يستطبه قال. السماع لأرباب القلوب، ومر، وأخذ نعله.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت عبدالله بن عبد المجيد الصوفي يقول: سئل رويم عن وجوج الصوفية عند السماع فقال:

يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم: إليّ.. إليّ.. فيتنعمون بذلك من الفرح، ثم يقطع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء؛ فمنهم من يخرق ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي كل إنسان على قدره.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه: ما أعمل بسماع ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ ينبغي أن يكون سماعك متصلاً غير منقطع.
قال: وقال الحصري: ينبغي أن يكون ظمأ دائم، فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه.
وجاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: " فهم في روضة يخبرون " : أنه السماع من الحور العين بأصوات شهية: " نحن الخالدات، فلا نموت أبداً، نحن الناعمات، فلا نبؤس أبداً " .
وقيل: السماع نداء، والوجد قصد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: قلوب أهل الحق قلوب حاضرة، وأسماعهم أسماع مفتوحة.
وسمعته يقول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: المستمع بين استتار وتجلٍ، فالاستتار يوجب التلهيب، والتجلي يورث الترويح؛ والاستتار يتولد منه حركات المريدين، وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه سكون الواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وذلك صفة الحضرة ليس فيها إلا الذبول تحت موارد الهيبة، قال الله تعالى: " فلما حضروه قالوا أنصتوا " .
وقال أبو عثمان الحيري: السماع على ثلاثة أوجه: فوجه منها للمريدين والمبتدئين يستدعون بذلك الأحوال الشريفةويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمرأءاة.
والثاني: للصادقين يطلبون الزيادة في أحوالهم ويستمعون من ذلكما يوافق أوقاتهم.
والثالث: لأهل الاستقامة من العارفين، فهؤلاء لا يختارون على الله تعالى فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الفرج الشيرازي يقول: سمعت ابا علي الروذباري يقول: قال أبو سعيد الخراز: من أدعى أنه مغلوب عن الفهم يعني في السماع، وأنّ الحركات مالكة له، فعلامته تحسين المجلس الذي هو فيه يوجده.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن: فذكرت هذه الحكاية لأبي عثمان المغربي فقال: هذا أدناه، وعلامته الصحيحة: أن لا يبقى في المجلس محق إلا أنسَ به، ولا يبقى فيه مبطل إلا استوحش منه.
وقال بندار بن الحسين: السماع علي ثلاثة أوجه: منهم من يسمع بالطبع، ومنهم من يسمع بالحال، ومنهم من يسمع بالحق.
الذي يسمع بالطبع يشترك فيه الخاص والعام؛ فإن جبلة البشرية استلذاذ الصوت الطيب.
والذي يسمع بالحال فهو يتأمل ما يردُ عليه من ذكر عتاب أو خطاب أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد، أو تأسف علي فائت أو تعطش إلى أتٍ، أو وفاء بعهد أو تصديق لوعد أو نقض لعهد، أو ذكر قلق أو اشتياق أو خوف فراق أو فرح وصالٍ، أو حذَر انفصال أو ما جرى مجراه.
وأما من يسمع بحق فيسمع بالله تعالى، والله، ولا يتصف بهذه الأحوال التي هي ممزوجة بالحظوظ البشرية فإنها مبقاة مع العلل فيسمعون من حيثُ صفاء التوحيد يحق لا يحظ.
وقيل: أهل السماع على ثلاث طبقات: أبناء الحقائق يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة لحق سبحانه لهم؛ وضرب يخاطبون الله تعالى بقلوبهم بمعاني ما يسمعون، فهم مطالبون بالصدق فيما يشيرون به إلى الله: وقالت: هو فقير مجرّد قطع العلاقات من الدنيا والآفات، سمعون بطيبة قلوبهم، وهؤلاء أقربهم إلى السلامة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري، وقد سئل عن السماع، فقال: مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب.
وقال الحواص، وقد سئل: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع غير القرآن، ولا يجد ذلك من سماع القرآن؟ فقال: لأن سماع القرآن صدمة لا يمكن لأحد أن يتحرك فيه لشدة غلبته، وسماع القول ترويح فيترحك فيه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا رأيت المريد يُحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله البغدادي يقول: سمعت أبا سعيد الرملي يقول: قال سهل بن عبد الله السماع علم أستأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو.
وحكي أحمد بن مقاتل العكي قال: لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية، ومعهم قوَّال، فاستأذنوه أن يقول بين يديه شيئاً فأذن، فأبتدأ يقول:

صغيرُ هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعتِ من قلبي ... هَوى قد كان مشتركا
أماترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخفي بكا
قال: فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض، ثم قام رجل من القوم يتواحد، فقال له ذو النون: الذي يراك حين تقوم.. فجلس الرجل.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في هذه الحكاة: كان ذو النون صاحب إشراف علي ذلك الرجل: حيث نبهه أن ذلك ليس مقامه، وكان ذلك الرجل صاحب إنصاف؛ حيث قبل ذلك منه، فرجع فقعد.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت الرقيّ يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: كان بالمغرب شيخان لهما أصحاب وتلامذة، يقال لأحدهما جبلة وللثاني رزيق فزار رزيق يوماً جبلة في أصحابه، فقرأ رجل من أصحاب رزيق شيئاً، فصاح واحد من أصحاب جبلة ومات. فلما أصبحوا قال جبلة لرزيق: أين الذي قرأ بالأمس؟ فليقرأ.. فقرأ آية، فصاح جبلة صيحة، فمات القارىء، فقال جبلة: واحد بواح والبادي أظلم.
وسئل إبراهيم المارستاني عن الحركة عندالسماع فقال: بلغني أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل، فمزق واحد منهم قميصه، فأوحى الله تعالى إليه: قل له مزِّق لي قلبك ولا تمزِق ثيابك.
وسئل أبو علي المغازلي الشبلي فقال: ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله عز وجلّ فتحدوني على ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا، ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس.
فقال الشبلي:ما أجتذبك إليه فهو عطف منه عليك، ولطف، وما رُدِدت إلى نفسك فهو شفقة منه عليه، لأنه لم يصح لك التبري من الحول والقوة في التوجه إليه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت أحمد بن مقاتل العكي يقول: كنت مع الشبلي في مسجد ليلة من شهر رمضان وهو يصلي خلق إمام له وأنا بجنبه، فقرأ الإمام: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " . فزعق زعقة قلت: طابت روحه وهوي رتعد ويقول: بمثل هذا يخاطب الأحباب!! ويردد ذلك كثيراً.
وحكي عن الجنيد أنه قال: دخلت على السري يوماً فرأيت عنده رجلاً مغشياً عليه، فقلت: ماله؟ فقال: سمع آية من كتاب الله تعالى. فقلت: تُقرآ عليه ثانياً، فقُرىء، فأفاق، فقال لي: من أين علمت هذا؟ فقلت: إن قميص يوسف ذهبت بسببه عينُ يعقوب عليهما السلام ثم به عاد بصره فاستحسن مني ذلك.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق، فقال له الجنيد يوماً: إن فعلت ذلك مرّة أخرى لم تصحبني!! فكان إذا سمع شيئاً يتغير ويضبط نفسه، حتى كان يقطرُ كل شعرة من بدنه بقطرةٍ، فيوماً من الأيام صاح صيحة تلفت بها نفسه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: حكى لي بعض إخواني عن أبي الحسين الدرّاج قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الريّ سألت عن منزله، فكلّ من أسأل عنه يقول لي: ما تفعل بذلك الزنديق؟! فضيقوا صدري، حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد، ثم قلت: جئتُ هذه البلدة، فلا أقلّ من زيارته؛ فلم أزل أسأل عنه حتى وقت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رَحل، وعليه مصحف يقرأ فيه، وإذا هو شيخ بهي، حسن الوجه واللحية، فدنوت منه وسلمت عليه، فرد السلام وقال: من أين؟ فقلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: لو أن في بعض البلدان قال لك إنسان: أقم عندي حتى أشتري لك داراً أو جارية، أكان يمنعك عن زيارتي؟ فقلت: يا سيدي، ما أمتحنني الله تعالى بشيء من ذلك!! ولو كان لا أدري كيف كنت أكون؟ فقال: تحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، وقلت:
رأيتُك تبني دائباً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيتُه وثوبه، حتى رحمتُه من كثرة بكائه؛ ثم قال لي: يا بني: لا تلمُ أهل الريّ على قولهم يوسف بن الحسين زنديق ومن وقت الصلاة و ذا أقرأ فلم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامة بهذا البيت.

سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت الدراج يقول كنت أنا وابن القوطي مارين على الدجلة بين البصرة والأبلة، وإذا نحن بقصر حسنٍ، له منظر وعليه رحل وبين يديه جارية تغني وتقول:
في سبيل الله ود ... كان مني لك يبذل
كلَّ يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
وإذا شاب تحت المنظرة بيده ركوة، وعليه مرقعة يسمع فقال: يا جارية، بحياة مولاك أعيدي: كل يوم تنلون غير هذا بك أجمل فأعادته.
فقال الشاب: قولي. فأعادت فقال الفقير: هذا والله تلوني مع الحق، وشهق شقة خرجت روحه. فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرّضة لوجه الله تعالى، وخرج أهل البصرة، وفرغوا من دفنه والصلاة عليه، فقام صاحب القصر، وقال: أليس تعرفوني؟؟ وأرتدي برداء، وتصرق بالقصر، ومر؟ فلم يُر له بعد ذلك وجد، ولا سمع له أثر.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت يحيى بن الرضا العلوي قال: سمعت أبو سلمان الدمشقي طوافاً ينادي: يا سسعتر بري فسقط مغشياً عليه، فلما افاق، سئل، فقال: حسبته يقول: اسمع ترَ برّي.
وسمع عتبة الغلام رجلاً يقول: سبحان ربِّ السماء؛ إن المحب لقي عناء فقال عتبة،: صدقت؛ وسمع رجل آخر ذلك القول، فقال: كذبت فكل واحد سمع من حيث هو.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمع أبا الحسن علي بن محمد الصوفي يقول: سمعت رويماً وقد سئل عن المشايخ، الذين لقيهم في السماع، فقال: كالقطيع إذا وقع فيه الذئب.
وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: رأيت علي بن المرفق في السماع يقول: أقيموني، فاقاموه، فقام، وتواجد، ثم قال: أنا الشيخ الزفان.
وقيل: قام الرقيُّ ليلة إلى الصباح، يقوم. ويسقط على هذا البيت، والناس قيام يبكون، والبيت:
بالله فأردد فؤاد مكتئب ... ليس له من حبيبة خلف
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بالبصرة يقول: سمعت أبي يقول: خدمت سهل بن عبد الله سنين كثيرة، فما رأيته تغير عند سماع شيء كان يسمعه من الذكر والقرآن وغيره، فلما كان في آخر عمره قُرىء بين يديه " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية " رأيته تغير، وارتعد، وكاد يسقط، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك، فقال يا حبيبي ضعفنا.
وحكى ابن سالم قال: رأيته مرَّة أخرى قرىء بين يديه الملك يومئذ الحق للرحمن فتغير وكاد يسقط، فقلت له في ذلك، فقال: ضعفتُ وهذه صفة الأكابر لا يرد عليه وارد وإن كان قوياً إلا وهو أقوى منه.
سمعت ألشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة فقال: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما تقول البكرة؟ فقلت: لا، فقال: تقول الله. الله.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن طاهر يقول: سمعت عبد الله بن سهل يقول: سمعت رويماً يقول: روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه سمع صوت ناقوس فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: سبحن الله، حقاً، إن المولى صمدٌ يبقي.
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن علي الكرخي الوجيهي يقول: كان جماعة من الصوفية متجمعين في بيت الحسن القزاز، ومعهم قوالون يقولون ويتواجدون، فأشرف عليهم ممشاد الدينوري؛ فسكتوا، فقال: أرجعوا إلى ما كنتم فيه، فلو جمع ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي.
وبهذا الإسناد عن الوجيهي قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: بلغنا في هذا الأمر إلى مكان مثل حد السيف إن قلنا كذا ففي النار.
وقال خبر النساج: قص موسى بن عمران، صلوات الله عليه، على قوم قصة، فرزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجودي صاحوا، فلم تنكر على عبادي؟! وقيل: سمع الشبلي قائلاً يقول: الخيارُ عشرةٌ بدنق فصاح وقال: إذا كان الخيار عشرة بدانق فكيف الشرار؟! وقيل: إذا تغنت الحور العين في الجنة توردت الأشجار.
وقيل: كان عون بن عبد الله يأمر جارية له حسنة الصوت فتغنى بصوت حزين حتى تبكي القوم.

وسئل أبو سليمان الداراني عن السماع، فقال: كل قلب يريد الصوت ألحسن فهو ضعيف يداوي كما يداوي الصبي إذا أريد أن ينام، ثم قال أبو سليما: إن الصوت الحسن لا يُدخل في القلب شيئاً، وإنما يحرك من القلب ما فيه. قال أبن أبي الحواري: صدق والله أبو سليمان.
وقال الجريري: كونوا ربانيين، أي سماعين من الله، قائلين بالله.
وسئل بعضهم عن السماع فقال: بروق تلمع ثم تخمد، وأنوار تبدوا ثم تخفى، ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها طرفة عين، ثم أنشأ يقول:
خطرة في السر منه خطرت ... خطرة البرق ابتدي ثم اضمحل
أي زور لك لو قصداً سري ... وملمِ بك لو حقاً فعل
وقيل: السماع فيه نصيب لكل عضو؛ فما يقع إلى العين تبكي، وما يقع إلى لسان يصيح، وما يقع على اليد تمزق الثياب وتلطم، وما يقع إلى الرجل ترقص.
وقيل: مات بعض ملوك العجم، وخلف ابناً صغيراً، فأرادوا أن يبايعوه قالوا: كيف نصل إلى معرفة عقله وذكائه؟!.. ثم توافقوا على أن يأتوا بقوال، فلما قال زال شيئاً ضحك الرضيع، فقبلوا الأرض بين يديه وبايعوه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: اجتمع أبو عمرو بن نجيد، والنصراباذي، الطبقة في موضع؛ فقال النصراباذي: أنا أقول إذا اجتمع القوم فواحد يقول شيئاً ويسكت الباقون خير من أن يغتابوا أحداً.
فقال أبو عمرو: لأن تغتاب أنت ثلاثين سنة أنجى لك من أن تظهر في السماع ما لستَ به.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: الناس في السماع ثلاثة: متسمع؛ ومتسمع؛ وسامع؛ فالمتسمع يسمع بوقت؛ والمستمع يسمع بحال: والسامع يسمع بحق.
وسألت الأستاذ أبا علي الدقاق: رحمه الله تعالى، غير مرة. شبه طلب رخصة في السماع، فكان يحيلني على ما يوجب الإمساك عنه، ثم بعد طول المعاودة قال: إن المشايخ قالوا: ما جمع قلبك إلى الله قلبك إلى الله سبحانه وتعالى فلا بأس به.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد ألأهوازي قال: أخبرنا أ؛مد بن عبيد البصري قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا يحيى بن يعلي الرازي قال: حدثنا حفص بن عمر العمري قال: حدثنا أبو عمر وعثمانبن بدر قال: حدثنا هارون ابن حمزة عن الغدافري قال: حدثنا أبو عمر وعثمان بن بدر قال: حدثناهارون ابن حمزة عن الغدافري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام: إني جعلت فيك عشرة آلاف سمع حتى سمعت كلامي، وعشرة آلاف لسان حتى أحببتني، وأحبُّ ما تكون إلي وأقربه إذا أكثرت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: رأى بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: الغلط في هذا أكثر؛ يعنى به: السماع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر النهاوندي يقول: سمعت عليا السائح يقول: سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول: رأيت أبليس، لعنه الله، في المنام علي بعض سطوح أولاس وأنا على سطح، وعلى يمينه جماة، وعلى يساره جماعة، وعليهم ثياب نظاف، فقال لطائفة منهم: قالوا.. فقالوا، وغنوا، فاستفزعني طيبه، حتى همست أن أطرح نفسي من السطح.
ثم قال: ارقصوا، فرقصوا أطيب ما يكون..
ثم قال لي: يا أبا الحارث، ما أصبتُشيئاً أدل به عليكم إلا هذا.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: اجتمعت ليلة من الشبلي، رحمه الله، فقال القوال، شيئاً، فصاح الشبلي، وتواجد قاعداً فقيل له: يا أبا بكر، مالك من بين الجماعة قاعداً؟! فقام وتواجد، وقال:
لي سَكْرَتان، وللندمانِ واحدةٌ ... شيء خُصِصْتُ به من بينهم وحدي
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: جزت بقصر، فرأيت شاباً حسن الوجه مطروحاً، وحوله خلص، فسألت عنه، فقالوا: إنه جاز بهذا القصر وفيه جارية تغنى:
كبُرَت همَّة عبد ... طمعت في أن تراكا
أو ما حسب لعينٍ ... أن ترى من قد رآكا
فشهق شهقة ومات.
باب كرامات الأولياء
قال الأستاذ أبو القاسم: ظهورُ الكرامات على الأولياء جائز.

والدليل على جوازه أنه أمر موهومٌ حدوثه في العقل لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجبٌ وصفه، سبحانه، بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدوراً لله، سبحانه، فلا شيء يمنع جواز حصوله.
وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله، فمن لم يكن صادقاً فظهور مثلها عليه لا يجوز. والذي يدل عليه أن تعريف القديم سبحانه إيانا، حتى نفرق بين من كان صادقاً في أحواله، وبين من هو مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يكون ذلك إلا باختصاص الولي بما لايوجد مع المفتري في دعواه، وذلك الأمر هو الكرامة التي أشرنا إليها.
ولابد أن تكون هذه الكرامة فعلاً ناقضاً للعادة في أيام التكليف، ظاهراً على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله.
وتكلم الناس في الفرق بين الكرامات وبين المعجزات من أهل الحق؛ فكان الإمام أبو إسحاق الإسفرايني، رحمه الله، يقول: المعجزات دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي، كما أن العقل المحكم لما كان دليلاً لعالم في كونه عالماً لم يوجد ممن لا يكون عالماً.
وكان يقول: الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعاء، فأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا.
وأما الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله، فكان يقول: المعجزات: بدلالات الصدق، ثم إن ادعي صاحبها النبوة فالمعجزات تدل على صدقه في مقالته، وإن أشار صاحبها إلى الولاية دلت المعجزة علي صدقه في حلته، فتسمى كرامة ولا تسمى معجزة وإن كانت من جنس المعجزات للفرق.
وكان رحمه الله يقول: من الفرق بين المعجزات والكرامات: أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهارها والوليّ يجب عليه سترها وإخفاؤها، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعى ذلك ويقطع القول به، والولي لا يدعيها ولا يُقطع بكرامته، لجواز أن يكون ذلك مكراً.
وقال أوحد فنه في وقته القاضي أبو بكر الأشعري، رضي الله عنه: إن المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كما تكون للأنبياء ولا تكون للأولياء معجزة، لأن من شرط المعجزة اقتران دعوة النبوة بها، والمعجزة لم تكن معجزة لعينها، وإنما كانت معجزة لحصولها على أوصاف كثيرة، فمتى اختل شرط من تلك الشرائط، لا تكون معجزة. وأحد تلك الشرائط: دعوة النبوة، والولي لا يدعي النبوة، فالذي يظهر عليه لا يكون معجزة..
وهذا القول الذي نعتمده ونقول به، بل ندين به.
فشرائط المعجزات، كلها أو أكثرها، توجد في الكرامة إلا هذا الشرط للواحد. والكرامة فِعْل لا محالة محدث، لأن ما كان قديماً لم يكن له اختصاص بأحد، وهو ناقض للعادة، وتحصل في زمان التكليف وتظهر على عبد تخصيصاً له وتفضيلاً. وقد تحصل باختياره ودعائه، وقد لا تحصل له، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات، ولم يؤمر الوليّ بدعاء الخلق إلى نفسه ولو أظهر شيئاً من ذلك على من يكون أهلاً له لجاز.
واختلف أهل الحق في الولي: هل يجوز أني علم أنه ولي؟ أم لا؟ فكان الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله يقول: لا يجوز ذلك: لأنه بسلبه الخوف ويوجب له الأمن.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول بجوازه.
وهو الذي يؤثره ونقول به.
وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء حتى يكون كلُّ وليًّ يعلم أنه وليَّ واجباً، ولكن يجوز أن يعلم بعضهم كما يجوز أن لا يعلمه بعضهم. فإذا علم بعضهم أنه ولي كانت معرفته تلك كرامة له انفرد بها.
وليس كل كرامة لوليّ يجب أن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء. بل لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في النيا لم يقدح عدمها في كونه وليا. بخلاف الأنبياء فإنه يجب أن تكون لهم معجزات؛ لأن النبي مبعوث إلى الخلق فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه؛ ولا يعرف إلا بالمعجزة.
وبعكس ذلك حال الولي؛ لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولي أيضاً، العلم بأنه وليّ.
والعشرة من الصحابة صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به أنهم من أهل الجنة.
وقول من قال لا يجوز ذلك لأنه يخرجهم من الخوف فلابأس أن يخافوا تغيير العقابة، والذي يجدونه في قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال للحق سبحانه، يزيد ويربوعلى كثير من الخوف.

وأعلم أنه ليس للولي مساكنة إلى الكرامة التي تظهر عليه، ولا له ملاحظة. وربما يكون لهم في ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم أن ذلك فعل الله، فيستدلون بها على صحة ما هم عليه من العقائد.
وبالجملة، فالقول بجواز ظهورها على الأولياء واجب، وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة ما تواتر بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها على الأولياء في الجملة علماً قوياً أنتفى عنه الشكرك. ومن توسط هذا الطائفة وتواتر عليه حكاياتهم وأخبارهم لمتبق له شبهة في ذلك على الجملة. ومن دلائل هذه الجملة: نص القرآن في قصة صاحب سليمان عليه السلام. حيث قال " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " ولم يكن نبياً.
والأثر: عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، صحيح أنه قال: يا سارية الجبل في حال خطبته يوم الجمعة، وتبليغ صوت عمر إلى سارية في ذلك الوقت حتى تحرز من مكامن العدو من الجبل في تلك الساعة.
فإن قيل: كيف يجوز إظهار هذه الكرامات الزائدة في المعاني على معجزات الرسل؟ وهل يجوز تفضيل الأولياء على الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنكل من له بصادق في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة. وكل نبي ظهرت كرامته على واحد من أمته فهي معدودة من جملة معجزاته؛ إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقاً لم تظهر على يد من تابعه الكرامة. فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ ربتةَ الأنبياء عليهم السلام: للإجماع المنعقد على ذلك.
وهذا أبو يزيد البسطامي سئل عن هذه المسألة فقال: مثل ما حصل للأنبياء عليهم السلام كمثل زِق فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرةُ مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل لنبينا صلى الله عليه وسلم.
الكرامات
قد تكون إجابة دعوة، وقد تكون إظهار طعام في أوان فاقة من غير سبب ظهار، أو حصول ماء في زمان عطش، أو تسهيل قطع مسافة في مدة قريبة، أو تخليصاً من عدو، أو سماع خطاب من هاتف، أو غير ذلك من فنون الأفعال الناقضة للعادة.
وأعلم أن كثيراً من المقدورات يعلم اليوم قطعاً أنه لايجوز أن يظهر كرامة للأولياء؛ وبضرورة أو شبه ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين، وقلبَ جمادٍ بهيمة أو حيواناً، وأمثال هذا كثير.
فصل فإن قيل
الولي
قيل: يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون فغيلاً مبالغة من الفاعل؛ كالعليم، والقدير غيره، فيكون معناه: من توالت طاعاته من غير تخلل معصية.
ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وهو الذي يتولى الحقّ، سبحانه، حفظه وحراسته على الإدامة والتوالي، فلا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، وإنما يديم توفيقه الذي هو قدرة الطاعة، قال الله تعالى: " وهو يتولى الصالحين " .
فصل فإن قيل: هل يكون الولي معصوماً قيل: أما وجوباً، كما يقال في الأنبياء فلا. وأما أن يكون محفوظاً حتى لا يصر على الذنوب إن حصلت هنات أو آفات أو زلات، فلا يمتنع ذلك في وصفهم.
ولقد قيل للجنيد: العارف يزني يا أبا القاسم؟ فاطرق ملياً، ثم رفع رأسه وقال: " وكان أمر الله قدراً مقدرواً " .
فصل فإن قيل: هل يسقط الخوف عن الأولياء قيل: أما الغالب على الأكابر فكان الخوف، وذلك الذي قلنا فيما تقدم على جهة الندرة غير ممتنع، وهذا السري السقطي يقول: لو أن واحداً دل بستاناً فيه أشجار كثيرة وعلى كل شجرة طير يقول له بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله. فلو لم يخف أنه مكرٌ لكان ممكوراً وأمثال هذا من حكاياتهم كثيرة.
فصل فإن قيل: رؤية الله سبحانه هل تجوز رؤية الله سبحانه على جهة الكرامة بالأبصار اليوم في الدنيا على جهة الكرامة؟ فالجواب عنه: أن الأقوى فيه أنه لا يجوز؛ لحصول الإجماع عليه، ولقد سمعت الإمام أبا بكر بن فورك، رضي الله عنه، يحكى عن أبي الحسن الأشعري أنه قال في ذلك قولين في كتاب الرؤية الكبير.
فصل فإن قيل: تغير حال الولي هل يجوز أن يكون ولياً في الحال ثم تتغير عاقبته قيل: مَن جعل مَن شرط الولاية حُسن الموافاة لا يجوز ذلك.

ومن قال: إنه في الحال مؤمن على الحقيقة وإن جاز أن يتغير حاله بعد لا يبعد أن يكون ولياً في الحال صديقاً، ثم يتغير، وهو الذي نختاره.
ويجوز أن يكون من جملة كرامات الوليّ أن يعلم أنه مأمون العاقبة، وأنه لا تتغير عاقبته، فتلتحق هذه المسألة بما ذكرنا أن الولي يجوز أن يعلم أنه ولي.
فصل فإن قيل: هل يزايل الولي خوف المكر قيل: إن كان مصطلماً عن شاهده، مختطفاً عن إحساسه بحالة فهو مستهلك عنه فيما استولى عليه، والخوف من صفات الحاضرين بهم.
فصل فإن قيل: ما الغالب على الولي في صحره قيل: صدقه في لأداء حقوقه، سبحانه، ثم رفقه على الخلق في جميع أحواله. ثم انبساط رحمته لكافة الخلق. ثم دوام تحمله عنهم بجميل الخلق. وابتدائه لطلب الإحسان من الله عزّ وجلّ إليهم من غير التماس منهم. وتعليق الهمة بنجاة الخلق، وترك الانتقام منهم، والتوقي عن استشمار حقد عليهم مع قصر اليد عن أموالهم، وترك الطمع بكل وجه فيهم، وقبض اللسان عن بسطه بالسوء فيهم، والتصاون عن شهود مساو بهم، ولا يكون خصماً لأحد في الدنيا ولا في الآخرة.
واعلم أنَّ من أجلّ الكرامات التي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات، والعصمة عن المعاصي والمخالفات، ومما يشهد من القرآن على إظهار الكرامات على الأولياء قوله، سبحانه، في صفة مريم عليها السلام ولم تكن نبياً ولا رسولا: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " . وكان يقول: " أنى لك هذا؟ " فتقول مريم: " هو من عند الله " . وقوله سبحانه: " وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " وكان في غير أوان الرطب، وكذلك قصة أصحاب الكهف والأعاجيب التي ظهرت عليهم من كلام الكلب معهم وغير ذلك، ومن قصة ذي القرنين وتمكينه سبحانه له ما لم يمكن لغيره، ومن ذلك ما أظهر على يدي الخضر عليه السلام من إقامة الجدار وغيره من الأعاجيب، ومن كان يعرفه مما خفي على موسى عليه السلام. كلُّ ذلك أمور ناقضة للعادة اختصَّ الخضر عليه السلام بها، ولم يكن نبياً، وإنما كان ولياً.
ومما روي من الأخبار في هذا الباب حديث جريج الراهب؛ أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني قال: أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إبراهيم بن إسحاق قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عوانة: وحدَّثني الصنعانيُّ، وأبو أمية قالا: حدثنا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصبي في زمن جريج، وصبي آخر؛ فأما عيسى فقد عرفتموه. وأما جريج فكان رجلا عابداً في بني إسرائيل. وكانت له أمٌّ. فكان يوماً يصلي إذا اشتاقت إليه أمه. فقالت: يا جريج. فقال: يا رب، الصلاة خير أم آتيها؟ ثم صلى. فدعته، فقال مثل ذلك. ثم صلى. فاشتدّ على أمه. فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. وكانت زانية في بني إسرائيل، فقالت لهم: أنا أفتن جريجاً حتى يزني؛ فأتته، فلم تقدر على شيء. وكان راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته، فلما أعياها راودت الراعي على نفسها؛ فأتاها، فولدت، ثم قالت: ولدي هذا جريج. فأتاه بنو إسرائيل، وكسروا صومعته، وشتموه، ثم صلى ودعا، ثم نخس الغلام.
قال محمد قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده: يا غلام من أبوك؟ فقال: الراعي؛ فندموا على ما كان منهم، واعتذروا إليه، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب - أو قال: من فضة - فأبى عليهم، وبناها كما كانت..
وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه، إذ مرَّ بها شاب جميل الوجه، ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله..
قال محمد: قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يحكي الغلام وهو يرضع ثم مرت بها أيضاً امرأة ذكروا أنها سرقت، وزنت، وعوقبت، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذا!! فقال: اللهم اجعلني مثلها...
فقالت له أمه في ذلك، فقال: إن الشابّ جبار من الجبابرة، وإن هذه المرأة قيل: إنها زنت ولم تزن، وقيل: سرقت ولم تسرق، وهي تقول: حسبي الله " .
وهذا الخبر روي في الصحيح، ومن ذلك حديث الغار، وهو مشهور مذكور في الصحاح.

أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إبراهيم بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عون، وزيد بن عبد الصمد الدمشقي، وعبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولي، وأبو الخصيب بن المستنير المصيصي قالوا: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار. فقالوا: إنه والله كان من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم؛ فقال رجل منهم: إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلها أهلاً ولا مالاً، فعاقني طلب الشجرة يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فجئتهما به.. فوجدتهما نائمين.. فتحرجت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهم حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم إنه كان لي بنت عمْ، وكانت أحبُّ الناس إليّ، فراودتها عن نفسها، فامتنعت، حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أ، تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت.. حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقّه!! فتحرجت من الوقوع عليها.. فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ.. وتركتُ الذهب الذي أعطيتها: اللهم، إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، حين أنه لا يستطيعون الخروج منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم قال الثالث: للهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم، غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدّ إليّ أجرتي، فقلت له. كلّش ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والبقر والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزيء بي!! فقتل: إني لا استهزىء بك، فأخذ ذلك كله فاستاقه، ولم يترك منه شيئاً. " اللهم فن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.. فانفرجت الصخرة. فخرجوا من الغار يمشون " .
ومن ذلك الحديث الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه إن البقرة كملتهم: أخبرنا أبو نعيم الإسفرايني قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يوسن بن يزيد، عن ابن شهاب قال: حدثني سعيد بن المسبب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها.. التفتت البقرة وقالت: إني لم أخلق لهذا؛ إنما خلقت للحرث! فقال الناس: سبحان الله!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر " .
ومن ذلك حديث أويس القرني، وما شهد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حاله وقصته، ثم التقاؤه مع هرم بن حيان، وتسليم أحدهما على صاحبه من غير معرفة تقدمت بينهما، وكل ذلك أ؛وال ناقضة للعادة. وتركنا شرح حديث أويس لشهرته.
ولقد ظهر علي السلق من الصحابة والتابعين، ثم على من بعدهم من الكرامات ما بلغ حد الاستفاضة.
وقد صًنفق في ذلك كتب كثيرة وسنشير إلى طرف منها على وجه الإيجاز، إن شاء الله عز وجل، فمن ذلك: أن ابن عمر كان في بعض الأسفار فلقي جماعة وقفرا على الطريق من خوف السبع، فطردَ السبعَ من طريقهم، ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه، ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. وهذا خبر معروف.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة، فحال بينهم وبين الموضع قطعة من البحر، فدعا الله باسمه الأعظم ومشوا على الماء.
وروي ان عتاب بن بشير، وأسيد بن خضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضاء لهما رأس عصا أحد كالسراج.
وروي أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء قصعة.. فسبحت حتى سمعا التسبيح.
وروي أ، النبي صلة الله عليه وسلم قال: " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " .
ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله سبحانه.
وهذه الأخبار لشهرتها أضربنا عن ذكر أساتيذها.

وحكي عن سهل بن عبد الله أنه قال: " من زهد في الدنيا أربعين يوماً صادفاً من قلبه مخلصاً في ذلك ظهرت ل الكرامات، ومن لم تظهر له، فلعدم الصدق في زهده " . فقيل لسهل: كيف تظهر له الكرامة؟ فقال: يأخذ ما يشاء كما يشاء من حيث يشاء.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثناأحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا أبو مسلم قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون قال: حدثنا وهب بن كيسان، عن ابن عمر، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رجل ذكر كلمة إذ سمع رعداً في السحاب. فسمع صوتاً في الحاب: أن أسق حديقة فلان، فجاء ذلك السحاب إلى سرحة فافرع ماءه فيها، فاتبع السحاب. فإذا رجل قائم يصلي في حديقة. فقال: ما اسمك؟ فقال: فلان بن فلان باسمه. قال: فما تصنع بحديقتك هذه إذ صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان. قال: أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً. فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأرد عليها ثلثا. واجعل للمساكين وابن السبيل ثلثاً " .
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: دخلنا تستر فرأينا في قصر سهل بن عبد الله بيتاً كان الناس يسمونه بيت السباع فسألنا الناس عن ذلك. فقالوا: كان السباع تجيء إلى سهل، فكان يدخلهم هذا البيت، ويضيفهم، ويطعمهم اللحم، ثم يخليهم.
قال أبو نصر: ورأيت أهل تستر كلهم تفقين على هذا لا ينكرونه وهم الجمع الكثير.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت حمزة بن عبد الل العلوي يقول: دخلت على أبي الخير التيناتي، وكنت أعتقد في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاماً، فلما خرجت من عنده ومشيت قدراً فإذا به خلفي، وقد حمل طبقاً عليه طعام، فقال: يا فتي. كل هذا؛ فقد خرجتَ الساعة من اعتقادك.
وأبو الخير التيناتي مشهرو بالكرامات.
وحكي عن إبراهيم الرقي أنه قال: قصدته مسلماً عليه، فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستوياً. فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي، فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع، قعدت إليه وقلت: إن الأسد قصدني!! فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيافتي؟؟ وتنحى وتطهرت. فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.
وقيل: كان لجعفر الخلدي فصفوقع يوماً في دجلةوكان عنده دعاء مجرَّب للضالة ترد فدعا به؛ فوجد الفصّ في وسط أوراق كان يتفحصها.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: إن ذلك الدعاء: " ياجامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع على ضالتي " .
قال أبو نصر السرَّاج: أراني أبو الطيب العكي جزءاً ذكر فيه من ذكر هذا الدعاء على ضالة وجدها، وكان الجزء أوراقاً كثيرة.
سألت أحمد الطابراني السرخسي، رحمه الله، فقلت له: هل ظهر لك شيء منالكرامات؟ فقال: في وقت إرادتي وابتداء أمري ربما كنت أطلب حجراً أستنجي به فلم أجد، فتناولت شيئاً من الهواء فكان جوهراً، فاستنجيت به وطرحته.
ثم قال: وأيّ خطر للكرامات؟! إنما المقصود منه: زيادة اليقين في التوحيد، فمن لا يشهد غيره موجداَ في الكون فسواء أبصر نعلا معتاداً، أو ناقصاً للعادة.
سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول:سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا الحسن البصري يقول: كان ب عبادان رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات، فحملت معي شيئاً وطلبته، فلما وقعت عينه عليَّ تبسم، وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت الأرض كلها ذهباً يلمع، ثم قال: هات ما معك، فناولته، وهالني أمره، وهربت.
سمعت منصور المغربي يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول: كان لي استقصاء في أمر الطهارة، فضاق صري ليلة، لكثرة ماصبب من الماء، ولم يسكن قلبي، فقلت: يا ربّ عفوك، فسمعت هاتفاً يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك.
سمعت منصوراً المغربي يقول: فرأيته يوماً قعد على الأرض في الصحراء وكان عليها آثار الغنم بلا سجادة، فقلت: أيها الشيخ هذه آثار الغنم!! فقال: اختلف الفقهاء فيه.

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرّاج يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازيَّ يقول: سمعت أبا سليمان الخواص يقول: كنت راكباً حماراً يوماً، وكان الذباب يؤذيه، فيطأطىء رأسه، فكنت أضرب رأسه بخشبة في يدي، فرفع الحمار رأسه وقال: اضرب، فإنك على رأسك هوذا تضرب.
قال الحسين: فقلت لأبي سليمان لك وقع هذا؟ فقال: نعم كما تسمعني.
وذكر عن ابن عطاء أنه قال: سمعت أبا الحسين النوري يقول: كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين، ثم قلت: وعزّتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقنّ نفسي. قال: فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال.
فبلغ ذلك الجنيد فقال: كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الفتح يوسف بن عمر الزاهد القواس ببغداد يقول: حدثنا محمد بن عطية قال: حدثنا عبد الكبير بن أحمد بمكة، فطال شعري ولم يكن معي قطعة من حديد آخذ بها شعري، فتقدمت إلى مزين توسمت فيه الخير، فقلت: تأخذ شعري لله تعالى؟ فقال: نعم، وكرامة، وكان بين يديه رجل من أبناء الدنيا فصرفه وأجلسني، وحلق شعري، ثم دفع إليّ قرطاساً فيه دراهم وقال لي: استعن بها على بعض حوائجك، فأخذتها واعتقد أن أدفع إليه أوَّل شيء يفتح عليّ به.
قال: فدخلت المسجد، فاستقبلني بعض أصحابي وقال لي: جاء بعض إخوانك بصرة من البصرة من بعض إخوانك فيها ثلاثمائة دينار.
وقال: فأخذت الصرة وحملتها إلى المزين وقلت: هذه ثلاثمائة دينار تصرفها في بعض أمورك. فقال لي: ألا تستحي يا شيخ!! تقول لي احلق شعري لله، ثم آخذ عليه شيئاً.. انصرف عافاك الله.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت بن سالم يقول: لما مات إسحق بن أحمد دخل عليه سهل بن عبد الله صومعته فوجد فيها سفطاً فيه قارورتان في واحدة منهما شيء أحمر، وفي الأخرى شيء أبيض،ووجد شوشقة ذهب، وشوشقة فضة، قال: فرمى بالشوشقتين في الدجلة؛ وخلط ما في القارورتين بالتراب، وكان على إسحاق دين قال ابن سالم: قلت لسهل: ماذا كان في القارورتين؟ قال: أحداهما لو طرح منها وزن درهم على مثاقيل من النحاس صار ذهباً، والأخرى لو طرح منها مثقال على مثاقيل من الرصاص صار فضة، فقلت: وماذا عليه لو قضي منه دينه؟ فقال: أي دوست خاف على إيمانه.
وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد النزق الشيطان، فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زروق.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: أملي علينا الوجيهي حكاية عن محمد بن يوسف البناء قال:كان أبو تراب النخشبي صاحب كرامات، فسافرت معه سنة، وكان معه أربعون نفساً: ثم أصابتنا مرة فاقة، فعدل أبو تراب عن الطريق، وجاء بعذق موز فتناولنا، وفينا شاب لم يأكل فقال له أبو تراب: كل.
فقال: الحال الذي اعتقدته تركُ المعلومات، وصرت أنت معلومي، فلا أصحبك بعد هذا!! فقال له أبوتراب: كن مع ما وقع لك.
وحكى أبو نصر السراج عن أبي يزيد قال: دخل عليَّ أبو علي السندي وكان أستاذ وبيده جراب، فصبها فإذا هي جواهر، فقلت: من أين لك هذا؟ فقال: وافيت وادياً ها هنا، فإذا هو يضيء كالسراج، فحملت هذا.
فقلت: فكيف كان وقتلك الذي وردت فيه الوادي؟ فقال: وقت فترة عن الحال التي كنت فيها.
وقيل لأبي يزيد: فلان يمشي في ليلة إلى مكة! فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله.
وقيل له فلان يمشي على الماء، ويطير في الهواء.
فقال: الطير يطير في الهواء، والسمك يمر على وجه الماء.
وقال سهل بن عبد الله: أكبر الكرامات أن تُبدل خُلقاً مذموماً من أخلاقك.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت ابن سالم يقول: سمعت أبي يقول: كان رجل يقال له عبد الرحمن بن أنس يصحب سهل بن عبد الله، فقال له يوماً: ربما أتوضأ للصلاة فيسيل الماء بين يدي قضبان ذهب وفضة.
فقال سهل: أما علمت أن الصبيان إذابكوا يعطون خشخشة ليشتغلوا بها؟؟ سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول أخبرني جعفر بن محمد قال: حدثني الجنيد قال:

دخلت على السري يوماً فقال لي: عصفور كان يجيء في كل يوم فأفت له الخبز، فيأكل من يدي، فنزل وقتاً من الأوقات فلم يسقط علي يدي، فتذكرت في نفسي: ماذا يكون السبب؟ فذكرت أني أكلت ملحاً بأبزار، فقلت في نفسي: لا آكل بعدها، وأنا تائب منه؛ فسقط على يدي وأكل.
وحكى أبو عمرو الأنماطي قال: كنت مع أستاذي في البادية، فأخذنا المطر، فدخلنا مسجداً نستكن فيه، وكان السقف يفك، فصعدنا السطح، ومعنا خشبة نريد إصلاح السقف، فقصر الخشب عن الجدار، فقال لي أستاذي: مدها، فمددتها.. فركبت الحائظ من هاهنا ومن هاهنا.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبا بكر الدقاق يقول: كنت ماراً في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
وقال بعضهم: كنت عند خير النساج، فجاءه رجل وقال: أيها الشيخ رأيتك أمس وقد بعت العزل بدرهمين، فجئت خلفك، فحللتهما من طرف إزارك، وقد صارت يدي منقبضة على الدرهمين في كفي، قال: فضحك خير وأومأ بيده إلى يدي ففتحها، ثم قال: امض واشتر بهما لعيالك شيئاً، ولا تعد لمثله..
وحكي عن أحمد بن محمد السلمي قال: دخلت على ذي النون المصري يوماً، فرأيت بين يديه طشتاً من ذهب، وحوله الندّ، والعنبر يسجر، فقال لي: أنت ممن يخل على الملوك في حال بسطهم؟ ثم أعطاني درهما، فانفقت منه إلى بلخ.
وحي عن أبي سعيد الخراز قال: كنت في بعض أسفاري، وكان يظهر لي كل ثلاثة أيام شيء، فكنت آكله، وأستقل به، فمضى عليَّ ثلاثة أيام وقتاً من الأوقات ولم يظهر شيء فضعفت!! وجلست، فهتف بي هاتف. أينما أحب إليك: سبب، أو قوة؟ فقلت: القوة. فقمت من وقتي، ومشيت أثني عشر يوماً لم أذق فيهما شئياً، ولم أضعُف.
وعن المرتعش قال: سمعت الخواص يقول: تهت في البادية أياماً، فجاءني شخص وسلم عليّ، وقال لي: تهت!1 فقلت له: نعم، فقال: ألا أدلك على الطريق؟ ومشى بين يدي خطوات، ثم غاب عن عيني، وإذا أنا على الجادة، فبعد ذلك ما تهت ولا أصابني في سفر جوع ولا عطش.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، يقول: سمعت عمر بن يحيى الأردبيلي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبن الجلاء يقول لي: لما مات أبي ضحك على المغتسل؛ فلم يجسر أحد يغسله، وقالوا: إنه حي، حي جاء واحد من أقرانه وغسله.
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت طلحة القصائري يقول: سمعت المنيحي صاحب سهل بن عبد الله يقول: كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوماً، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي.
وكان أبو عبيد البسريّ إذا كان أول شهر رمضان يدخل بيتاً، ويقول لامرأته:طبني على الباب، وألقي إليّ كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتح الباب ودخلت امرأته البيت فإذا بثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب، ولا نام، ولا فاتته ركعة من الصلاة.
وقال أبو الحارث الأولاشي: مكثت ثلاثين سنة ما يسمع لساني إلا من بصري، ثم تغيرت الحال؛ فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي.
حدينا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أبو الحسين غلام شعوانة قال: سمعت علي بن سالم يقول: كان سهل بن عبد الله أصابته زمانة في آخر عمره، فكان إذا حضر وقت الصلاة انتشرت يداه ورجلاه، فإذا فرغ من الفرض عاد إلى حال الزمانة.
وحكي عن أبي عمران الواسطي قال: انكسرت السفينة وبقيت أنا وامرأتي على لوح، وقد ولدت في تلك الحالة صبية، فصاحت بي وقالت لي: يقتلني العطش!! فقلت: هو ذا يرى حالنا؛ فرفعت رأسي، فإذا رجل في الهواء وفي يده سلسلة من ذهب وفيها كوز من ياقوت أحمر، وقال: هاك اشربا. قال: فأخذت الكوز وشربنا منه فإذا هو أطيب من المسك وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل. فقلت: من أنت رحمك الله؟ فقال: عبد لمولاك، فقلت: بِمَ وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت هواي لمرضاته فأجلسني في الهواء. ثم غاب عني ولم أره.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا بكران بن أحمد الجيلي قال: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: رأيت شاباً عند الكعبة يكثر الركوع والسجود فدنوت منه، وقلت؛ إنك تكثر الصلاة!! فقال: أنتظر الأذن من ربي في الانصراف.

قال: فرأيت رقعة سقطت عليه، مكتوب فيها: " من العزيز الغفور إلى عبدي الصادق: انصرف مغفوراً لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " .
وقال بعضهم: كنت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده مع جماعة نتجارى الآيات، ورجل ضرير بالقرب منا يسمع، فتقدم إلينا، وقال: أنست بكلامكم؛ اعلموا أنه كان لي صبية وعيال، وكنت أخرج إلى البقيع اختطب، فخرجت يوماً. فرأيت شاباً عليه قميص كتان ونعله في إصبعه، فتوهمت أنه تائه. فقصدته أسلب ثوبه: فقلت له: إنزع ما عليك. فقال: تسر في حفظ الله. فقلت الثانية والثالثة. فقال لابد؟ فقلت: لابد!! فأشار من بعيد بأصبعه إلى عيني فسقطنا. فقلت: بالله عليك. من أنت؟ فقال: إبراهيم الخواص.
وقال ذو النون المصري: كنت وقتاً في السفينة فسرقت قطيفة. فاتهموا بها رجلاً. فقلت: دعوه حتى أرفق به. وإذا الشاب نائم في عباءة: فأخرج رأسه من العباءة فقال له: ذو النون في ذلك المعنى. فقال: أليَ تقول ذلك؟! أقسمت عليك يا رب أن لا تدع واحداً من الحيتان إلا جاء بجوهرة. قال: فرأينا وجه الماء حيتاناً في أفواههم الجواهر، ثم ألقى الفتى نفسه في البحر ومر إلى الساحل.
وحي عن إبراهيم الخواص قال: دخلت البادية مرة فرأيت نصرانياً على وسطه زنار فسألني الصحبة فمشينا سبعة أيام فقال لي: يا راهب الحنيفية هات ما عندك من الانبساط فقد جعنا إلهي لا تفضحني مع هذا الكافر. فرأيت طبقاً عليه خبز وشِوَاء ورطب وكوز ماء. فأكلنا وشربنا ومشينا سبعة أيام ثم بادرت وقلت: يا راهب النصارى. هات مع عندك. فقد انتهت النوبة إليك. فاتكأ على عصاه. ودعا. فإذا بطبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي. قال: فتحيرت، وتغيرت. وأبيت أن آكل. فألح عليَّ فلم أجبه. فقال: كل؛ فإني أبشرك ببشارتين إحداهما: أني أشهد أن لا إله إلى الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وحلَّ الزُنار. والأخرى: أني قلت: اللهم إن كان هذا العبد خطر عند فافتح عليّ بهذا؛ ففتح. فأكلنا ومشينا وحجَّ. وأقمنا بمكة سنة ثم إنه مات ودفت بالبطحاء.
وقال محمد بن المبارك الصوري: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، فسمعت صوتاً من أصل الرمان: ياأبا إسحق أكرمنا بأن نأكل منا شيئاً، فطأطأ إبراهيم رأسه، فقال ثلاث مرات. ثم قال: يا محمد كن شفيعاً إليه؛ ليتناول منا شيئاً فقلت: يا أبا اسحق، لقد سمعت. فقام وأخذ رمانتين، فأكل واحدة وناولني الأخرة فأكلتها وهي حامضة، وكانت شجرة قصيرة، فلما رجعنامررنا بها فإذا هي شجرة عالية ورمانها حلو. وهي تثمر في كل عام مرتين. وسموها رمانة العابدين ويأوي إلى ظلها العابدون.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن الفرحان يقول:سمعت الجنيد يقول: سمعت أبا جعفر الخصاف يقول: حدثني جابر الرحبي قال: أكثر أهلُ الرحبة عليَّ الإنكار في باب الكرامات، فركبت السبع يوماً ودخلت الرحبة، وقلت: أين الذين يكذبون أولياء الله؟ قال: فكفوا بعد ذلك عني.
سمعت منصوراً المغربي يقول: رأى بعضهم الخضر عليه السلام، فقال له: هل رأيت فوقك أحداً؟ فقال: نعم، كان عبد الرزاق بن همام يروي الأحاديث بالمدينة، والناس حوله يستمعون..
فرأيت شاباً بالعبد منهم رأسه على ركبتيه. فقلت له: يا هذا عبد الرزاق يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.فلم لا تسمع منه؟ فقال: إنه يروي عن ميت، وأنا لست بغائب عن الله؟ فقلت: إن كنت كما تقول، فمن أنا؟! فرفع رأسه وقال: أنت أخي أبو العباس الخضر، فعلمت أن لله عباداً لم أعرفهم.
وقيل: كان لإبراهيم بن أدهم صاحب يقال له يحيى يتعبد في غرفة ليس إليها سُلم ولا دَرَج، فكان إذا أراد أن يتطهر، يجيىء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويمر في الهواء كأنه طير، ثم يتطهر، فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: سمعت عمر بن محمد بن أحمد الشيرازي بالبصرة قال: سمعت أبا محمد جعفر الحذاء بشيراز قال: كنت أتأدب بأبي عمر الاصطخري، فكان إذا خطر لي خاطر أخرجُ إلى اصطخر فربما أجابني عما احتاج إليه من غير أن أسأله، وربما سألته فأجابني ثم شغلت عن الذهاب فكان إذا خطر على سرِّي مسألة أجابني من اصطخر، فيخاطبني بما يَردُ عليَّ.

وحكي عن بعضهم قال: مات فقير في بيت مظلم، فلما اردنا غسله تكلفنا طلب سراج، فوقع من كوة ضوء.. فأضاء البيت، فغسلناه، فلما فرغنا ذهب الضوء كأنه لم يكن.
وعن آدم بن أبي إياس قال: كنا بعسقلان، وشاب يغشانا ويجالسنا. ويتحدث معنا؛ فإذا فرغنا قام إلى الصلاة يصلي، قال: فودعنا يوماً وقال: أريد الإسكندرية. فخرجت معه، وناولته دريهمات، فأبى أن يأخذها. فالححت عليه فألقى كفاً من الرمل في ركوته. واستقى من ماء البحر. وقال: كله!! فنظرت فإذا هو سويق بسكر كثير فقال، من كان حالهمعه مثل هذا يحتاج إلى دراهمك؟! ثم أنشأ يقول:
بحق الهوى يا أهل ودي تفهموا ... لسانَ وجوي بالوجود غريب
حرام على قلب تعرّض للهوى ... يكونُ لغير الحق فيه نصيب
ولغيره:
ليس في القلب والفؤاد جميعاً ... موضعٌ فارغ يراه الحبيب
هو سُؤلي ومُنيتي وسروري ... وبه ما حييت عيشي يطيب
وإذا ما السقام حل بقلبي ... لم أجد غيره لقسمي طبيب
جاءني يهودي يتقاضى عليَّ في دين كان له عليَّ. وأنا قاعد عند الأتون أوقد تحت الاجر. فقال لي اليهودي: يا إبراهيم. أرني آية أسلم عليها..
فقلت له: تفعل؟! فقال: نعم. فقلت: إنزع ثوبك. فنزع، فلففته، ولففت على ثوبه ثوبي، وطرحته في النار، ثم دخلت الأتون وأخرجت الثوب من وسط النار وخرجت من الباب الآخر، فإذا ثيابي بحالها لم يصيبها شيء، وثيابُه في وسطها صارت حراقة، فأسلم اليهودي.
وقيل: كان حبيب العجمي يُرى بالبصرة يوم الترويه، ويوم عرفة بعرفات سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: تزوج عباس بن المهتدي امرأة، فلما كانت ليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنوَّ منهازُجر عنها، فامتنع من وطئها، وخرج.. فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج!! قال الأستاذ الإمام: هذا هو الكرامة على الحقيقة؛ حيث حفظ عليه العلم.
وقيل: كان الفضيل بن عياض على جبل من جبل منى، فقال: لو أن ولياً من أولياء الله تعالى أمر هذا الجبل أن يميد لماد، قال: فتحرك الجبل. فقال: أسكن، لم أردك بهذا!! فسكن الجبل.
وقال عبد الواحد بن زيد لأبي عاصم البصري: كيف صنعت حين طلبك الحجاج؟ قال: كنت في غرفتي فدقوا على الباب، فدخلوا، فدفعت بي دفعة، فإذاأنا على جبل أبي قبيس بمكة، فقال له عبد الواحد: من أين كنت تأكل؟ قال: كانت تصعد إلى عجوز كل وقت إفطاري بالرغيفين اللذين كنت آكلهما بالبصرة.
فقال عبد الواحد: تلك الدنيا أمرها الله تعالى أن تخدم أبا عاصم.
وقيل: كان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ولا يستقبله أحد إلا أعطاه شيئاً، فكان إذا أتى منزله رمى إليه بالدراهم، فتكون بمقدار ما أخذه لم ينقص شيئاً.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت أبا أحمد الكبير يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: يقول: سمعت أبا عمرو الزجاجي يقول: دخلت على الجنيد، وكنت أريد أن أخرج إلى الحج، فأعطاني درهماً صحيحاً، فشددته على مئزري، فلم أدخل منزلاً إلا وجدت فيه رفقاء، ولم أحتج إلى الدرهم؛ فلما حججت، ورجعت إلى بغداد دخلت على الجنيد. فمدَّ يده وقال: هات، فناولته الدرهم، فقال: كيف كان؟ فقلت: كان الختم نافذاً.
وحكي عن أبي جعفر الأعور قال: كنت عند ذي النون المصري، فتذاكرنا حديث طاعة الأشياء للأولياء، فقال ذو النون. من الطاعة أن أقول لهذا السرير يدور في أربع زوايا البيت، ثم يرع إلى مكانه فيفعل، قال فدار السرير في أربع زوايا البيت وعاد إلى مكانه. وكان هناك شاب فأخذ يبكي حتى مات في الوقت.
وقيل: إن واصلاً الأحدب قرأ: وفي السماء رزقكم وما توعدون. فقال: رزقي في السماء وأناأطلبه في الأرض؟ والله لا طلبته أبداً!! فدخل خربة ومكث يومين فلم يظهر له شيء. فاشتد عليه، فلما كان اليوم الثالث إذا بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه نية، فصار معه، فإذن: قد صار دوخلتين فلم يزل ذلك حالهما حتى فرق بينهما الموت.
وقال بعضهم: أشرفت على إبراهيم بن إبراهيم، وهو في بستان يحفظه، وقد أخذه النوم، وإذا حية في فيها طاقة نرجس تروِّحه بها.

وقيل: كان جماعة من أيوب السجستاني في السفر فأعياهم طلب الماء، فقال أيوب: أتسترون عليّ ما عشت؟ فقالوا: نعم، فدور دائرة فنبع الماء، فشربنا فقال: فلما دخلنا البصرة أخبر به حماد بن زيد، فقال عبد الواحد بن زيد شهدتُ معه ذلك اليوم.
وقال بكر بن عبد الرحمن: كنا مع ذي النون المصري في البادية، فنزلنا تحت شجرت من أم غيلان فقلنا: ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب؛ فتبسم ذو النون وقال أتشتهون الرطب؟ وحرّك الشجرة وقال: أقسمت عليك بالذي ابتدأك وخلقك شجرت إلا نثرتِ علينا رطباً جنياً.. ثم حرّكها، فنثرت رطباً جنياً. فأكلنا وشعبنا. ثم نمنا فانتبهنا وحركنا الشجرة فنثرت علينا شوكاً.
وحكي عن أبي القاسم بن مروان النهاوندي قال: كنت أنا وأبو بكر الوراق مع أبي سعيد الخراز نمشي على ساحل البحر نحو صيدا فرآى شخصاً من بعدي، فقال: اجلسوا. لايخلوا هذا الشخص أن يكون ولياً من أولياء الله. قال: فما لبثنا أن جاء شاب حسن الوجه. وبيده رِكوة ومحبرة وعلين مرقعة. فالتفت أبو سعيد إليه منكراً عليه لحمله المحبرة مع الركوة فقال له: يا فتى، كيف الطرق إلى الله تعالى؟ فقال: ياأبا سعيد، أعرف إلى الله طريقين: طريقاً خاصاً، وطريقاً عاماً، فأما الطريق العام فالذي أنت عليه.وأما الطريق الخاص: فهلم، ثم مشى على الماء حتى غاب عن أعيننا. فبقي أبو سعيد حيران مما رآى!! وقال الجنيد: جئت مسجد الشونزية فرأيت فيه جماعة من الفقراء يتكلمون في الآيات فقال فقير منهم: أعرف رجلا لو قال لهذه الأسطوانة كوني ذهبا نصفك، ونصفك فضةً كانت.. قال الجنيد: فنظرت. فإذا الأسطوانة نصفها ذهب ونصفها فضة.
قيا: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهما سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السبع؟ فقال: لا تّخف. فأخذ شيبان أذنه فعركها... فبصبص وحرَّك ذنبه.. فقال سفيان: ما هذه الشهرة؟! فقال: لو لا مخافة الشهرة لما وضعت زادي إلا على ظهره حتى آتي مكة!! وحكي أن السري لما ترك التجارة كانت أخته تنفق عليه من ثمن غزلها. فأبطأت يوماً، فقال لها السري: لم أبطأت؟! فقالت: لأن غزلي لم يشتر، وذكروا أنه مخلط. فامتنع السري عن طعامها ثم إن أخته دخلت عليه يوماً فرأت عنده عجوزاً تكنس بيته، وتحمل إليه كل يوم رغيفين فحزنت أخته وشكت من أكل طعامها قيض الله لي الدنيا لتنفق علي وتخدمني.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا علي بن هارون قال: حدثنا علي ابن أبي التميمي قال: حدثنا جعفر بن القاسم الخواص قال: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال: كنت عند أبي محفوظ معروف الكرخي، فدعا لي؛ فرجعت إليه من الغد وفي وجهه أثر، فقالله إنسان: يا أبا محفوظ، كنا عندك بالأمس ولم يكن بوجهك هذا الأثر، فما هذا؟! فقال: سل عما يعنيك!! فقال الرجل: بمعبودك أن تقول، فقال: صليت البارحة هاهنا، واشتهيت أن أطوف بالبيت، فمضيت إلى مكة، وطفت، ثم ملت إلى زمزم؛ لأشرب من مائها. فزلقت على الباب، فأصاب وجهي ما تراه.
وقيل: كان عتبة الغلام يقعد فيقول: يا ورشان إن كنت أطوع لله عز وجل مني فتعال واقعد على كفي؛ فيجيء الورشان ويقعد على كفه.
وحكي عن أبي علي الرازي أنه قال: مررت يوماً على الفرات، فعرّضت لنفسي شهوة السمك الطريّ، فإذا الماء قد قذف سمكة نحوي، وإذا رجل يعدو ويقول: أشويها لك؟ فقلت: نعم. فشواها، فقعت وأكلتها.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم في رفقة فعبض لهم السبع؛ فقالوا: يا أبا إسحاق قد عرض لنا السبع!! فجاء إبراهيم وقال: يا أسد، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض، وإلا فارجع. فرجع الأسد، ومضوا.
وقال حامد الأسود: كنت مع الخواص في البرية، فبتنا عند شجرة، إذ جاء السبع، فصعدت الشجرة إلى الصباح لا يأخذني النوم، ونام إبراهيم الخواص والسبع يشم من رأسه إلى قدمه.. ثم مضى.
فلما كانت الليلة الثانية بتنا في مسجد في قرية، فوقعت بقّة على ووجهه فضربته،فأنَّ أنةً، فقلت: هذا عجيب، البارحة لم تجزع من الأسد، والليلة تصيح من البقّ!! ؟فقال: أما البارحة، فتلك حالة كنت فيها بالله عز وجل، وأما الليلة، فهذه حالة أنا فيها بنفسي.

وحكي عن عطاء الأزرق: أنه دفعت إليه امرأته درهمين من ثمن غزلها؛ ليشتري لهم شيئاً من الدقيق، فخرج من بيته، فلقي جارية تبكي، فقال لها: ما بالك؟ فقالت: دفع إلي مولاي درهمين اشتري لهم شيئاً. فسقطا مني فأخاف أن يضربني!! فدفع عطاء الدرهمين إليها. ومرّ. وقعد على حانوت صديق له ممن يشق الصاج وذكر له الحال وما يخاف من سوء خلق امرأته. فقال له صاحبه: خذ من هذه النشارة في هذا الجراب لعلكم تنتفعون بها في سحر التنور؛ إذ ليس يساعدني الإمكان في شيء آخر.. فحمل النشارة، وفتح باب داره، ورمى بالجراب، وردّ الباب ودخل المسجد إلى ما بعد العتمة؛ ليكون النوم أخذهم ولا تستطيل عليه المرأة، فلما فتح الباب وجدهم يخبزون الخبز؛ فقال: من أين لكم هذا الخبز؟ فقالوا: من الدقيق الذي كان في الجراب. لا تشتر من غير هذا الدقيق! قال: أفعل إن شاء الله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن بركات يقول: كنت أجالس الفقراء، ففتح عليَّ بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثم قلت في نفسي: لعلي أحتاج إليه.. فهاج بي وجع الضرس، فقلعت سناً، فوجعت الأخرى حتى قلعتها..
فهتف بي هاتف: إن لم تدفع إليهم الدينار، فلا يبقى في فمك سنٌ واحدة!.
قال الأستاذ: وهذا في باب الكرامة أتم من أن كان يفتح عليه بدنانير كثيرة تنقض العادة.
وحكى أبو سليمان الداراني قال: خرج عامر بن قيس إلى الشام، ومعه شكوة إذا شاء صبَّ منها ماء ليتوضأ للصلاة، وإذا شاء صبّ منها لبناً يشربه.
وروى عثمان بن أبي العاتكة قال: كنا في غزاة الأرض الروم، فبعث الوالي سرية إلى موضع، وجعل الميعاد في يوم كذا.
قال: فجاء الميعاد ولم تقدم السرية، فبينا أبو مسلم يصلي إلى رمحه الذي ركزه بالأرض إذ جاء طائر إلى رأس السنان وقال: إن السرية قد سلمت وغنمت وسيردون عليكم يوم كذا في وقت كذا.
فقال أبو مسلم للطير: من أنت، رحمك الله تعالى؟ فقال: أنا مذهب الحزن عن قلوب المؤمنين.
فجاء أبو مسلم إلى الوالي وأخبره بذلك، فلما كان اليوم الذي قال أتت السرية على الوجه الذي قال.
وعن بعضهم قال: كنا في مركب فمات رجل كان معنا عليل، فأخذنا في جهازه، وأردنا أن نلقيه في البحر فصار البحر جافاً، ونزلت السفينة، فخرجنا وحفرنا له قبراً، ودفناه، فلما فرغنا استوى الماء، وارتفع المركب، وسرنا.
وقيل: إن الناس أصابتهم مجاعة بالبصرة، فاشترى حبيب العجمي طعاما بالنسيئة، وفرقه على المساكين وأخذ كيسه فجعله تحت رأسه، فلما جاءوا يتقاضونه أخذه، وإذا هو مملوء دراهم، فقضى منها ديونهم.
وقيل: أراد إبراهيم بن أدهم أن يركب السفينة فأبوا إلا أن يعطيهم ديناراً، فصلى على الشط ركعتين، وقال: اللهم إنهم قد سألوني ما ليس عندي، فصار الرمل بين يديه دنانير.
حدثنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا محمد بن أحمد المروزي قال: حدثنا عبد الله بن سليمان قال: قال أبو حمزة نصر بن الفرج خادم أبي معاوية الأسود قال: كان أبو معاوية ذهب بصره، فإذا أراد أن يقرأ نشر المصحف فيرد الله عليه بصره، فإذا أطبق المصحف ذهب بصره..
وقال أحمد بن الهيثم المتطيب: قال لي بشر الحافي: قل لمعروف الكرخي: إذا صليت جئتك؛ قال: فأديت الرسالة وانتظرته، فصلينا الظهر ولم يجيء، ثم صلينا العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، فقلت في نفسي: سبحان الله مثل بشر يقول شيئاً ثم لا يفعل!! لا يجوز أن لا يفعل!!.. وانتظرته وأنا فوق مسجد على مشرعة، فجاء بشر بعد هوى من الليل، وعلى رأسه سجادة، فتقدم إلى دجلة ومشى على الماء، فرميت بنفسي من السطح، وقبلت يديه ورجليه، وقلت: ادع الله لي، فدعا لي، وقال: استره علي. قال: فلم أتكلم بهذا حتى مات.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي قال: حدثنا أبو الفرج الورثاني قال: سمعت علي بن يعقوب بدمشق قال: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول: سمعت قاسماً الجرعي يقول: رأيت رجلا في الطواف لا يزيد على قوله: إلهي، قضيت حوائج الكل ولم تقض حاجتي..
فقلت: مالك لا تزيد على هذا الدعاء؟

فقال: أحدّثك.. اعلم أنا كنا سبعة أنفس من بلدان شتى، فخرجنا إلى الجهاد، فأسرنا الروم، ومضوا بنا لنقتل؛ فرأيت سبعة أبواب فتحت من السماء وعلى كل باب جارية حسناء من الحور العين، فقدم واحد منا فضربت عنقه، فرأيت جارية منهن هبطت إلى الأرض وبيدها منديل فقبضت روحه حتى ضربت أعناق ستة منا، فاستوهبني بعض رجالهم، فقالت الجارية: أيُّ شيء فاتك يا محروم!!.. وغلَّقت الأبواب؛ فأنا يا أخي متأسف متحسر على ما فاتني...
قال قاسم الجرعي: أراه أفضلهم، لأنه رأى ما لم يروا.. وعمل على الشرق بعدهم.
وسمعته يقول: سمعت أبا النجم أحمد بن الحسين بخورستان يقول سمعت أبا بكر الكتاني يقول: كنت في طريق مكة في وسط السنة، فإذا أنا بهميان ملآن يلتمع دنانير، فهممت أن أحمله لأفرقه على فقراء مكة، فهتف هاتف: إن أخذته سلبناك فقرك.
حدثنا محمد بن محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أحمد بن يوسف الخياط قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت العباس الشرقي يقول: كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابه: أنا عطشان. فضرب برجله إلى الأرض فإذا الأرض عين من ماء زلال، فقال الفتى: أحب أن أشربه ف قدح، فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحاً من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكة فقال لي أبو تراب يوماً: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده؟..
فقلت: ما رأيت أحداً إلا وهو يؤمن بها.
فقال: من لم يؤمن بها فقد كفر، إنما سألتك من طريق الأحوال.
فقلت: ما أعرف لهم قولاً فيه.
قال: بلى، قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق، وليس الأمر كذلك، إنما الخدع في حال السكون إليها، فأمَّا من لم يقترح ذلك، ولم يساكنها فتلك مرتبة المرَّبانيين.
حثنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أبو الفج الورثاني قال: سمعت محمد بن الحسين الخلدي بطرسوس قال: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: كنا في غرفة سريّ السقطي ببغداد، فلما ذهب من الليل شيء لبس قميصاً نظيفاً وسراويل ورداء ونعلا، وقال ليخرج؛ فقلت: إلى أين في هذا الوقت؟ فقال: أعود فتحاً الموصلي.
فلما مشى في طرقات بغداد أخذه العسس وحبسوه، فلما كان من الغد أمر بضربه مع المحبوسين، فلما رفع الجلاد يده ليضربه وقفت يده فلم يقدر أن يحركها فقيل للجلاد: اضرب!! فقال: بحذائي شيخ واقف يقول لي لا تضربه، فتقف يدي لا تتحرك.
فنظروا من الرجل، فإذا هو فتح الموصلي؛ فلم يضربوه.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الحارث الخطابي قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا علي بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن يحيى البصري قال: كان أناس من قريش يجلسون إلى عبد الواحد بن زيد، فأتوه يوماً وقالوا: إنا نخاف من الضيقة والحاجة!! فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أسألك باسمك المرتفع الذي تكرم به من شئت من أوليائك، وتلهمه الصفيَّ من أحبابك أن تأتينا بروق من لدنك تقطع به علائق الشيطان من قلوبنا وقلوب أصحابنا هؤلاء فأنت الحنان المنان القديم الإحسان، اللهم الساعة، الساعة..
قال: فسمعت والله قعقة للسقف، ثم تناثرت علينا دنانير ودراهم، فقال عبد الواحد بن زيد: استغنوا بالله عزّ وجلّ عن غيره، فأخذوا ذلك، ولم يأخذ عبد الواحد بن زيد شيئاً.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي الجوزي بجنديسابور قال: سمعت الكتاني يقول: رأيت بعض الصوفية، وكان غريباً ما كنت أثبته قد تقدم إلى الكعبة وقال: يا ربّ ما أدري ما يقول هؤلاء ! - يعني الطائفين - فقيل له: انظر ما في هذه الرقعة. قال: فطارت الرقعة في الهواء وغابت.
ً وسمعته يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر الورثاني يقول: سمعت محمد بن علي ابن الحسين المقري بطرسوس يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: اشتهت والدتي على والدي يوماً من الأيام سمكاً، فمضى والدي إلى السوق وأنا معه، فاشترى سمكاً، ووقف ينتظر من يحمله، فرى صبياً وقف بحذائه مع صبي فقال: يا عم، تريد من يحمله؟ فقال: نعم، فحلمه ومشى معنا، فسمعنا الأذان، فقال الصبي: أذنّ المؤذن، واحتج أن أتطهر وأصلي، فإن رضيت، وإلا فأ؛مل السمك، ووضع الصبي السمك ومرّ.

فقال أبي: فنحن ألوى أن نتوكل في السمك. فدخلنا المسجد فصلينا، وجاء الصبي وصلى، فلما خرجنا فإذا بالسمك موضوع مكانه، فحمله الصبي ومضى معنا إلى دارنا.
فذكر والدي ذلك لوالدتي، فقالت: قل له حتى يقيم عندنا ويأكل معنا، فقلنا له، فقال: إني صائم، فقلنا: فتعود إلينا بالعشى، فقال: إذا حملت مرة في اليوم لا أحمل ثانياً، ولكني سأدخل المسجد إلى المساء، ثم أدخل عليكم، فمضى..
فلما أمسينا دخل الصبي، وأكلنا، فلما فرغنا دللناه على موضع الطهارة، ورأينا فيه أنه يؤثر الخلوة، فتركناه في بيت، فلما كان في بعض الليل وكان لقريب لنا بنتُ زمنة، فجاءت تمشي، فسألناها عن حالها، فقالت: قلت يارب بحرمة ضيفنا أن تعافيني، فقمت. قالت: فمضينا لنطلب الصبي، فإذا الأبواب مغلقة كما كانت، ولم نجد الصبي،. فقال أبي: فمتهم صغير، ومتهم كبير.
سمعت محمد بن الحسين يقول: حدثنا أبو الحارث الخطابي قال: حدثنا محمد ابن الفضل قال: حدثنا عليّ بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن يحيى البصري قال: أتيت عبد الواحد بن زيد وهو جالس في ظل، فقلت له: لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل: فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثم أخذ حصتي من الأرض، ثم قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهباً فعلت، فإذا هي والله في يده ذهب، فألقاها إليّ وقال: أنفقها أنت فلا خير في الدنيا إلا للأخرة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسين بن أحمد الفارسي يقول: سمعت الرَّقيَّ يقول: سمعت أحمد بن منصور يقول: قال لي أستاذي أبو يعقوب السوسي: غسلتُ فريداً فأمسك إبهامي وهو على المغتسل. فقلت: يا بني خلِّ يدي؛ أنا أدري أنك لست بميت، وإنما هي نقلة من دار إلى دار.. فخلي يدي..
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن محمد الطرسوسي يقول: سمعت إبراهيم ابن شيبان يقول: صحبني شاب حسن الإرادة، فمات، فاشتغل قلبي به جداً، وتوليت غسله، فلما أردت غسل يديه بدأت بشماله من الدهشة، فأخذها مني وناولني يمينه فقلت: صدقت يا بني، أنا غلطت.
وسمعته يقول: سمت أبا النجم المقري البرذعي بشيراز يقول: سمعت الراقي يقول: سمعت أحمد بن منصور يقول: سمعت أبا يعقوب السوسي يقول: جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ، أنا غداً أموت وقت الظهر؛ فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه، وكفني بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد جاء وطاف بالبيت، ثم تباعد ومات، فغسلته، وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه، فقلت: أحياه بعد موت؟! فقال: أن حيِّ، وكل محبٍ لله حي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول: سمعت أبا علي بن وصيف المؤدب يقول: تكلم سهل بن عبد الله يوماً في الذكر فقال: أن الذاكر لله على الحقيقة لو هم أن يحيى الموتى لفعل، ومسح يده على عليلٍ بين يديه، فبرىء، وقام.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: أخبرني علي بن إبراهيم بن أحمد قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا الحسين بن عمر قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: كان عمرو بن عُتبة يصلي والغمام فوق رأسه، والسباع حوله تحرك أذنابها.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله بن مفلح يقول: سمعت المغازلي يقول: سمعت الجنيد يقول: كانت معي أربعة دراهم فدخلت على السري وقلت: هذه أربعة دراهم حملتها إليك، فقال: أبشر يا غلام بأنك تُفلح؛ كنت أحتاج إلى أربعة دراهم؛ فقلت: " اللهم ابعثها على يد من يفلح عندك " .
وسمعته يقول: حدثني إبرهيم بن أحمد الطبري قال: حدثنا أحمدبن يوسف قال: حدثناأحمد بن إبراهيم بن يحيى قال: حدثني أبي قال:حدثني أبو إبراهيم اليماني قال: خرجنا نسير على ساحل البحر مع إبراهيم بن أدهم فانتهينا إلى غيضة فيها حطب يابس كثير، وبالقرب منه حصن، فقلنا لإبراهيم بن أدهم: لو أقمنا الليلة هاهنا وأوقدنا من هذا الحطب؟ فقال: افعلوا فطلبنا النار من الحصن. فأوقدنا، وكان معنا الخبز فأخرجنا نأكل، فقال واحد منا: ماأحسن هذا الجمر، لو كان لنا لحم نشويه عليه؟! فقال إبراهيم بن أدهم: إن الله تعالى لقادر على أن يطعمكموه. فقال: فبينا نحن كذلك إذا بأسد يدر إيلاً فلما قرب منا وقع، فاندقت عنق، فقام إبراهيم بن أدهم وقال: أذبحوه، فقد أطعمكم الله. فذبحناه.. وشوينا من لحمه والأسد واقف ينظر إلينا.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا القاسم عبد الله بن علي الشجري يقول: سمعت حامداً الأسود يقول: كنت مع إبراهيم الخواص في البادية سبعة أيام على حالة واحدة، فلما كان السابع ضعفت، فجلست، فالتفت إلي وقال مالك؟ فقلت: ضعفت!! فقال: أيما أغلب عليك: الماء أو الطعام؟ فقلت: الماء، فقال: الماء وراءك.
فالتفت فإذا عين ماء كاللبن الحليب، فشربت وتطهرت، وإبراهيم ينظر ولم يقربه.
فلما أردت القيام هممت أن أحمل منه، فقال: أمسك؛ فإنه ليس مما يتزود منه.
سمعت أبا عبد الله بن عبد الله يقول: سمع أبا عبد الله الدباس البغدادي يقول: سمعت فاطمة أخت أبي علي الروذباري تقول: سمعت زينونة خادمة أبي الحسين النوري - وكانت تخدمه، وخدمت أبا حمزة، والجنيد - قالت: كان يوم بارد، فقلت للنوري: أحمل إليك شيئاً؟ فقال: نعم، فقلت: ماذا تريد؟ قال: خبز ولبن، فحملت، وكان بين يديه فحم، وكان يقلبها بيده وقد اشتغلت يده، فأخذ يأكل الخبز واللبنُ يسيل على يده وعليها سواد الفحم، فقلت في نفسي: ما أقذر أولياءك يا رب!! ما فيهم أحد نظيف!! قالت: فخرجت من عنده، فتعلقت بي امرأة وقالت: سرقت لي رزمة ثياب وجروني إلى الشرطيّ، فأخبر النوري بذلك، فخرج وقال للشرطي: لا تتعرضوا لها؛ فإنها وليّه من أولياء الله تعالى، فقال الشرطي: كيف أصنع والمرأة تدّعى؟! قال: فجاءت جارية ومعها الرزمة المطلوبة، فاسترد النوري المرأة، وقال لها: تقولين بعد هذا ما أقذر أولياءك، قالت: فقلت قد تبت إلى الله تعالى.
سمعت محمد بن عبد الله الشيرازي يقول: سمعت محمد بن فارس الفارسي يقول: سمعت أبا الحسن خيراً النساج يقول: سمعت الخواص يقول: عطشت في بعض أسفاري، وسقطت من العطش فإذا أنا بماء رَيَّ على وجهي ففتحت عيني فإذا برجل حسن الوجه راكب دابة شهباء، فسقاني الماء، وقال: كن رديفي، وكنت بالحجاز فما لبثت إلا يسيراً، فقال لي: ما ترى؟ فقلت: أرى المدينة، فقال: أنزل وأقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام، وقل: أخوك الخضر يقرئك السلام.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: قال أبو الحديد: سمعت المظفر الجصّاص يقول: كنت أنا ونصر الخراط ليلة في موضع فتذاكرنا شيئاً من العلم، فقال الخراط: إن الذكر لله تعالى فائدته في أول ذكره أن يعلم أن الله تعالى ذكره فبِذكر الله تعالى ذِكره. قال فخالفته، فقال: لو كان الخضر عليه السلام هاهنا لشهد بصحته. قال: فإذا نحن بشيخ يجيء بين السماء والأرض حتى بلغ إلينا وسلم وقال: صدق: الذاكرُ لله تعالى بفضل ذكر الله تعالى له ذكره، فعلمنا أنه الخضر، عليه السلام.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: جاء رجل إلى سهل بن عبد الله وقال: إن الناس يقولون إنك تمشي على الماء. فقال: سل مؤذن المحلة، فإنه رجل صالح لا يكذب. قال: فسألته، فقال المؤذن: لا أدري هذا!! ولكنه كان في بعض هذا الأيام نزل الحوض ليتطهر فوقع في الماء فلو لم أكن أنا لبقي فيه.
قال الأستاذ أبو علي الدقاق: إن سهلاً كان بتلك الحالة التي وصف بها، ولكن الله سبحانه يريد أن يستر أولياءه فأجرى ما وقع من حديث المؤذن والحوض ستراً لحال سهل، وسهل كان صاحب الكرامات.
وفي قريب من هذا المعنى ما حكي عن أبي عثمان المغربي قال: رأيته بخط أبي الحسين الجرجاني قال: أردت مرة أن أمضي إلى مصر، فخطر لي أن أركب السفينة، ثم خطر ببالي أني أعرف هناك، فخفت الشهرة، فمرّ المركب فبدا لي، فمشيت على الماء ولحقت بالمركب ودخلت السفينة والناس ينظرون، ولم يقل أحدإن هذا ناقض للعادة أو غير ناقض، فعرفت أن الولي مستور وإن كان مشهوراً.
ومما شاهدنا من أحوال الأستاذ ؟أبي علي الدقاق، رضي الله عنه؛ معاينة أنه كان به علة حرقة البول، وكان يقوم في ساعة غير مرة، حتى كان يجدد الوضوء غير مرة لركعتي فرض، وكان يحمل معه قارورة في طريق المجلس، وربما كان يحتاج إليها والطريق مرات ذاهباً وجائياً، وكان إذا قعد على رأس الكرسي يتكلم لا يحتاج إلى الطهارة ولو أمتد به المجلس زماناً طويلاً، وكنا نعاين ذلك منه سنين، ولم يقع لنا في حياته أن هذا شيء ناقض للعادة، وإنما وقع لي هذا وفتح عليَّ علمه بعد وفاته.

وفي قريب من هذا ما يحكى عن سهل بن عبد الله أن كان قد أصابته زمانه في آخر عمره، فكان ترد عليه القوة في أوقات الفرض فيصلي قائماً.
ومن المشهور أن عبد الله الوزان كان مقعداً، وكان في السماع إذا ظهر به وجد يقوم ويستمع.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: حدثنا إبراهيم بن محمد المالكي قال: حدثنا يوسف بن أحمد البغدادي قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حججت أنا وأبو سليمان الداراني، فبينا نحن نسير إذ سقطت السطيحة مني، فقلت لأبي سليمان فقدت السطيحة. وبقينا بلا ماء، وكان برد شديد، فقال أبو سليمان: يا راد الضلة.. ويا هادياً من الضلالة اردد علينا الضالة، فإذا واحد ينادي: من ذهبت له سطيحة؟ قال: فقلت: أنا.. فأخذتها، فبينا نحن نسير وقد تدّرَّعنا بالفراء من شدة البرد فإذا نحن بإنسان عليه طِمران وهو يترشح عرقاً، فقال أبو سليمان: تعالى ندفع إليك شيئاً مما علينا من الثياب، فقال: يا أبا سليمان أتشير إلي بالزهد وأنت تجد البرد؟ أنا أسيح في هذه البرية منذ ثلاثين سنة ما انتفضت، ولا ارتعدت، يلبسني الله في البرد فيحاً من محبته، ويلبسني في الصيف مذاق برد محبته.. ومرَّ.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن علي التكريتي يقول: سمعت محمد ابن علي الكتاني بمكة يقول: سمعت الخواص يقول: كنت في البادية مرة، فسرت في سوط النهار،فوصلت إلى شجرة، وبالقرب منها ماء، فنزلت، فإذا بسبع عظيم أقبل، فاستسلمت، فلما قرب مني إذا هو يعرج، فحمحم وبرك بين يدي، ووضع يده في حجري، فنظرت فإذا يده منتفخة فيها قيح ودم، فأخذت خشبة وشققت الموضع الذي فيه القيح، وشددت علي يده خرقة، ومضى، فإذا أنا به بعد ساعة ومعه شبلان يبصبصان لي، وحملا إلي رغيفاً.
وسمعته يقول: حدثنا أحمد بن علي السائح قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مطرف قال: حدثنا محمد بن الحسين العسقلاني قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: اشتكى محمد بن السماك، فأخذنا ماءه وانطلقنا به إلى الطبيب، وكان نصرانياً.
قال: فبينا نحن نسير بين الحيرة والكوفة استقبلنا رجل حسن الوجه، طيب الرائحة، نقي الثوب، فقال لنا: إلى أين تريدان؟ فقلنا: نريد فلاناً الطبيب نريه ماء ابن السماك.
فقال: سبحان الله!! تستعينون على وليّ الله بعدو الله!!.. اضربوا به الأرض، وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له: ضع يدك على موضع الوجع وقل: " وبالحق انزلنا وبالحق نزل " ثم غاب عنا فلم نره.
فرجنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك، فوضع يده على موضع الوجع وقال ما قال الرجل، فعوفي في الوقت، فقال: كان ذلك الخضر عليه السلام.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الرحمن بن محمد الصوفي يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: كنا قعوداً في مجلس أبي يزيد البسطامي، فقال: قوموا بنا نستقبل ولياً من أولياء الله تعالى. فقمنا معه، فلما بلغنا الدرب فإذا إبراهيم بن شيبة الهروي، فقال له أبو يزيد: وقع في خاطري أن أستقبلك، وأشفع لك إلى ربي. فقال إبراهيم بن شيبة: ولو شفعت في جميع الخلق لم يكن بكثير، إنما هم قطعة طين! فتحير أبو يزيد من جوابه.
قال الأستاذ: وكرامة إبراهيم في استصغار ذلك أتم من كرامة أبي يزيد فيما حصل له في من الفراسة، وصدق له من الحالة في باب الشفاعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول وقد سأله سالم المغربي عن أصل توبته، فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق، ثم انتبهت، وفتحت عيني، فإذا أنا بقبرة عمياء سقطت من شجرة على الأرض، فانشقت الأرض، فخر منها سكرجتان إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء ورد فأكلت من هذه، وشربت من هذه فقلت: حسبي.. تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني..
وقيل: أصاب عبد الواحد بن زيد فالج فدخل وقت الصلاة واحتاج إلى الوضوء، فقال: من هاهنا، فلم يجبه أحد فخلف فوت الوقت، فقال: يا رب أحللني من وثاقي؛ حتى أقضي طهارتي، ثم شأنك وأمرك. قال: فَصحَّ، حتى أكمل طهارته، ثم عاد إلى فراشه، وصال كما كان.

وقال أبو أيوب الحمال: كان أبو عبد الله الديلمي إذا نزل منزلاً في سفر عمد إلى حماره وقال في أذنه: كنت أريد أن أشدّك، فالآن لا أشدك، وأرسلك في هذه الصحراء؛ لتأكل الكلأ، فإذا أردنا الرحيل فتعال.. فإذا كان وقت الرحيل يأتيه الحمار.
وقيل: زوج أبو عبد الله الديلمي ابنته، واحتاج إلى ما يجهزها به، وكان له ثوب يخر به كل وقت فيشتري بدينار، فخرج له ثوب، فقال له البياع: إنه يساوي أكثر من دينار، فلم يزالوا يزيدون في ثمنه حتى بلغ مائة دينار، فجهزها..
وقال النضر بن شميل: ابتعت إزاراً فوجدته قصيراً فسالت ربي تعالى أن يمغط لي ذراعاً، ففعل، يمغط: أي يمد: من مغط القوس، وهو مده قال النضر بن شميل: ولو استزدته لزادني.
وقيل: كان أمر بن عبد قيس سأل أن يهون عليه طهوره في الشتاء؛ فكان يؤتى به وله بخار، وسال ربه أن ينزع شهوة النساء من قلبه فكان لا يبلي بهن، وسأله أن يمنع الشيطان من قلبه وهو في صلاته فلم يجبه إليه.
وقال بشر بن الحارث: دخلت الدار فإذا أنا برجل، فقلت: من أنت؟ دخلت داري بغير إذني، فقال: أخوك الخضر. فقلت: ادع الله لي. فقال: هون الله عليك طاعته؛ فقلت: زدني، فقال: وسترها عليك.
وقال إبراهيم الخواص: دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة فقيل؛ فإذا فيها سبع عظيم، فخفت، فهتف بي هاتف: اثبت؛ فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك.
أخبرنا محمد بن الحسين قال: أخبرنا أبو الفرج الورثاني قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد الصيرفي يقول: سمعت جعفراً الدبيلي يقول: دخل النوري الماء فجاء لص فأخذ ثيابه، ثم إنه جاء ومعه الثياب وقد جفت يده؛ فقال النوري: قدر رد علينا الثياب فرُدَّ عليه يده. فعوفي.
وقال الشبلي: اعتقدت وقتاً أن لا آكل إلا من الحلال، فكنت أدور في البراري، فرأيت شجرة تين، فمددت يدي إليها لآكل، فنادتني الشجرة: إحفظ عليك عقدك، لا تأكل مني فأني ليهودي.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: دخلت بغداد قاصداً إلى الحج وفي رأسي نخوة الصوفية، ولم آكل الخبز أربعين يوماً، ولم أدخل على الجنيد، وخرجت ولم أشرب الماء إلى زُبالة، وكنت على طهارتي، فرأيت طبياً على رأس البئر وهو يشرب، وكنت عطشان، فلما دنوت من البئر ولى الظبي، وإذا الماء في أسفله.. فمشيت وقلت: يا سيدي، مالي محل هذا الظبي؟! فسمعت من خلفي: جربناك فما صبرت!! ارجع وخذ الماء.
فرجعت، فإذا البئر ملأى ماء، فملأت ركوتي وكنت أشرب منه وأتطهر إلى المدينة، ولم بنفسي.
ولما استقيت سمعت هاتفاً يقول: إن الظبي جاء بلا ركوة، ولا حبل، وأنت جئت مع الركوة والحبل!! فلما رجعت من الحج دخلت الجامع، فلما وقع بصر الجنيد عليّ قال: لو صبرت لنبع الماء من تحت رجلك، لو صبرت وصبر ساعة! سمعت حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني يقول: سمعت أبا أحمد بن علي الحافظ يقول: سمعت أحمد بن حمزة بمصر يقول: حدثني عبد الوهاب - وكان من الصالحين - قال: قال محمد بن سعيد البصري: بينما أنا أمشي في بعض طرق البصرة إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا، فالتفت فإذا الجمل وقع ميتاً، ووقع الرجل والقنب، فمشيت ثم التفتت فإذا الأعرابي يقول: يا مسبب كلّ سبب، ويا مولي من طلب، وردّ عليّ ما ذهب من جمل يحمل الرحل والقنب، فإذا الجمل قائم والرحل والقنب فوقه.
وقيل: إن شبلا المروذي اشتهى لحماً فأخذ بنصف درهم، فاستلبته منه حدأة في الطريق، فدخل شبل مسجداً ليصلي، فلما رجع إلى منزله قدمت امرأته إليه لحماً، فقال: من أيت هذا؟ فقالت: تنازعت حدأتان، فسقط هذا منهما، فقال شبل: الحمد لله الذي لم ينس شبلا، وإن كان شبلٌ كثيراً ينساه.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا عبد الواحد بن بكر الورثاني قال: سمعت محمد بن داود يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت ابن أبي عبيد اليسري يحدّث عن أبيه أنه غزا سنة من السنين، فخرج في السرية، فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية، فقال: يا رب، أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعني: قريته، فإذا المهر قائم، فلما غزا ورجع إلى بسرى قال: يا بني، خذ السرج عن المهر، فقالت: إنه عرق فإن أخذت السرج عنه داخله الريح، فقال: يا بني، إنه عارية، قال: فلما أخذت السرج عنه وقع المهر ميتا.

وقيل: كان بعضهم نباشاً، فتوفيت امرأةٌ، فصلى الناس عليها وصلى هذا النباش؛ ليعرف القبر، فلما جنَّ عليه الليل نبش قبرها، فقالت: سبحان الله، رجل مغفور له يأخذ كفن امرأة مغفور لها؟! قال: هبي أنك مغفور لك، فأنا من أنا؟! فقالت: إن الله تعالى غفر لي ولجميع من صلى علي، وأنت قد صليت عليَّ. فتركتها ورددت التراب عليها، ثم تاب ارجل وحسنت توبته.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا الحسن إسماعيل بن عمرو بن كامل بمصر يقول: سمعت أبا محمد نعمان بن موسى الحيري بالحيرة يقول: رأيت ذا النون المصري وقد تقاتل اثنان: أحدهما من أولياء السلطان، والآخر من الرعية، فعدا الذي من الرعية عليه، فكسر ثنيته، فتعلق الجندي بالرجل وقال: بيني وبينك الأمير، فجازوا بذي النون، فقال الناس: اصعدوا إلى الشيخ؛ فصعدوا إليه، فعرفوه ما جرى، فأخذ السن، ثم بلها بريقه، وردّها إلى فم الرجل في الموضع الذي كانت فيه، وحرّك شفتيه، فتعلقت بإذن الله تعالى، فبقي الرجل يفتش فاه، فلم يجد الأسنان إلا سواء.
حثنا أبو الحسين محمد بن الحسين القطان ببغداد قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار قال: حدثنا الحسين بن عرفة بن يزيد قال: حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن إسماعيل بن أبي خلد، عن أبي سيرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن.. فلما كان في بعض الطريق نفق حماره، فقالم وتوضأ، ثم صلى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت مجاهداً في سبيل ابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليَّ منة، اليوم أطلب منك أن تبعث حماري. فقام الحمار ينفض أذنيه.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا بكر النابلسي يقول: سمعت أبا بكر الهمداني يقول: بقيت في برّية الحجاز أياماً لم آكل شيئاً، فاشتهيت باقلا حاراً وخبزاً من باب الطاق ؛ فقلت: أنا في ابرية وبيني وبين العراق مسافة بعيدة، فلم أتمًّ خاطري إلا وأعرابي من بعيد ينادي: باقلا حارٌّ وخبز. فتقدمت إليه فقلت عندك باقلا حار وخبز؟ فقال: نعم. وبسط مئزراً كان عليه، وأخرج خبزاً وباقلا، وقال لي: كل. فأكلت، ثم قال لي: كل. فأكلت، ثم قال لي: كل. فأكلت. فلما قال لي الرابعة، قلت: بحق الذي بعثك إليّ إلا ما قلت لي من أنت؟ فقال: أنا الخضر. وغاب عني فلم أره.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس بن الخشاب البغدادي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحداد يقول: جئت الثعلبية وهي خراب، ولي سبعة أيام لم آكل شيئاً، فدخلت القبة، وجاء قوم خراسانيون أصابهم جهد فطرحوا أنفسهم على باب القبة، فجاء أعرابي على راحلة وصبَّ تمراً بين أيديهم فاشتغلوا بالأكل ولم يقولوا لي شيئاً، ولم يرني الأعرابي، فلما كان بعد ساعة. فإذا بالأعرابي، جاء وقال لهم: معكم غيركم؟ فقالوا: نعم، هذا الرجل داخل القبة. قال: فدخل الأعرابي، وقال لي: من أنت؟ لم لم تتكلم؟! مضيت، فعارضني إنسان فقال لي: قد خلقت إنساناً لم تطعمه. ولم يمكني أن أمضي، فتطوَّلت على الطريق، لأني رجعت عن أميال!! وصبّ بين يدي التمر الكثير، ومضى، فدعوتهم، فأكلوا وأكلت.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا طاهر الرقي يقول: سمعت أحمد ابن عطاء يقول: كلمني جمل؛ في طريق مكة رأيت جمالا والمحامل عليها، وقد مدّت أعناقها في الليل،فقلت: سبحان من يحمل عنها ما هي فيه، فالتفت إليّ جمل وقال لي: قل جلّ الله. فقلت جلّ الله.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسن بن أحمد الفارسي يقول: سمعت الرقيّ يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت أبا ذرعة الجنبي يقول: مكرت بي امرأة فقالت: ألا تدخل الدار فتعود مريضاً؛ فدخلت فأغلقت الباب.. ولم أر أحد؛ فعلمت ما فعلت، فقلت: اللهم سوّدها. فاسودت؛ فتحيرت. وفتحت الباب؛ فخرجت، فقلت: اللهم ردها إلى حالها فردّها إلى ما كانت عليه.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا محمد الغطريفي يقول: سمعت السراج يقول: سمعت أبا سليمان الرومي يقول سمعت: خليلا الصياد يقول: غاب ابني محمد فوجدنا عليه وجداً شديداً؛ فأتيت معروفاً الكرخي فقلت: يا أبا محفوظ، غاب ابني وأمه واجدة عليه!! فقال: ما تشاء؟ فقلت: ادع الله أن يردّه فقال: اللهم إن السماء سماؤك، والأرض أرضك.. وما بينهما لك..ائت بمحمد..

قال خليل: فأتيت باب الشام فإذا هو واقف، فقلت: أين كنت يا محمد؟ فقال: يا أبت كنت الساعة بالأنبار.
قال الأستاذ أبو القاسم: واعلم أن الحكايات في هذا الباب تربو على الحصر. والزيادة على ما ذكرناه تخرجنا عن المقصود من الإيجاز؛ وفيما ذكرناه مقنع في هذا الباب.
باب رؤيا القوم قال الله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة " .
قيل: هي الرؤيا الحسنة يراها المرء، أو ترى له.
أخبرنا أبو الحسن الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم المنقري قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: " لهم البشرى في الدنيا وفي الآخرة " قال صلى الله علي وسلم: " ما سألني عنها أحد قبلك. هي الرؤيا الحسنة يراها المرء، أو ترى له " .
أخبرنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد زيد قال: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتفل عن يساره، وليتعوذ؛ فإنها لن تضرّه " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد عبدوس المزكي قال: حدثنا أبو أحمد حمزة ابن العباس البزار قال: حدثنا عياش بن محمد بن حاتم قال: حدثنا عبد الله ابن موسى، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " .
ومعنى الخبر: أن تلك الرؤيا رؤيا صدق، وتأويلها احق، وأن الرؤيا نوع من أنواع الكرامات، وتحقيق الرؤيا خواطرٌُ ترد على القلب، وأحوال تتصور في الوهم إذا لميستغرق النوم جميع الاستشعار، فيتوهم الإنسان عند اليقظة أنه كان رؤية في الحقيقة، وإنما كان ذلك تصوراً وأوهاماً للخلق تقررت في قلوبهم، وحين زال عنهم الإحساس، الظاهر تجردت تلك الأوهام عن المعلومات بالحس والضرورة فقويت تلك الحالة عند صاحبها، فإذا استيقظ ضعفت تلك الأحوال التي تصورها بالإضافة إلى حال إحساس بالمشاهات وحصول العولم الضرورية، ومثله: كالذي يكون في ضوء السراج عند اشتداد الظلمة، فإذا طلعت الشمس عليه غلبت ضوء السرج. فيتقاصر نور السراج بالإضافة إلى ضياء الشمس، فمثال حال النوم كمن هو في ضوء السراج، ومثال المستيقظ كمن تعالى عليه النهار؛ فإن المستيقظ يتذكر ما كان متصوراً له في حال نومه.
ثم ن تلك الأحاديث والخواطر التي كانت ترد على قلبه في حال نومه مرة تكون من قبل الشيطان، ومرّة من هواجس النفس، ومرة بخواطر الملك، ومرة تكون تعريفاً من الله عز وجل بخلق تلك الأحوال في قلبه ابتداء، وفي الخبر: " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً " .
وأعلم أن النوم على أقسام: نوم غفلة، ونوم عادة، وذلك غير محمود، بل هو معلوم؛ لأنه أخو الموت، وفي بعض الأخبار المروية: " النور أخو الموت " .
وقال الله عز وجل: " وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار " . وقال تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في المناميا " .
وقيل: لو كان في النوم خير لكان في الجنة نوم.
وقيل: لما ألقى الله على آدم في الجنة أخرج منه حوّاء. وكلُّ بلاء به إنما حصل حين حصلت حواء.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما قال إبراهيم لإسماعيل، عليهما السلام: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال إسماعيل: يا أبت، هذا جزاء من نام عن حبيبه، لو لم تنم لما أمرت بذبح الولد.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كذب من أدعى حبي، فإذا جنّه الليل نام عني!! والنوم ضد العلم؛ ولهذا قال الشبلي: نعسةٌ في ألف سنة فضيحة.
وقال الشبلي: اطلع الحق على الخلق فقال: من نام غَفَل، ومن غَفَل حُجب، فكان الشبلي يكتحل بالملح بعه حتى كان لا يأخذه النوم، وفي معناه أنشدوا:
عجباً للمحب كيف ينام ... كل نوم على المحب حرامُ
وقيل: المريد: أكله فاقة، ونومه غلبةٌ، وكلامه ضرورة.
وقيل: لما نام آدم عليه السلام بالحضرة قيل له: هذه حواء لتسكن إليها، هذا جزاء من نام بالحضرة.

وقيل: إن كنت حاضراً فلا تنم؛ فإن النوم في الحضرة سوءُ أدب، وإن كنت غائباً فأنت من أهل الحسرة ولمصيبة، والمصاب لا يأخذه نوم. وأمَّا أهل المجاهدات فنومهم صدقة من الله عليهم، وأن الله عز وجل يباهي بالعبد إذا نام في سجوده، يقول: انظروا إلى عبدي نام وروحه عندي، وجده بين يدي.
وقال الأستاذ: أي روحه في محل النجوى، وبدنه على بساط العبادة.
وقيل: كل من نام على الطهارة يؤذن لروحه أن تطوف بالعرش وتسجد لله عز وجل قال تعالى: " وجعلنا نومكم سباتاً " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: شكا رجل إلى بعض المشايخ من كثرة النوم، فقال: اذهب فاشكر الله تعالى على العافية، فكم من مريض في شهوة غمضة من النوم الذي تشكو منه.
وقيل: لا شيء أشدعلى إبليس من نوم العاصي؛ يقول: متى ينتبه ويقوم حتى يعصي الله!! وقيل: أحسن أحوال العاصي أن ينام: إن لم يكن الوقت له لم يكن عليه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: توعد شاه الكرماني السهر، فغلبه النوم مرة، فرأى الحق، سبحانه، في النوم، فكان يتكلف النوم بعد ذلك، فقيل له في ذلك؛ فقال:
رأيت سرور قلبي في منامي ... فأحببت التنعُّس والمناما
وقيل: كان رجل له تلميذان، فأختلفا فيما بينهما، فقال أحدهما: النوم خير، لأن الإنسان لا يعصى الله في تلك الحالة. وقال الآخر: اليقظة خير، لأنه يعرف الله تعالى في تلك الحالة.
فتحاكما إلى ذلك الشيخ فقال: أما أنت الذي قلت بتفضيل النوم فالموت خير لك من الحياة، وأما أنت الذي قلت بتفضيل اليقظة، فالحياة خيرٌ لك من الموت.
وقيل: اشترى رجل مملوكة، فلما دخل الليل قال: افرشي الفراش. فقالت المملوكة: يا مولاي، ألك مولى؟ قال: نعم، فقالت: ينام مولاك؟ فقال: لا. قالت: ألا تستحي أن تنام ومولاك لا ينام!! وقيل: قالت بنية لسعيد بن جبير: لم لا تنام؟ فقال: إن جهنم لا تدعني أن أنام.
وقيل: قالت بنت لمالك بن دينار: لم لا تنام؟ فقال: إن أباك يخاف البيات.
وقيل: لما مات الربيع بن خيثم قالت بنية لأبيه: الأسطوانة التي كانت في دار جارنا أين ذهبت؟ فقال: إنه كان جارنا الصالح يقوم من أول الليل إلى آخره؛ فتوهمت البنية أنه كان سارية؛ لأنها كانت لا تصعد السطح إلا بالليل فنجده قائماً.
وقال بعضهم: في النوم معان ليست في اليقظة؛ منها أنه يرى المصطفى، صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والسلف الماضيين في النوم، ولا يراهم في اليقظة وكذلك يرى الحق في النوم، وهذه مزية عظيمة.
وقيل: رأى أبو بكر الآجري الحق، سبحانه. في النوم، فقال له: سل حاجتك. فقال اللهم اغفر لجميع عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا أولى بهذا منك، سل حاجتك.
وقال الكتاني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: من تزين للناس بشيء يعلم الله منه خلافه شأنه الله.
وقال الكتاني أيضاً: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة " يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت " فإن الله يحيي قلبك.
ورأى الحسن بن علي، رضي الله عنهما، عيسى بن مريم، في المنام، فقال: إني أريد أن اتخذ خاتماً، فما الذي أكتب عليه؟ فقال: اكتب عليه: " لا إله إلا الله، الملك الحق المبين " فإنه في آخر الأنجيل.
وروي عن أبي يزيد أنه قال: رأيت ربي عز وجل في المنام، فقلت. كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال.
وقيل: رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام، فقال: يا أحمد، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
وقال يحيى بن سعيد القطان: رأيت ربي في المنام فقلت: يا رب، كم أدعوك فلا تستجيب لي!! فقال تعالى: يا يحيى ني أحب أن أسمع صوتك.
وقال بشر بن الحارث: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء طلباً لثواب الله تعالى، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الآغنياء ثقة بالله تعالى، فقلت له: يا أمير المؤمنين: زدني، فقال:
قد كنت ميتاً فصرت حياً ... وعن قريب تصير ميتاً
عَزْ بدار الفناء بيت ... فابن بدار البقاء بيتاً

وقيل: رؤى سفيان الثوري في المنام؛ فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: رحمني، فقيل له: ما حال عبد الله بن المبارك؟ فقال: هو ممن يلج على ربه كل يوم مرتين.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: رأى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي في المنام، وكان الزجاجي يقول بوعيد الأبد، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال الزجاجي: الأمر هاهنا أسهل مما كنا نظنه!! ورؤي الحسن بن عاصم الشيباني في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ما يكون من الكريم إلا الكرم.
ورؤي بعضهم في المنام فسئل عن حاله، فقال:
حاسبونا فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا
ورؤي حبيب العجمي في المنام، فقيل له: متَّ يا حبيبي العجمي؟! فقال هيهات.. ذهبت العجمة وبقيت في النعمة.
وقيل: دخل الحسن البصري مسجداً ليصلي فيه المقرب، فوجد إمامهم حبيباً العجمي، فلم يصل خلفه. لأنه خاف أن يلحن العجمة في لسانه، فرأى في المنام تلك الليلة قائلاً يقول له: لِم لَم تصل خلفه؟ لو صليت خلفه لغفر لك ما تقدم من ذنبك.
ورؤي مالك بن أنس في المنام. فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بكلمة كان يقولها عثمان بن عفان رضي الله عنه عند رؤية الجنازة: " سبحان الحيّ الذي لا يموت " .
ورؤي في الليلة التي مات فيها الحسن البصري كأن أبواب السماء مفتحة.. وكأن منادياً ينادي: ألا إن الحسن البصري قدم على الله تعالى وهو عنه راض.
سمعت أبا بكر بن أشكيب يقول: رأيت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي في المنام على حالة حسنة فقتل: يا أستاذ، بم وجدت هذا؟ فقال: يحسن ظني بربي: وقيل: رؤي الجاحظ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال:
فلا تكتب بخطك غير شيء ... بسرّك في القيامة أن تراه
وقيل: رأيت الجنيدُ إبليس في منامه عرياناً، فقال له: ألا تستحي من الناس؟ فقال: هؤلاء لا ناس، إنما الناس أقوام في مسجد الشونزية أضنوا جسدي وأحرقوا كبدي، قال الجنيد: فلما انتبهت غدوت إلى المسجد فرأيت جماعة وضعوا رؤوسهم على ركبهم متفكرين، فلما رأوني قالوا: لا يغرنك حديث الخبيث.
ورؤي النصراباذي بمكة بعد وفاته في النوم، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك: فقال: عوتبت عتاب الأشراف، ثم نوديت: يا أبا القاسم، أبعد الاتصال انفصال؟ فقلت: لا ياذا الجلال، فما وضعت في اللحد حتى لحقت بالأحد.
ورؤى ذو النون المصري في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: كنت أسأله ثلاث حوائج في الدنيا، فاعطاني البعض، وأرجو أن يعطيني الباقي؛ كنت أسأله أن يعطيني من العشرة التي على يد رضوان واحدة، ويعطيني بنفسه، وأن يعذبني عن الواحدة التي بيد مالك بعشرة ويتولى هو، وأن يرزقني أن أذكره بلسان الأبدية.
وقيل: رؤى الشبلي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: لم يطالبني بالبراهين على الدعاوي إلا على شيء واحد، قلت يوماً: لا خسارة أعظم من خسران الجنة، ودخول النار، فقال لي: وأي خسارة أعظم من خسران لقائي!! سمعت الأستاذ أبا علي يقول: رأى الجريري الجنيد في المنام. فقال: كيف حالك يا أبا القاسم؟ فقال: طاحت تلك الإشارات، وبادت تلك العبارات، ومانفعنا إلا تسبيحات كنا نقولها بالغداوات. وقال التباجي: تشهيت يوماً شيئاً، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول: أيجمل بالحرِّ المريد أن يتذلل للعبيد، وهو يجد من مولاه ما يريد؟! وقال ابن الجلاء: دخلت المدينة وبي فاقة، فتقدمت إلى القبر، وقلت أنا ضيفك يا نبي الله.. فغفوت غفوة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في نومي وقد أعطاني رغيفاً فأكلت نصفه وانتبهت وبيدي النصف الآخر.
وقال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: زوروا ابن عون؛ فإنه يحب الله ورسوله.
وقيل: رأى عتبة الغلامُ حوراء في المنام علي صورة حسنة، فقالت له: يا عتبة، أنا لك عاشقة، فانظر أن لا تعمل من الأعمال شيئاً يحال بيني وبينك، فقال لها عتبة: طلقت الدنيا ثلاثاً لا رجعة لي عليها. حتى ألقاك.

سمعت منصوراً المغربي يقول: رأيت شيخاً في بلاد الشام كبير الشأن، وكان الغالب عليه الانقباضُ، فقيل لي: رأيت شيخاً في بلاد الشام كبير الشأن وكان الغالب عليه الانقباضُ، فقيل لي: إن أردت أن ينبسط هذا الشيخ معك فسلم عليه وقل له: رزقك الله الحور العين؛ فإنه يرضى منك بهذا الدعاء. فسألت عن سببه، فقيل: إنه رأى شيئاً من الحور في منامه. فبقي في قلبه شيء من ذلك، فمضيب وسلمت عليه، وقلت: رزقك الله الحور العين، فانبسط الشيخ معي.
وقيل: رأى أيوب السختياني جنازة عاص، فدخل دهليزاً؛ لئك يحتاج إلى الصلاة عليها فرأى بعضهم الميت في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. وقال لي قل لأيوب السختياني " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق " .
وقيل: رؤي الليلة التي مات فيها مالك بن دينار كأن أبواب السماء قد فتحت، وقائلاً يقول: ألا إن مالك بن دينار أصبح من سكان الجنة.
وقال بعضهم: رأيت الليلة التي مات فيها داود الطائي نوراً، وملائكة صعوداً وملائكة نزولاً، فقلت: أي ليلة هذه؟ فقالوا: ليلة مات فيها داود الطائي وقد زخرفت الجنة لقدوم روحه على أهلها.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم القشيري: رأيت الأستاذ أبا عليّ الدقاق في المنام، فقلت له: ما فعل بك؛ فقال: ليس للمغفرة هاهنا كبير خطر، أقل من حضر هاهنا خطراً " فلان " أعيى كذا كذا.
ووقع لي في المنام أن ذلك الإنسان الذي ناه قتل نفساً بغير حق.
وقيل: لما مات كرز بن وبرة رؤي في المنام كأن أهل القبور خرجوا من قبورهم وعليهم ثياب جدد بيض قيل: ما هذا؟ قيل: إن أهل القبور كسوا ثياباً جدداً لقدوم كرز بن وبرة عليهم.
ورؤي يوسف بن الحسين في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل له: بماذا؟ فقال: لأني ما خلطت جداً بهزل قط.
ورؤي أبو عبد الله الزرّاد في المنام، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: أوقفني، وغفر لي كلَّ ذنب أقررت به في الدنيا، إلا واحداً استحييت أن اقر به، فوقفني في العرق، حتى سقط لحم وجهي!! فقيل له: وما ذاك؟ فقال: نظرت يوماً إلى شخص جميل؛ فاستحييت أن أذكره.
سمعت أبا سعيد الشحام يقول: رأيت الشيخ الإمام أبا الطيب سهلاً الصعلوكي في المنام، فقلت له: أيها الشيخ، فقال: دع الشيخ!! فقلت: وتلك الأحوال التي شاهدتها؟! فقال: لم تغن عنا شيئاً، فقلت: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال غفر لي مسائل كانت تسأل عنها العُجُز فأجبتهم عنها.
سمعت أبا بكر الرشيدي الفقيه يقول: رأيت محمداً الطوسي المعلم في المنام، فقال لي: قل لأبي سعيد الصفار المؤدب:
وكنا على أن لا نخول عن الهوى ... فقد، وحياة الحب حلتم، وما حِلنا
تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا ... وأظهرتمُ الهجران، ما هكذا كنا!!
لعل الذي يقضي الأمور بعلمه ... سيجمعنا بعد الممات كما كنا
قال: فانتبهت. وقلت ذلك لأبي سعيد الصفار، فقال: كنت أزرو قبره كل يوم جمعة، فلم أزره هذه الجمعة.
وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله جماعتة من الفقراء، فبينما هو كذلك إذ نزل من السماء ملكان، وبيد أحدهما وطئت، وبيد الآخر إبريق؛ فوضع الطست بين يدي رسول الله على الله عليه وسلمن فغسل يده، ثم أمر الملكين حتى غسلوا أيديهم، تم وضع الطست بين يدين فقال أحدهما للأخر: لا تصب على يده؛ فإنه ليس منهم، فقلت يا رسول الله، اليس قد روى عنك أنك قلت " المصع من أحب " ؟ فقال: بلى، فقلت وأنا أحبك، وأحبُّ هؤلاء الفقراء، فقال صلى الله عليه وسلم: " صب على يده، فإنهم منهم "

وحكي عن بعضهم أنه كان يقول: أبداً: العافية.. العافية، فقيل له: ما معنى هذا الدعاء؟ فقال: كنت حمالاً في ابتداء أمري، وكنت حملت يوماً صدراً من الدقيق، فوضعته لاستريح، فكنت أقول: يا رب، ولو أعطيتني كل يوم رغيفين من غير تعب لكنت أكتفي بهما، فإذا رجلان يختصمان. فتقدمت أصلح بينهما: فضرب أحدهما رأسي بشيء أراد أن يضرب به خصمه، فدمي وحبي.. فجاء صاحب " الربع " فأخذهما، فلما رآني ملوثاً بالدم أخذني وظني أنني ممن تشاجر. فأدخلني السجن، وبقيت في السجن مدّه أوتي كل يوم برغيفين، فرأيت ليلة في المنام قائلاً يقول لي: إنك سألت الرغيفين كل يوم من غير نصب، ولم تسال العافية!! فأعطك ما سألت. فانتبهت، وقلت العافية. العافية، فرأيت باب السجن يُقرع، وقيل: أين عمر الحمال؟ فأطلقوني وخلوا سبيلي.
وحكي عن الكتاني أنه قال: كان عندنا رجل من أصحابنا هاجت عينه، فقيل له: ألا تعالجها؟ فقال: عزمت على أن لا أعالجها حتى تبرأ، قال: فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول: لو كان هذا العزم على أهل النار كلهم، لأخرجناهم من النار.
وحكي عن الجنيد أنه قال: رأيت في المنام كأني أتكلم على الناس.. فوقف عليّ ملكٌ. فقال: أقرب ما تقرّب به المتقربون إلى الله ماذا؟ فقلت: عملٌ خفيّ بميزانٍ وفيّ. قال: فولى الملك عني، وهو يقول: كلام موفق والله.
وقال رجل للعلاء بن زياد: رأيت في المنام كأنك من أهل الجنة. فقال: لهل الشيطان أراد أمراً فعصمت منه، فأشخص إليّ رجلا يعينه على مقصوده من إضلالي.
وقيل رؤي عطاء السلمي في النوم، فقيل له: لقد كنت طويل الحزن، فما فعل الله تعالى بك؟ فقال: أما والله لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحاً دائماً، فقيل له: ففي أي الدرجات أنت؟ فقال: " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.. " الآية.
وقيل: رؤيا الأوزاعي في المنام، فقال: ما رأيت ها هنا درجة أرفع من درجة العلماء، ثم المحزونين.
وقال النباجي: قيل لي في المنام: من وثق بالله في رزقه زيد في حسن خلقه، وسمحت نفسه في نفقته، وقلت وساوسه في صلاته.
وقيل: رؤيت زبيدة في المنام، فقيل لها: ما فعل الله تعالى بك؟ فقالت غفر لي، فقيل: بكثرة نفقتك في طريق مكة؟ فقالت: لا، أما إنًّ أجرها عاد إلى أربابها، ولكن غفر لي بنيًّتي.
ورؤي سفيان الثوري في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: وضعت أول قدميّ على الصراط، والثاني في الجنة.
وقال أحمد بن أبي الحواري: رأيت في النوم جارية ما رأيت أحسن منها، يتلألأ وجهها نوراً، فقلت: ما أنور وجهك، فقالت: تذكر الليلة التي بكيت فيها؟ فقلت: نعم، فقالت: حملت إليّ دمعتك فمسحت بها وجهي، فصار وجهي هكذا.
وقيل: رأى يزيد القرشي النبي صلى الله عيه وسلم في المنام، فقرأ عليه، فقال له: هذه القراءة فأين البكاء؟! وقال الجنيد: رأيت في المنام كأن ملكين نزلا من السماء، فقال أحدهما لي: ما الصدق؟ فقلت: الوفاء بالعهد، فقال الآخر: صدق، ثم صعدا.
ورؤي بشر الحافي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وقال: أما استحييت يا بشر مني، كنت تخافني كلّ ذلك الخوف!! وقيل: رؤي أبو سليمان الداراني في المنام، فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وما كان شيء أضرَّ عليِّمن إشارات القوم!! وقال علي بن الموفق: كنت أفكر يوماً في سبب عيالي من الفقر الذي بهم، فرأيت في المنام رقعة فيها مكتوب " بسم الله الرحمن الرحيم: يا ابن الموفق، أتخشى الفقر وأنا ربُّك!! " فلما كان وقت الغلس أتاني رجل بكيس فيه خمسة آلاف دينار، وقال: خذها إليك يا ضعيف اليقين.
وقال الجنيد: رأيت في المنام كأني واقف بين يدي الله تعالى فقال لي: يا أبا القاسم: من أين لك هذا الكلام الذي تقول؟ فقلت: لا أقول إلا حقّا، فقال: صدقت.
وقال أبو بكر الكتاني: رأيت في المنام شاباً لم أر أحسن منه، فقلت: من أنت؟ فقال: التقوى، قلت: فأين تسكن؟ قال: في قلب كل حزين، ثم التفت فإذا امرأة سوداء كأوحش ما يكون، فقلت: من أنت؟ فقالت: الضحك، فقلت: وأين تسكنين؟ فقالت في كل قلب فرح. مرح. قال: فانتبهت، واعتقدت أن لا أضحك إلا غلبة.

وحكي عن أبي عبد الله بن خفيف أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه قال لي: من عرف طريقاً إلى الله تعالى سلكه، ثم رجع عنه عذبه الله عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين.
ورؤي الشبلي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ناقشني حتى أيست، فلما رأى يأسي تغمدني برحمته.
وقال أبو عثمان المغربي: رأيت في النوم كأن قائلا يقول لي: يا أبا عثمان، اتق الله في الفقر، ولو بقدر سمسمة.
وقيل: كان لأبي سعيد الخراز ابن مات قبله، فرآه في المنام، فقال له: يا بني، أوصني.
فقال: يا أبت، لا تعامل الله على الجبن، فقال: يا بني، زدني.
فقال: لا تخالف الله تعالى فيما يطالبك به، فقال: زدني.
فقال: لا تجعل بينك وبين الله قميصاً قال؛ فما لبس القميص ثلاثين سنة.
وقيل: كان بعضهم يقول في دعائه: اللهم الذي لا يضرك وينفعنا لا تمنعه عنا، فرأى في المنام كأنه قيل له: وأنت. فالشيء الذي يضرك ولا ينفعك فدعه.
وحكي عن أبي الفضل الأصبهاني أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله سل الله أن لا يسلبني الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك شيء قد فرغ الله تعالى منه. وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: رأيت إبليس في المنام، فأخذت عصاي لأضربه، فقيل لي: إنه لا يفزع من هذا، إنما يفزع من يكون في القلب.
وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في النوم تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمّرة بمناديل من نور.
ويروى عن سماك بن حرب أنه قال: كف ّبصري، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول لي: إئت الفرت، فانغمس فيه، وافتح عينيك، قال: ففعلت، فأبصرت.
وقيل: رؤي بشر الحافي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لما رأيت ربي عزوجل قال لي: مرحباً يا بشر، لقد توفيتك يوم توفيتك، وما على الأرض أحبّ إليّ منك.
باب الوصية للمريدين
قال الأستاذ الإمام: لما اثبتنا طرفاً من سير القوم، وضممنا إلى ذلك أبواباً من المقامات، أردناأن نختم هذا الرسالة بوصية للمريدين، نرجو من الله تعالى حسن توفيقهم لاستعمالها، وأن لا يحرمنا القيام بها، وأن لا يجعلها - سبحانه - حجة علينا.
فول قدم للمريد في هذه الطريقة ينبغي أن يكون على الصدق، ليصح له البناءُ على أصل صحيح؛ فإن الشيوخ قالوا: إنما حُرموا الوصول لتضييعهم الأصول..
كذلك سمعت الأستاذ أبا علي يقول؛ فتجب البداية بتصحيح اعتقاد بينه وبين الله تعالى، صاف عن الظنون والشبه، خال من الضلالة والبدع، صادر عن البراهين والحجج.
ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة.
وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين، سوى طريقة الصوفية، إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة؛ فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب.
والناس: إمَّا أصحاب النقل والأثر، وما أرباب العقل والفِكر.
وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة؛ فالذي للناس غيب، فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه، موجوج، فهم أهل الوصال، والناسً أهل الاستدلال.
وهم كما قال القائل:
ليلى بوجهك مشرق ... وظلامُه في الناس ساري
فالناس في سلدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار
ولم يكن عصر ن الأعصار في مدة الإسلام إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة، ممن له علوم التوحيد، وإمامة القوم إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء استسلموا لذلك الشيخ، وتواضعوا وتبركوا به..
ولولا مزية، وخصوصية لهم، وإلا كان الأمر بالعكس..
هذا أحمد بن حنبل كان عند الشافعي، رضي الله عنهما، فجاء شيبان الراعي فقال أحمد: أريد يا ابا عبد الله أن أُنبِّه هذا على نقصان علمه، ليشتغل بتحصيل بعض العلوم.
فقال الشافعي: لا تفعل!! فلم يقنع؛ فقال لشيبان: ما تقول فيمن نسي صلاة من خمس صلوات في اليوم والليلة، ولا يدري أي صلاة نسيها، ما الواجب عليه: يا شيبان؟! فقال شيبان: يا أحمد، هذا قلب غفل عن الله تعالى، فالواجب أن يؤدب حتى لا يغفل عن مولاه بعدُ!! فغشي على أحمد.. فلما أفاق، قال له الإمام الشافعي، رحمه الله: ألم أقل لك لا تحرك هذا!!

وشيبان الراعي كان أمياً منهم، فإذا كان حالُ الأمي منهم هكذا، فما الظنُّ بأئمتهم؟؟ وقد حكي أن فقيهاً من أكابر الفقهاء كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي في جامع المنصور، وكان يقال لذلك الفقيه أبو مران وكان تتعطل عليهم حلقتهم لكلام الشبلي.
فسأل اصحابُ أبي عمران يوماً الشبلي عن مسألة في الحيض، وقصدوا إخجال!! فذكر مقالات الناس في تلك المسألة، والخلاف فيها..
فقام أبو عمران وقبل رأس الشبليّ، وقال: يا أبا بكر، استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاثة أقاويل.
وقيل: اجتاز أبو العباس بن سريج الفقيه بمجلس الجنيد، رحمهما الله، فسمع كلامه، فقيل له: ما تقول في هذا الكلام؟ فقال: لا أدري ما يقول.. ولكني أرى لهذا الكلام صولة ليست بصولة مبطل.
وقيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب: أنت تتكلم على كلام كل أحد، وهاهنا رجل يقال له الجني، فانظر هل تعترض عليه أم لا؟ فحضر حلقته..
فسأل الجنيدَ عن التوحيد فأجابه، فتحيّر عبد الله وقال: أعد عليّ ما قلت؟.
فأعاده ولكن لا بتلك العبارة.
فقال له عبد الله: هذا شيء آخر لم أحفظ، تعيده عليّ مرة أخرى..
فأعاد بعبارة أخرى، فقال عبد الله: ليس يمكنني حفظ ما تقول!! أمْلِه علينا، فقال: إن كنت أجزته فأنا أمليه، فقام عبد الله، وقال بفضله، واعترف بعلوَ شأنه.
فإذا كان أصول هذه الطائفة أصحَّ الأصول، ومشايخُهم أكبرَ الناس، وعلماؤهم أعلمَ الناس، فالمريد الذي له إيمان بهم: إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقاصدهم فهو يساهمهم فيما خُصوا به من مكاشفات الغيب، فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة، وإن كان مريداً طريقةَ الاتباع وليس بمستقبل بحاله، يريد أن يعرج في أوطان التقليد إلى أن يصل إلى التحقيق فليقلد سلَفَه، وليجر على طريقة هذه الطبقة؛ فإنهم أولى به من غيرهم.
ولقد سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول: ما ظنك بعِلمَ عِلم العلماءُ فيه تهمة!! وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي بن محمد المخرمي يقول: سمعت محمد ابن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: لو علمت أن لله عِلْماً تحت أديم السماء اشرفُ من هذا العلم الذي نتكلم فيه ما أصحابنا وإخواننا لسعيت إليه، ولقصدته.
وإذا أحكم المريد بينه وبين الله عقده، فيجب أن يحصل من علم الشريعة، إما بالتحقيق، وإما بالسؤال عن الأئمة ما يؤدي به فَرْضَه، وإن اختلف عليه فتاوى الفقهاء يأخذُ بالأحوط، ويقصد الخروج من الخلاف، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال.
وهؤلاء الطائفة ليس لهم شغل سوى القيام بحقِّه سبحانه، ولهذا قيل: إذا انحظ الفقير عن درجة الحقيقة إلى رُخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله، ونقض عهده فيما بينه وبين الله تعالى.
ثم يجب على المريد أن يتأدَّب بشيخ؛ فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً.
هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان.
وسمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غراس فإنها تورق، ولكن لا تُثمر؛ كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفساً نفساً فهو عابد هواه، لا يجد نفاذاً.
ثم إذا أراد السلوكَ فبعد هذه الجملة يجب أن يتوب إلى الله سبحانه من كل زلة؛ فيدع جميع الزلات: سرها وجهرها، صغيرها وكبيرها، ويجتهد في إرضاء الخصوم أولاً، ولم يُرض خصومَه، لا يفتح له من هذه الطريقة بشيء.
وعلى هذا النحو جروا، ثم بعد هذا يعمل في حذف العلائق والشواغل؛ فإن بناء هذا الطريق على فارغ القلب.
وكان الشبلي يقول للحصري في ابتداء أمره: إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة الثانية التي تأتيني فيها غيرَ الله تعالى فحرام عليك أن تحضرني.
وإذا أراد الخروج عن العلائق فأولها: الخروج عن المال؛ فإن ذلك الذي يميل به عن الحق، ولم يوجد مريدٌ دخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج، فإذا خرج عن المال، فالواجب عليه الخروجُ عن الجاه، فإن ملاحظة حب الجاه مقطعة عظيمة.

وما لم يستو عند المريد قبول الخلق وردهم لا يجيء منه شيء، بل اضرُّ الأشياء له ملاحظة الناس إياه بعين الإثبات والتبرُّك به لإفلاس الناس عن هذا الحديث، وهو بعد لم يصحح الإرادة، فكيف يصح أن يتبرك به؟! فخروجهم من الجاه واجب عليهم؛ لأن ذلك سم قاتل لهم، فإذا خرج عن ماله وجاهه فيجب أن يصحح عقده بينه وبين الله تعالى، وأن لا يخالف شيخه في كلِّ ما يشير عليه: لأن الخلاف للمريد في ابتداء امره عظيم الضرر؛ لأن ابتداء حاله دليل على جميع عمره.
ومن شرطه: أن لا يكون له بقلبه اعتراض على شيخه، فإذا خطر ببال المريد أن له في الدنيا والآخرة قدراً أو قيمة، أو على بسيط الأرض أحد دونه لم يصح له في الإرادة قدم، لأنه يجب أن يجتهد، ليعرف ربه، لا ليحصل لنفسه قدراً.
وفرق بين من يريد الله تعالى وبين من يريد جاه نفسه، إما عاجله وإما، آجله، ثم يجب عليه حفظ سره حى عن زِره إلا عن شيخه، ولو كنتم نفساً من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في حق صحبته، ولو وقعت له مخالفة فيما شار علي شيخه، فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت، ثم يستسلم لما يحكم به عليه شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته، إما بسفر يُكلفه، أو أمر ما يراه.
ولا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى، وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخ أن يلقنه شيئاً من الأذكار، بل يجب أن يقدم التجربة له، فإذ شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحيئذ يشترط عليه أن يرضي بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء، فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضرر والذل، والفقر والأسقام والآلام، وأن لا ينجح بقلبه إلى السهولة، ولا يترخص عند هجوم الفاقات وحصول الضرورات، ولا يؤثر الدعة، ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شر من فترته.
والفرق بين الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها، والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل.
وكان مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء.
فإذا جر به شيخه، فيجب عليه أن يلقنه ذكراً من الأذكار على ما يراه شيخه فيأمره أن يذكر ذلك الاسم بلسانه، ثم يأمره أن يستوي قلبه مع لسانه، فيقول له: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبداً بقلبك، ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك ثم يأمره أن يكون أبداً في الظاهر على الطهارة، وأن لا يكون نومه إلا غلبة، وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء حتى يقوى على ذلك، ولا يأمره أن يترك عادته بمرة، فإن في الخبر: " إنَّ المنبتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " .
ثم يأمره بإيثار الخلوة والعزلة، ويجعل اجتهاده في هذه الحالة لا محالة في نفي الخواطر الدنية والهواجس الشاغلة للقلب.
واعلم، أن في هذه الحالة قلما يخلوا المريد في أوان خلوته في ابتداء إرادته من الوساوس في الاعتقاد، لا سيما إذا كان في المري كياسة قلب، وقلَّ مريدٌ لا تستقبله هذه الحالة في ابتداء إرادته.
وهذه من الامتحانات التي تستقبل المريدين، فالواجب على شيخه إن رأى فيه كياسة، أن يحيله على الحجج العقلية، فإن بالعلم يتخلص لا محالة المتعرف مما يعتريه من الوساوس.
وإن تفرس شيخه فيه القوة والثبات في الطريقة أمره بالصبر واستدامة الذكر حتى تسطع في قلبه أنوار القبول، وتطلع في سره شموس الوصول، وعن قريب يكون ذلك.
ولكن لا يكون هذا إلا لأفراد المريدين، فأما الغالب فأن تكون معالجتهم بالرد إلى النظر، وتأمل الآيات بشرط تحصيل علم الأصول على قدر الحاجة الداعية للمريد.
واعلم أنه يكون للمريدين على الخصوص بلايا من هذا الباب، وذلك أنهم إذا خلوا في مواضع ذكرهم، أن يكونوا في مجالس سماع، أو غير ذلك فيهجس في نفسه ويخطر، ببالهم أشياء منكرة، يتحققون أن الله، سبحانه، منزه عن ذلك، وليس تعتريهم شبهة في أن ذلك باطل، ولكن يدوم ذلك، فيشتد تأذيهم به، حتى يبلغ ذلك حداً يكون أصعب شتم وأقبح قول وأشنع خاطر، بحيث لا يمكن للمريد إجراء ذلك على اللسان، وإبداؤ لأحد، وهذا أشد شيء يقع لهم.
فالواجب عند هذا ترك مبالاتهم بتك الخواطر، واستدامة الذكر، والابتهال إلى الله باستدفاع ذلك.

وتلك الخواطر ليست من وساوس الشيطان، وإنما هي من هواجس النفس، فإذا قابلها للعبد بترك المبالاة بها ينقطع ذلك عنه.
ومن آداب المريد، بل من فرائض حاله، أن يلازم موضع إرادته، وأن لا يسافر قبل أن تقبله الطريق، وقبل الوصول بالقلب إلى الرب، فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل، ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته.
وإذا أراد الله بمريد خيراً ثبته في اول رادته، وإذا أراد الله بمريد شراً رَده إلى ما خرج عنه من حرفته أو حالته، وإذا أراد الله بمريد محنة شرَّده في مطارح غربته.
هذا إذا كان المريد يصلح للوصول: فأما إذا كان شاباً طريقته الخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء، وهو دونهم في هذه الطريقة رتبة، فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر، فينقطعون في الأسفار. وغية نصيبهم من هذه الطريقة حِجَّات يحصلونها، وزيارات لموضع يُرتحل إليه، ولقاء شيوخ بظاهر سلام، فيشاهدون الظواهر، ويكتفون بما في هذا الباب من السير، فهؤلاء الواجب لهم دوام السفر، حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة كان في معرض الفتنة.
وإذا توسط المريد جمع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جداً، فإن امتحن واحد بذلك فليكن سبيله احترام الشيوخ، والخدمة للأصحاب، وترك الخلاف عليهم،والقيام بما فيه راحة الفقير، والجهد في أن لايستوحش منه قلب شيخ.
ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبداً خصمهم على نفسه، ولا يكون خصم نفسه عليهم، ويرى لكل واحد منهم عليه حقاً واجباً، ولا يرى لنفسه واجباً على أحد.
ويجب أن لا يخالف المريد أحداً، وإن علم أن الحق معه يسكت، ويُظهر الوفاق لكل أحد.
وكل مريد يكون فيه ضحك ولجاج ومماراة فإنه لا يجيى منه شيء!! وإذا كان المريد في جمع من الفقراء، إما في سفر أو حضر، فينبغي أن لا يخالفهم في الظاهر، لا في أكل ولا صوم ولا سكون ولا حركة، بل يخالفهم بسره وقلبه، فيحفظ قلبه مع الله عزَّ وجلَّ، وإذا أشاروا عليه بالأكل، مثلاً، يأكل لقمة أو لقمتين، ولا يعطى نفس شهوتها.
وليس من آداب المريدين كثرة الأوراد في الظاهر، فإن القوم في مكابدة إخلاء خواطرهم، ومعالجة أخلاقهم، ونفى الغفلة عن قلوبهم، لا في تكثير أعمال البر. والذي لابد لهم منه إقامة الفرائض والسنن الراتبة.
فأما الزيادة من الصلوات النافلة فاستدامة الذكر بالقلب أتم لهم.
ورأس مال المريد: الاحتمال عن كل أحد، بطيبة النفس، وتلقي ما يستقبله بالرضا، والصبر على الضر والفقر، وترك السؤال والعارضة في القليل ولكثير فيما هو حظ له.
ومن لم يصبر على ذلك فليدخل السوق، فإن من اشتهى من يشتهيه الناس، فالواجب أن يحصل شهوته من حيث يحصلها الناس: من كد اليمين، وعرق الجبين...
وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لم يجده قبله إما في النوم وإما في اليقظة، أو بين اليقظ. والنوم من خطاب يًسمْع، أو معنى يُشاهد مما يكون نقضاً للعادة، فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة، ولا يسكن إليه، ولا ينبغي له أن ينتظر حصول أمثال ذلك، فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه.
ولابد له في هذه الأحوال من وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه فارغاً عن ذلك.
ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره، فيكتم عن غيره أمره، ويصغر ذلك في عينه، فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر، فليحظر المريد عن ذلك، وعن ملاحظتها، وليجعل همته فوق ذلك.
واعلم أن أضر الأشياء بالمريد: استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له، ومنته عليه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك، فإنه لو قال بترك هذا فعن قريب سيختطف عن ذلك مما يبدو له من مكاشفات الحقيقة.
وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعذر.
ومن أكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين، ثم يقيم عليه، ولا يبرح عن سدّته إلى وقت الإذن.
واعلم أن تقديم معرفة رب البيت - سبحانه - على زيارة البيت واجب، فلولا معرفة رب البيت ما وجبت زيارة البيت، والشبان الذين يخرجون إلى الحج ثم زيارة البيت من هؤلاء القوم من غير إشارة إلى الشيوخ فهي بدلالات نشاط النفوس، فهم متوسمون بهذه الطريقة، وليس سفرهم على أصل.

والذي يدل على ذلك: أنه لا يزداد سفرهم إلا وتزداد تفرقة قلوبهم، فلو أنهم ارتحلوا من عند أنفسهم بخطوة لكان أحظة لهم من ألف سفرة.
ومن شرط المريد إذا زار شخصاً أن يدخل عليه بالحرمة، وينظر إليه بالحشمة، فإن أهله الشيخ لشيء من الخدمة عدّ ذلك من جزيل النعمة.
فصل
عصمة المشايخ
ولا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة بل الواجب أن يذوهم وأحوالهم؛ فيحسن بهم الظن ويراعى مع الله تعالى حده فيما يتوجه عليه من الأمر.
والعلم كافية في التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول.
فصل
ما بقي في قلب المريد من الدنيا
وكلُّ مريد بقي في قلبه لشيء من عروض الدنيا مقدار وخطر قاسم الإرادة له مجاز.
وإذا بقي في قلبه اختيار فيما يخرج عنه من معلومه فيريد أن يخص به نوعاً من أنواع البرّ، أو شخصاً دون شخص، فهو متكلف في حاله، وبالخطر أن يعود سريعاً إلى الدنيا، لأن قصد المريد في حذف العلائق الخروجُ منها، لا السعي في أعلى البر.
وقبيح بالمريد أن يخرج من معلومه من رأس ماله، وقنيته، ثميكون أسير حرفة.
وينبغي أني ستوي عنده وجود ذلك وعدمه، حتى لا ينافر لأجله فقيراً، ولا يضايق به أحداً، ولو مجوسياً.
فصل
قبول قلوب المشايخ للمريد..
أصدق شاهد لسعادته
ومن رده قلب شيخُ من الشيوخ فلا محالة يرى غبّ ذلك، ولو بعد حين.
ومن خُذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته، وذلك لا يخطىء.
فصل
صحبة الأحداث
من أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله بشيء من ذلك فبإجماع الشيوخ: ذلك عبدٌ أهانه الله عزّ وجل وخذل، بل عن نفسه شغله، ولو بألف ألف كرامة أهله.
وهب أنه بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر تلويح بذلك، أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق!! وأصعب من ذلك: تهوين ذلك على القلوب، حتى يعد ذلك يسيراً، وقد قال الله تعالى: " وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " .
وهذا الواسطي رحمه الله، يقول: إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف.
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: سمعت فتحاً الموصلي يقول: صحبت ثلاثين شيخاً كانوا يعدون من الأبدال، كلهم أوصوني عند فراقي إياهم، وقالوا لي: اتق معاشرة الأحداث ومخالطتهم.
ومن ارتقى في هذا الباب عن حالة الفسق، وأشار إلى أن ذلك من بلاء الأرواح وأنه لا يضرّ، وما قالوه من وساوس القائلين بالشاهد، وإيراد حكايات عن بعض الشيوخ، لما كان الأولى بهم إسبال الستر عن هناتهم وآفاتهم، الصادرة منهم فذلك نظير الشرك وقرين الكفر.
فليحذر المريد من مجالسة الأحداث، ومخالطتهم؛ فإنه اليسير منه فتح باب الخذلان، وبدء حال الهجران. ونعوذ بالله من قضاء السوء.
فصل ومن آفات المريد
الحسد للإخوان
ما يتداخل النفس من خفيَّ الحسد للإخوان والتأثر بما يفرد الله عز وجل به أشكاله من هذه الطريقة، وحرمانه إياه ذلك.
وليعلم أن الأمور قِسَم، وإنما يتخلص العبد عن هذا باكفتائه بوجود الحق، وقدمه عن مقتضى جوده ونعمه.
فكل من رأيت أيها المريد قَدَم الحقُّ، سبحانه، رتبته فأحمل أنت غاشيته؛ فإن الظفراء من القاصدين على ذلك استمرت سنتهم.
فصل
إيثارُ الكل بالكل
من حق المريد إذا اتفق وقوعه في جمع إيثارُ الكل بالكل فيقدم الجائع والشبعان على نفسه، ويتلمذ لكل من أظهر عليه التشيخ، وإن كان هو أعلم منه، ولا يصل إلى ذلك إلا بتبريه عن حوله وقوته،وتوصله إلى ذلك بطول الحق ومنته.
فصل
آداب المريد في السماع
فالمريد لا يسلم له الحركة في السماع بالاختيار ألبتة؛ فإن ورد عليه وارد حركة لم يكن فيه فضل قوة فبمقدار الغلبة يعذر فإذا زالت الغلبة يجب عليه القعود والسكون، فإن استدام الحركة مستحلياً للوجد من غير غلبة وضرورة لم يصح، فإن تعود ذلك يبقى متخلفاً لا يكاشف بشيء من الحقائق، فغاية أحواله حينئذ أن يطيب قلبه.
وفي الجملة إن الحركة تأخذ من كل متحرك وتنقص من حاله، مريداً كان أو شيخاً، إلا أن تكون بإشارة من الوقت، أو غلبة تأخذه عن التمييز.

فإن كان مريداً أشار عليه الشيخ بالحركة فتحرك على إشارته فلا بأس إذا كان الشيخ ممن له حكم على أمثاله.
وأما إذا أشار عليه الفقراء بالمساعدة في الحركة فيساعدهم في القيام، وفي أداء مالا يجد منه بداً مما يراعى عن الاستيحاش لقلوبهم.
ثم إنّ صدقه في حاله يمنع قلوب الفقراء من سؤالهم عند المساعدة معهم.
وأما طرح الخِرقة فحق المريد أن لا يرجع في شيء منه ألبتة، اللهم إلا أن يشير عليه شيخ بالرجوع فيه، فيأخذه على نية العارية بقلبه، ثم يخرج عنه بعده من غير أن يستوحش قلب ذلك الشيخ.
وإذا وقع بين قوم عادتهم طرح الخرقة، وعلم أنهم يرجعون فيها، فإن لم يكن فيهم شيخ تجب حشمته وحرمته،وكان طريق هذا المريد أن لا يعود في الخرقة فالأحسن له أن يساعدهم في الطرح، ثم يؤثر به القوال إذا رجعوا هم فيها، ولو لم يطرح؛ فإنه يجوز إذا علم من عادة القوم أنهم يعودون فيما طرحوا فإن القبيح إنما هو سنتهم في العود إلى الخرق، لا في مخالفته لهم. على أن الأولى الطرح على الموفقة، ثم ترك الرجوع فيه.
ولا يسلم للمريد ألبتة التقاضي على القوال؛ لأن صدق حاله يحمل القوال على التكرار، ويحمل غيره على الاقتضاء.
ومن تبرك بمريد فقد جار عليه، لأنه يضره لقلة قوته، فالواجب على المريد ترك تربية الجاه عند من قال بتركه وإثباته.
فصل
إن ابتلي مريد بجاه
أو معلوم، أو صحبة حدث، أوميل إلى امرأة، أو استنامة إلى معلوم، وليس هناك شيخ يدله على حيلة يتخلص بها من ذلك، فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع، ليشوش على نفسه تلك الحالة.
ولا شيء أضر بقلوب المريدين من حصول الجاه لهم قبل خمود بشريتهم.
ومن آداب المريد: أن لا يسبق علمه في هذه الطريقة منازلته. فإنه إذا تعلم سير هذه الطائفة، وتكلف الوقوف على معرفة مسائلهم وأحوالهم قبل تحققه بها بالمنازلة والمعاملة بعد وصوله إلى هذه المعاني ولهذا قال المشايخ: إذا حدّث العارف عن المعارف، فجهَّلوه، فإن الاخبار عن لمنازل دون المعارف.
ومن غلب علمه منازلته فهو صاحب علم، لا صاحب سلوك.
فصل
آداب المريدين
أن لايتعرضوا للتصدر، وأن يكون لهم تلميذاً ومريداً فإن المريد ذا صار مراداً، قبل خمود بشريته وسقوط آفته، فهو محجوب عن الحقيقة، لا تنفع أحداً إشارته وتعليمه.
فصل إذا خدم المريد الفقراء فخواطر الفقراء أرسلهم إليه. فلا ينبغي أن يخالف المريد ما حكم به باطنه عليه من الخلوص في الخدمة، وبذل الوسع والطاقة.
فصل شأن المريد إذا كان طريقته خدمة الفقراء الصبر على جفاء القوم معه. وأن يعتقد أنه يبذل روحه في خدمتهم. ثم لا يحمدون له أثراً. فيعتذر إليهم من تقصيره. ويقر بالجناية على نفسه؛ تطبيقاً لقلوبهم.
وإن علم أنه بريء الساحة، وإذا زادوه في الجفاء، فيجب أن يزيدهم في الخدمة والبرّ.
سمع الإمام أبا بكر بن فورك يقول: إن في المثل: " إذا لم تصبر على المطرقة فلماذا كنت سنداناً " . وفي معناه أنشدوا:
ربما جثته لأسلفه العذر ... لبعض الذنوب قبل التجني
فصل حفظ آداب الشريعة بناء على هذا الأمر ومِلاكه على حفظ آداب الشريعة وصون اليد عن المدّ إلى الحرامُ والشبهة، وحفظ الحواس عن المحظورات، وعدّ الأنفاس مع الله تعالى عن الغفلات، وأن لا يستحل مثلاً سمسمة فيها شبهة في أوان الضرورات فكيف عند الاختيار، ووقت الراحات؟! ومن شأن المريد دوام المجاهدة في ترك الشهوات، فإن من وافق شهوته عدّم صفوته.
وأقبح الخصال بالمريد رجوعه إلى شهوة تركها لله تعالى.
فصل حفظ العهود مع الله تعالى
 من شأن المريد حفظ عهوده مع الله تعالى فإن نقض العهد في طريق الإرادة كالرِّدة عن الدين لأهل الظاهر.
ولا ينبغي للمريد أن يعاهد الله تعالى على شيء باختياره ما أمكنه، فإن في لوازم الشرع ما يستوفي منه كل وّسع: قال الله تعالى في صفة قوم: " ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها " .
فصل من شأن قصر الأمل فإن الفقير ابن وقته.
فإذا كان له تدبير في المستقبل، وتطلّع لغير ما هو فيه   من الوقت، وأملٌ فيما يستأنفه لا يجيء منه شيء.
فصل

أن لا يكون له معلوم وإن قلّ من شأن المريد أن لا يكون له معلوم وإن قلّ ولا سيما إذا كان بين الفقراء؛ فإن ظلمة المعلوم تطفىء نور الوقت.
فصل ترك قبول رفق النسوان من شأن المريد، بل من طريقة سالكي هذا المذهب: ترك قبول رفق النسوان، فكيف التعرَّض لاستجلاب ذلك؟! وعلى هذا درج شيوخهم، وبذلك نفذت وصاياهم.
ومن استصغر هذا، فعن قريب يلقي ما يفتضح فيه.
فصل التباعد عن أبناء الدنيا من شأن المريد: التباعد عن أبناء الدنيا.
فإنَََّ صحبتهم سمٌّ مجرب!! لأنهم ينتفعون به وهو ينتقض بهم، قال الله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " .
وأنّ الزّهاد يخرجون المال عن الكيس تقرُّباً إلى الله تعالى، وأهل الصفاء يخرجون الخلق والمعارف تحققاً بالله تعالى.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، رضي الله تعالى عنه: فهذه وصيتنا إلى المريدين، نسأل الله الكريم لهم التوفيق، وأن لا يجعلها وبالاً علينا.
وقد نجز لنا إملاء هذه الرسالة في أوائل سنة: ثمان وثلاثين وأربعمائة، نسأل الله الكريم أن لا يجعلها حجة علينا ووبالاً، بل تكون لنا وسيلة ونوالاً، إنّ الفضل منه مألوف، وهو بالعفو موصوف.
والحمد لله حقّ حمده، وصلواته، وبركاته، ورحمته على رسوله سيدنا النبيّ الأمي وآله الطاهرين، صحبة الكرام المنتخبين، وسلم تسليماً كثيراً.


تعليقات

المشاركات الشائعة