مقامات الصوفية 5

باب الأدب
قال الله عزَّ وجلَّ: " مازاغ البصر وما طغى " .
قيل: حفظ آداب الحضرة.
وقال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم ناراً " . جاء في التفسير عن ابن عباس: فقهوهم، وأدبوهم.
أخبرنا: عليّ بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار البصري قال: حدثنا غنام قال: حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال: حدثنا عبد الملك ابن الحسين، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن شيبة، عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حقّ الولد على والده: أن يسحن اسمه، ويحسن مرضعه، ويحسن أدبه " .
ويحكى عن سعيد بن المسيب أنه قال: من ل يعرف ما لله عزّ وجلّ، عليه في نفسه، ولم يتأدب بأمره ونهيه كان من الأدب في عزلة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: " إن الله، عزّ وجلّ، أدبني فأحسن تأديبي " .
وحقيقة الأدب: اجتماع جميع خصال الخير؛ فالأديب: هو الذي اجتمع فيه خصال الخير ومنه أخذت المأدبة اسم للمجمع.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: العبد يصل بطاعته إلى الجنة، وبأدبه في طاعته إلى الله.
وسمعته أيضاً يقول: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة بين يدي الله إلى أنفه، ليزيل ما به، فقبض على يده.
وكان الأستاذ أبو علي، رحمه الله، لا يستند إلى شيء، وكان يوماً في مجمع، فأردت أن أضع وسادة خلف ظهره؛ لأني رأيته غير مستند.. فتنحى عن الوسادة قليلاً.. فتوهمت أنه توقى الوسادة، لأنه لم يكن عليها خرقة أبو سجادة، فقال لا أريد الاستناد.
فتأملت بعده حاله؛ فكان لا يستند إلى شيء.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت أحمد بن محمد البصري يقول: سمعت الجلالي البصري يقول: التوحيد موجب يوجب الإيمان؛ فمن لا إيمان له فلا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة؛ فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد، والشريعة موجب يوجب الأدب؛ فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولاتوحيد.

وقال ابن عطاء: الأدب: الوقوف مع المحسنات، فقيل: وما معناه؟ قال: أن تعامل الله بالأدب سراً وعلناً؛ فغذا كنت كذلك كنت أديباً وإن كنت أعجمياً.
ثم أنشد:
إذا نطقت جاءت بكل ملاحةٍ ... وإن سكتت جاءت بكل مليح
أخبرنا. محمد بن الحسين، قال: سمعت عبد الله الرازيّ يقول: سمعت عبد الله الجريري يقول: منذ عشرين سنة ما مددت رجلي وقت جلوسي في الخلوة فإن حُسن الأدب مع الله أولى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من صاحب الملوك بغير أجب أسلمه الجهل إلى القتل.
وروي عن أبن سيرين أنه سئل: أيَّ الآداب أقرب إلى الله تعالى؟ فقال: معرفة بربو بيته، وعملٌ بطاعته، والحمد لله على السراء، والصبر على الضراء.
وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين.
سمعت الأستاذ أبا علي رحمه الله، يقول: ترك الأدب موجب يوجب الطرد؛ فمن أساء الأدب على البساط ر إلى الباب، ومن أساء الأدب علي الباب ردّ إلى سياسة الدواب.
وقيل للحسن البصري: قد أكثر الناس فيعلم الآدب، فما أنفعها عاجلاً وأوصلها آجلاً؟ فقال: التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله، عز وجل عليك.
وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله تعالى صار من أهل محبة الله تعالى.
وقال سهل: القوم الذين استعانوا بالله، على أمر الله، وصبروا على آداب الله.
وروي عن أبن المبارك أنه قال: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منَّا إلى كثير من العلم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قال الوليد بن عتبة: قال: ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤديون: وقيل: ثلاث خصال ليس معهن غُربة: مجانبةُ أهل الرِّيب، وحسن الأدب.وكف الأذى: وأنشدنا الشيخ أبو عبد الله المغربي، رضي الله عنه، في هذا المعنى:
يزين الغريبَ إذا ما اغترب ... ثلاث: فمنهن حسنُ الأدب
وثانيه: حسن أخلاقه ... وثالثه. اجتناب الرِّيب
ولما دخل أبو حفص بغداد قال له الجنيد: لقد أذبت أصحابك أدب السلاطين.
فقال له أبو حفص: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن.
وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف.
سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: قيل لبعضهم: ياسيء الأدب.
فقال: لست بسيء الأدب، فقيل له: من أدّبك؟ فقال: أدَّبني الصوفية سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا النصر الطوسي السراج يقول: الناس في الأدب علي ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا فأكثر آدابهم في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسماء الملوك وأشعار العرب.
وأما أهل الدين فأكثرهم آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات.
وأما أهل الخصوصية فأكثر آدابهم في طهارة القلوب ومراعات الأسرار والوفاء وبالعهود وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسنُ الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب.
وحكي عن سهل بن عبد الله أنه قال: من قهر نفسه بالآدب فهو يعبد الله بالإخلاص.
وقيل: كمال الأدب لا يصفو إلا للأنبياء والصديقين.
وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس في الأدب، ونحن نقول: هو معرفة النفس.
وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق سبحانه ترك الأدب.
وقال ذو النون المصري: أدب العارف فوق كل أدب؛ لأن معروفة مؤدب قلبه.
وقال بعضهم: يقول الحق، سبحانه: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فأختر أيهما شئت: الأدب أو العطب.
وقيل: مدّ ابن عطاء رجله يوماً بين أصحابه وقال: ترك الأدب بين أهل الأدب أدب.
ويشهد لهذه الحكاية الخبر الذي روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده أبو بكر، وعمر، فدخل عثمان فغطى فخذه وقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " نبه صلى الله عليه وسلم: أن حشمة عثمان، رضي الله عنه، وإن عظمت عنده، فالحالة التي بينه وبين أبي بكر وعمر كانت أصفى.
وفي قريب من معناه أنشدوا:
فيّ أنقاض وحشمة فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غيرَ محتشم

وقال الجنيد: إذا صحت المحبَّة سقطت شروط الأدب.
وقال أبو عثمان: إذا صحت المحبة تأكد علي المحب ملازمة الأدب.
وقال النوري: من لم يتأدب للوقت فوقته المقت.
وقال ذو النون المصري: إذا خرج المريج عن استعمال الأدب، فإنه يرجع عن حيث جاء.
سمعت الأستاذ أبا علي. رحمه الله، يقول في قوله عزَّ وجلَّ: وأيوب إذ نادى ربَّه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين " قال: لم يقل ارحمني لنه حفظ آداب الخطاب.
وكذلك عيسى عليه السلام حيث قال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " ، وقال: " إن كنت قلته فقد علمته " ولم يقل: لم أقل؛ رعاية لآداب الحضرة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الطيب بن الفرحان يقول: سمعت الجنيد يقول: جاءني بعض الصالحين يوم جمعة فقال لي: أبعث معي فقيراً يُدخل عليّ سروراً، ويأكل معي شيئاً؛ فالتفت، فإذا أنا بفقير شهدتُ فيه الفاقة.. فدعوته.. وقلت له: امض مع هذا الشيخ وأدخل عليه سروراً، فلم ألبث أن جاءني الرجل فقال لي: يا أبا القاسم لم يأكل ذلك الرجل الفقير إلا لقمة، وخرج!! فقتل: لعلك قلت كلمة جفاء عليه، فقال لي: لم أقل شيئاً.
فالتفت فإذا أنا بالفقير جالس، فقلت له: لمّ لمْ تتم عليه السرور؟ فقال: يا سيدي، خرجت من الكوفة وقدمت بغداد ولم آكل شيئاً.. وكرهت أن يبدو سوء أدب مني من جهة الفاقة في حضرتك.. فلما دعوتني سررتُ إذ جرى ذلك ابتداء منك، فمضيتُ وأنا لا أرضى له الجنان... فلما جلست على مائدته سوى لقمة وقال لي: كل، فهذا أحب إليّ من عشرة آلاف درهم. فلما سمعت هذا منه علمت أنه دنيء الهمة، فتطرفت أن آكل طعامه، فقال الجنيد: ألم أقل لك إنك أسأت أدبك معه، فقال: يا أبا القاسم.. التوبةَ، فسأله أني مضي معه ويفرحه.
باب أحكامهم في السفر
قال الله عزّ وجلّ: " هو الذي يسيركم في البر والبحر.. " الآية.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا محمد بن الفرج الأزرق قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو أزبير: أن عليًّا الأزدي أخبره: أن ابن عمر أعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على البعير خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، ثم قال: " سبحان الذي سخر لنا هذا. وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا.
اللهمَّ أنت الصاحب في السفر والخيفة في الأهل.. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في المال والأهل، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: " آيبون.. تائبون.. لربنا حامدون " .
ولما كان رأى كثير من أهل هذه الطائفة أختيارُ السفر أردنا لذكر السَّفر في هذه الرسالة بابا؛ لكونه من أعظم شأنهم، وهذه الطائفة مختلفون: فمنهم من آثر الإقامة على السفر، ولم يسافر غلا لفرض، كحجة الإسلام، والغالب عليهم الإقامة، مثل: الجنيد، وسهل بن عبد الله، وأبي يزيد البسطامي، وأبي حفص، وغيرهم.
ومنهم من آثر السفر، وكانوا على ذلك، إلى أن أخرجوا من الدنيا، مثل: أبي عبد الله المغربي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.
وكثير منهم سافروا، وكانوا على ذلك، إلى أن أخرجوا من الدنيا، مثل: أبي عبد الله المغربي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.
وكثير منهم سافروا في ابتداء أمورهم في حال شبابهم أسفاراً كثيرة ثم قعدوا عن السفر في آخر أحوالهم، مثل: أبي عثمان الحيري، والشبلي، وغيرهم، ولكل منهم أصول بنوا عليها طريقتهم.
واعلم أن السفر على قسمين: سفر بالبدن: وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة.
وسفر بالقلب: وهو الارتقاء من صفة إلى صفة؛ فترى ألفاً يسافر بنفسه وقليل من يسافر بقلبه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: كان بفَرَحك. قرية بظاهر نيسابور شيخ من شيوخ هذه الطائفة، وله على هذا اللسان تصانيف، سأله بعض الناس: هل سافرت أيها الشيخ؟ فقال: سفر الأرض أم سفر السماء؟ سفر الأرض لا. وسفر السماء، بلى.
وسمعته، رحمه الله، يقول: جاءني بعض الفقراء يوماً، وأنا بمرو، فقال لي: قطعت إليك شقة بعيدة، والمقصود لقاؤك.
فقتل له: كان يكفيك خطوة واحدة لو سافرت عن نفسك.
وحكاياتهم في السفر تختلف عن ما ذكرنا من أقسامهم وأحوالهم.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أحنف الهمذاني يقول: كنت في البادية وحدي، فأعييتُ، فرفعت يدي وقلت: يارب، إني ضعيف زمن، وقد جئت إلى ضيافتك، فوقع في قلبي أن يقال لي: من دعاك؟ فقلت يا رب هي مملكة تحتمل الطفيلي.. فإذا أنا بهاتف من ورائي.. فالتفت إليه فإذا أعرابي على راحلة، فقال: يا أعجمي، إلى أين؟.. قلت: إلى مكة، قال: أو دعاك؟ قلت: لا أدري، فقال: أليس قال: " من أستطاع إليه سبيلاً " ؟ فقلت: المملكة واسعة تحتمل الطفيلي، فقال: نِعم الطفيلي أنت، يمكنك أن تخدم الجمل؟ قلت: نعم، فنزل عن راحلته وأعطانيها، وقال: سر عليها.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت الكتاني يقول؛ وقد قال له بعض الفقراء: أوصني: أوصني، فقال: اجتهد أن تكون كل ليلة ضيف مسجد، وأن لا تموت إلا بين منزلين.
ويحكى عن الحصري أنه كان يقول: جلسة خير من ألف حجة.
وإنما أراد جلسة تجمع الهمَّ على نعت الشهود.
ولمري، إنها أتمُّ من ألف حجة، على وصف الغيبة عنه.
سمعت محمد بن أحمد الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت علي بن عبد الله التميمي يقول: حكى عن محمد بن إسماعيل الفرغاني أنه قال: كنا نسافر مقدار عشرين سنة أنا وأبو بكر الزقاق، والكتاني، لا نختلط بأحد، ولا نعاشر أحداً، فإذا قدمنا بلداً؛ فإن كان فيه شيخ سلمنا عليه، وجالسناه إلى الليل.. ثم نرجع إلى مسجد، فيصلى الكتاني من أول الليل إلى آخره ويختم القرآن؛ ويجلس الزقاق مستقبل القبلة؛ وكت استلقي متفكراً، ثم نصبح ونصلي صلاة الفجر على وضوء العتمة، فإذا وقع معنا إنسان ينام كنا نراه أفضلنا.
سمعت محمد بن الحسين، رحمهالله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت عيسى القصار يقول: سئل رويم عن أدب السفر. فقال: أن لايجاوز همه قدمه؛ وحيثما وقف قلبه يكون منزله.
وحكى عنمالك بن دينار أنه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتخذ نعلين من حديد، وعصاً من حديد، ثم سِحْ في الأرض، فاطلب الآثار والعبر، حتى تنخرق النعلان وتنسكر العصا.
وقيل: كان أبو عبد الله المغربي يسافر أبداً ومعه أصحابه، وكان يكون محرماً: فإذا تحلل من إحرامه ثانياً، ولم يتسخ له ثوب، ولا طال له ظفر ولا شعر.
وكان يمشي معه أصحابه بالليل وراءه.فكان إذا حاد أحدهم عن الطريق، يقول: يمينك يا فلان. يسارك يا فلان، وكان لا يمد يده إلى ما وصلت إليه يد الآدميين، وكان طعامه أصل شيء من النبات يؤخذ فيُقلع لأجله.
وفي معناه أنشدوا:
إذا استسجدوا لم يسالوا عن دعاهم ... لأية حرب أم لأيَّ مكان
وحكي عن أبي علي الرباطي قال: صحبت عبد الله المروزي، وكان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد ولا راحلة. فلما صحبته، قال لي: أيما أحبُّ إليك، أن تكون أنت الأمر أم أنا؟ فقلت: لا، بل أنت؛ فقال: وعليك الطاعة؟ فقلت: نعم.
فأخذ مخلاة، ووضع فيها زاداً، وحملها على ظهره، فإذا قلت: أعطني حتى أحملها.
قال: الأمير أنا وعليك الطاعة.
قال: فأخذنا المطر ليلة.. فوقف إلى الصباح على رأسي وعليه كساء يمنع عني المطر، فكنت أقول في نفسي: يا ليتني متُّ ولم أقل له أنت الأمير.
ثم قال لي: إذا صحبت إنساناً فاصحبه كما رأيتني صحبتك.
وقد شاب علي أبي عليِّ الروذباري، فلما أراد الخروج، قال: يقول الشيخ شيئاً، فقال: يا فتى كانوا لا يجتمعون عن موعد، ولا يتفرقون عن مشورة.
وعن المزين الكبير قال: كنت يوماً مع إبراهيم الخواص في بعض اسفاره، فإذا عقرب تسعى على فخذه، فقمت لأقتلها، فمنعني وقال: دعها. كلُّ شيء مفتقر إلينا. ولسنا مفتقرين إلى شيء.
وقال أبو عبد الله النصبيني: سافرت ثلاثين سنة ما خطت قط خرقة على مرقعتي، ولا عدلت إلى موضع علمت أن لي فيه رفيقاً، ولا تركت أحداً يحمل معي شيئاً.
واعلموا أن القوم استوقوا آداب الحضور من المجاهدات، ثم أرادوا أن يضيفوا إليها شيئاً، فاضافوا أحكام السفر إلى ذلك؛ رياضة لنفوسهم، حتى أخرجوها عن المعلومات، وحمروها على مفارقة المعارف، كي يعيشوا مع الله بلا علاقة ولا واسطة، فلم يتركوا شيئاً من أورادهم في أسفارهم.

وقالو: الرُّخص لمن كان سفره ضرورة، ونحن لا شغل لنا ولا ضرورة في أسفارنا علينا.
سمعت أبا صادق بن حبيب قال: سمعت النصراباذي يقول: ضعفت في البادية مرة، فأيست من نفسي، فوقع بصري على القمر، وكان ذلك بالنهار، فرأيت مكتوباً عيه: فسيكفيكهم الله فاستقللت، وفتح عليِّ من ذلك الوقت هذا الحديث.
وقال أبو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: عِلم يسوسه: وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخُلق يصونه.
وقيل: سُمي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال.
وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع فاستقللت، وفتح عليِّ من ذلك الوقت هذا الحديث.
وقال أبو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: عِلم يسوسه: وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخُلق يصونه.
وقيل: سُمي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال.
وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع إليه مرة أخرى يأمر بهجرانه؛ وإنماكان يفعل ذلك؛ لأنهم كانوا يسافرون إلى اليمن ذلك الوقت لأجل الرفق.
وقيل: كان إبراهيم الخواص لا يحمل شيئاً في السفر، وكان لا يفارق الإبرة والركوة أما الأبرة فلخياطة ثوبه إن تمزق ستراً للعورة، وأما الركوة فللطهارة، وكان لا يرى ذلك علاقة ولا معلوماً.
وحكي عن أبي عبد الله الرازي قال: خرجت من طرسوس حافياً، وكان معي رفيق، فدخلنا بعض قرى الشام، فجاءني فقير بحذاء فامتنعت من قبوله؛ فقال لي رفيق: البس هذا، فقد عييتُ، فإنه قد فتح عليك بهذا النعل بسببي. فقلت: مالك؟ فقال: نزعت نعلي موافقة لك، ورعاية لحق الصحبة.
وقيل: كان الخواص في سفر، ومعه ثلاثة نفر، فبلغوا مسجداً في بعض المفارز وباتوا فيه، ولم يكن عليه باب. وكان برد شديد فناموا، فلما أصبحوا رأوه واقفاً على الباب، فقالوا: له في ذلك فقال: خشيت أن تجدوا البرد.
وكان قد وقف طول ليلته.
وقيل: إن الكتاني استأذن أمه في الحج مرة فأذنت له، فخرج، فأصاب ثوبه البول في البادية، فقال: إن هذا لخلل في حالي، فانصرف. فلما دق باب داره أجابته أمه، ففتحت.. فرآها جالسة خلف الباب.. فسألها عن سبب جلوسها فقالت: مذ خرجت أعتقدت أن لا أبرح من هذا الموضع حتى أراك.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول: سمعت إبراهيم القصار يقول: سافرت ثلاثين سنة أصلح قلوب الناس للفقراء.
وقيل: زار رجل داود الطائي فقال: يا أبا سليمان، كانت نفسي تنازعين إلى لقائك منذ زمان، فقال: لا بأس إذا كانت الأبدان هادئة والقلوب ساكنة فالتلاقي أيسر.
سمعت أبا نصر الصوفي، وكان من أصحاب النصرأباذي، يقول: خرجت من البحر بعمان وقد أثر فيّ الجوع، فكنت أمرّ في السوق.. فبلغت حانوت حلاوي.. فرأيت فيه حملاناً مشوية، وحلواء.. فتعلقت برجل وقلت: اشتر لي من هذه الأشياء.
فقال: لماذا؟ ألك عليّ شيء، أو عليّ دين؟ فقلت: لا بد أن تشتري لي من هذا.
فرآني رجل فقال: خله يا فتى إن الذي يجب عليه أن يشتري لك ما تريد أنا لا هو، اقترح علي، وأحكم بما تريد.
ثم اشترى لي ما أردتُ، ومضى.
وحكي عن أبي الحسين المصري قال: انفقت مع الشجري في السفر من طرابلس. فسرنا أياماً لم نأكل شيئاً،فرأيت قرعاً مطروحاً.. فأخذت آكله، فالتفت إليّ الشيخ ولم يقل شيئاً، فرميت به، وعلمت أنه كره ذلك.. ثم فتح علينا بخمسة دنانير.. فدخلنا قرية، فقتل: يشتري الشيخ لنا شيئاً لا محالة.
فمر.. ولم يفعل.. ثم قال: لعلك تقول نمشي جياعاً ولم يشتر لنا شيئاً، هو ذا. فوافى اليهودية قرية على الطريق، وثم رجلٌ صاحب عيال إذا دخلناها يشتغل بنا، فادفعها إليه؛ لينفقها علينا وعلى عياله.
فوصلنا إليه، ودفع الدنانير إلى الرجل فأنفقها، فلما خرجنا قال لي: إلى أين يا أبا الحسين؟ فقلت: أسير معك. فقال: لا، إنك تخونني في قرعة وتصحبني، لاتفعل وأبي أن أصحبه.

سمعت محمد بن عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أحمد الصغير يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: كنت في حال حداثتي استقبلني بعض الفقراء.. فرأى فيّ أثر الضرّ والجوع، فأدخلني داره وقد لي لماً طبخ بالكشك واللحم متغير. فكنت آكل الثريد وأتجنب اللحم لتغيره فلقمني لقمة، فأكلتها بجهد.. ثم لقمني ثانية فبلغتني مشقة.. فرأى ذلك فيّ، وخجل، وخجلت لأجله، فخرجت وانزعجت في الحال للسفر.
فأرسلت إلى والدتي من يخبرها ويحمل إلي مرقعتي. فلم تعارضني الوالدة.. ورضيت بخروجي، فارتحلت من القادسية مع جماعة من الفقراء.. فهنا.. ونفذ ما كان معناه.. وأشرفنا على التلف، فوصلنا إلى حي من أحياء العرب، ولم نجد شيئاً فاضطررنا إلى أن أشترينا منهم كلبا بدنانير، وشووه، وأعطوني قطعة من لحمه.. فلما أردت أكله فكرت في حالي، فوقع لي أنه عقوبة خجل ذلك الفقير. فتبت في نفسي.. فدلونا على الطريق.. فمضيت.. وحججت.. ثم رجعت معتذراً إلى الفقير.
باب الصحبة
قال الله عزَّ وجلَّ: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " .
لما أثبت الله سبحانه للصدِّيق الصحبة بين أنه أظهر عليه الشفقة: فقال تعالى: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " .
فالحر شفيقٌ على من يصحبه.
أخبرنا عليّ بن أحمد الإهوازي، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا يحيى بن محمد الجياني قال: حدثنا عثمان بن عبد الله القرشي، عن نعيم بن سالم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " متى ألقى أحبابي؟ فقال أصحابه: بأبينا أنت وأمنا. أو لسنا أحبابك؟ فقال:أنتم أصحابي، أحبابي: قوم لم يروني، وآمنوا بي، وأنا إليهم بالأشواق أكثر " .
والصحبة على ثلاثة أقسام: صحبة منع من فوقك: وهي في الحقيقة خدمة، وصحبة مع من دونك وهي تقضي على المتبوع بالشفقة والرحمة، وعلى التابع بالوفاق والحرمة.
وصحبة الأكفاء والنظراء: وهي مبنية على الإيثار والفتوة؛ فمن صحب شيخاً فوقه في الرتبة، فأدبه ترك الاعتراض، وحمل ما يبدو منه على وجه جميل، وتلقى أحوال بالإيمان به.
سمعت منصور بن خلف المغربي وسأله بعض أصحابنا: كم سنة صحبت أبا عثمان المغربي؟ فنظر إليه شزراً وقال: إني لم أصحبه، بل خدمته مدة.
وأما إذا صحبك من هو دونك، فالخيانة منك في حق صحبته أن لا تنبهه على ما فيه م نقصان في حالته؛ ولهذا كتب أبو الخير التيناني إلى جعفر بن محمد بن نصير: وزر جهل الفقراء عليكم؛ لأنكم اشتغلتم بنفوسكم عن تأديبهم، فبقوا جهلة.
وأما إذا صحبت من هو في درجتك، فسبيلك النعامي عن عيوبه، وحملُ ما ترى منه على وجه من التأويل جميلٍ، ما أمكنك، فإن لم تجد تأويلاً عدت إلى نفسك بالتهمة وإلى التزام اللائمة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: إن فلاناً لا يقع من قلبي!! فقال أبو سليمان: وليس يقع أيضاً من قلبي، ولكن يا أحمد، لعلنا أتينا مِنْ قِبلنا، لسنا من جملة الصاحلين؛ فلسنا نحبهم.
وقيل: صحب رجلٌ إبراهيم بن أدهم، فلما أراد أن يفارقه قال له الرجل: إن رأيت فيَّ عيباً فنبي عليه. فقال إبراهيم: إني لم أر بك عيباً؛ لأني لاحتك بعين الوداد؛ فاستحسنت منك ما رأيت، فسل غيري عن عيبك.
وفي معناه أنشدوا:
وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنَّ عن السخط تبدي المساويا
وحكى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: كنا لا نصحب من يقول نَعلي.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: قال أبو أحمد القلانسي، وكان من أستاذي الجنيد: صحبت أقواماً بالبصرة فأكرموني.. فقلت مرّة لبعضهم: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم.
وسمعت أبا حاتم يقول: سمعت أبا نصر السرّاج يقول: سمعت الدقي يقول: سمعت الزقاق يقول: منذ أربعين سنة أصحب هؤلاء: فما رأيت رفقاً لأصحابنا إلا من بعضهم لبعض، أو ممن يحبهم، ومن لم يصحبه التقوى والورع في هذا الأمر أكل الحرام النص.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: قال رجل لسهل بن عبد الله: أريد أن أصحبك يا أبا محمد. فقال: إذا مات أحدنا فمن يصحبه الباقي؟ فقال: الله. فقال له: فليصحبه الآن.

وصحب رجل رجلاً مدّة، ثم بدا لأحدهما المفارقة، فاستأذن صاحبه، فقال: بشرط ألا تصحب أحداً إلا إذا كان فوقنا وإن كان أيضاً فوقنا فلا تصحبه؛ لأنك صحبتناأولاً، فقال الرجل: زال من قلبي إرادة المفارقة.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت الدُّقي يقول: سمعت الكناني يقول: صحبني رجل، وكان على قلبي ثقيلاً، فوهبت ل شيئاً، ليزول ما في قلبي، فلم يَزُل!!.. فحملته إلى بيتي، وقلت له: ضع رجلك على خدّي. فأبي، فقلت: لا بدّ. ففعل، واعتقدت أن لا يرفع رجله من خدّي حتى يرفع الله من قلبي ما كنت أجده، فلما زال عن قلبي ما كنت أجده، قلت له: أرفع رجلك الآن.
وكان إبراهيم بن أدهم يعمل في الحصاد وحفظ البساتين وغيره، وينفق على أصحابه.
وقيل: كان مع جماعة من أصحابه، فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم، ويجتمعون بالليل في موضع وهم صيام، فكان يبطىء في الرجوع من العمل، فقالوا ليلة: تعالوا نأكل فطورنا دونه، حتى يعود بعد هذا أسرع، فأفطروا، وناموا، فلما رجع إبراهيم وجدهم نياماً، فقال: مساكين، لعلهم لم يكن لهم طعام؛ فَعَمد إلى شيء من الدقيق كان هناك، فعجنه، وأوقد على النار، وطرح الملةَ، فانتبهوا، وهو ينفخ في النار واضعاً محاسنه على التراب، فقالوا له في ذلك، فقال: قلت لعلكم لم تجدوا فطوراً.. فنمتم.. فأحببت أن تستيقظوا والملة قد أدركت.
فقال بعضهم لبعض: انظروا ما الذي عملنا، وما الذي به يعاملنا.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم إذا صحبه أحد شارطه على ثلاثة اشياء: أن تكون الخدمة والأذان له، وأن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهم من الدنيا كيدهم.
فقال له يوماً رجل من أصحابه: أنا لا أقدر على هذا؟ فقال: أعجبني صدقك.
وقال يوسف بن الحسين: قلت لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من لا تكتمه شيئاً يعلمه الله تعالى منك.
وقال سهل بن عبد الله لرجل: إن كنت ممن يخاف السباع فلا تصحبني.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن العلوي يقول: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو القاسم بن منبه قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
وحكى الجنيد قال: لما دخل أبو حفص بغداد كان معه إنسان أصلع لا يتكلم بشيء.. فسألت أصحاب أبي حفص عن حاله، فقالوا: هذا رجل أنفق عليه مائة ألف درهم، واستدان مائة ألف درهم أنفقها عليه، ولا يُرخص له أبو حَفص أن يتكلم بحرف.
وقال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
وقال رجل لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من إذا مرضت عادك، وإذا أذنبت تاب عليك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمه الله، يقول: الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد يورق ولكنه لا يثمر، كذاك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لايجيء منه شيئ.
وكان الأستاذ أبو عليّ، يقول: أخذت هذا الطريق عن النصراباذي، والنصرأباذي عن الشبلي، والشبلي عن الجنيد، والجنيد عن السريّ، والسريّ عن معروف الكرخي، ومعروف الكرخي عن داود الطائي، وداود الطائي لقي التابعين.
وسمعته يقول: لم أختلف إلى مجلس النصراباذي قط إلا اغتسلت قبله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولم أدخل أنا على الأستاذ أبي عليّ في وقت بدايتي إلا صائماً، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب؛ احتشاماً منه أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت المدرسة كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدّرٍ، حتى لو غرزني إبرة - مثلاً - لعلي كنت لا أحسن بها، ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لي لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة، فكما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتي، وغير مرة رأيت منه هذا عياناً، وكنت أفكر في نفسي كثيراً أنه لو بعث الله في وقتي رسولاً إلى الخلق هل يمكنني أن أزيد من حشمته على قلبي فوق ما كان منه، رحمه الله، فكان لا يتصور لي أن ذلك ممكن، ولا أذكر أني في طول اختلافي إلى مجلسه، ثم كوني معه بعد حصول الوصلة، أن جرى في قلبي أو خطر ببالي عليه قط اعتراض، إلى أن خرج رحمه الله من الدنيا.

أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد ابن أحمد العبدي، قال: أخبرنا أبو عوانة، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا خلف بن تميم أبو الأحوص، عن محمد بن النضر الحارثي، قال: أوحى الله سبحانه، إلى موسى عليه السلام: كن يقطاناً.. مرتاداً لنفسك أخداناً. وكل خدن لا يؤاثيك على. مسرّة فاقصه. ولا تصحبه؛ فإنه يقسى قلبك، وهو لك عدو، وأكثر من ذكرى تستوجب على شكري والمزيد من فضلي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله.. أبن المعلم يقول: سمعت أبا بكر الطمستاني يقول: اصحبوا مع الله، فإن لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله، لتوصكم بركات صحبتهم إلى صحبة الله عزَّ وجلَّ.
باب التوحيد
قال الله عزَّ جلَّ: " وإلهكم إله واحد " .
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رضي الله عنه، قال حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ قال: حدثنا مسيح بن حاتم العكلي قال: حدثنا الحجبي عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن سعد ابن حاتم العتكي، عن ابن أبي صدقة: عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" بينا رجل فيمن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد، فقال لأهله: إذا متَّ فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروا نصفي في البرّ ونصفي في البحر في يوم ريح. ففعلوا.. فقال الله عزَّ وجلَّ للريح: أدَّى ما أخذتِ، فإذا هو بين يديه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أستحياءً منك، فغفر له " ..
التوحيد: هو الحكم بأن المه واحد، والعلم بأن الشيء واحد أيضاً توحيد، ويقال: وحدته: إذا وصفته بالوحدانية، كما يقال: شجعت فلاناً إذا نسبته إلى الشجاعة، يقال في اللغة: وَحَد يحد فهو واحد وَوَحدْ، ووحيد؛ كما يقال: فرد فهو فارد، وفَرْد، وفريد.
وأصل أحد وحد فقلبت الواو همزة، والواو المفتوحة قد تقلب همزة، كما تقلب المكسورة والمضمومة، ومنه امرأة أسماء، بمعنى وسماء، من الوسامة، ومعنى كونه، سبحانه، واحداً على لسان العلم، قيل: هو الذي لا يصحّ في وصفه الوضع والرفع، بخلاف قولك: إنسان واحد؛ لأنك تقول إنسان بلا يد ولا رجل، فيصح رفع شيء منه،واسحق، سبحانه، أحدى الذات، بخلاف الأسم الجملة الحاملة.
وقال بعض أهل التحقيق في معنى أنه واحد: نفى التقسيم لذاته، ونفى التشبيه عن حقه وصفاته، ونفى الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته.
والتوحيد ثلاثة: توحيد الحق للحق، وهو علمه بأنه واحد وخيبره عنه بأنه واحد.
والثاني: توحيد الحق، سبحانه، للخلق، وهو حكمه، سبحانه، بأن العبد موحد، وخلقه توحيد العبد.
والثالث: توحيد الخلق للحق، سبحانه، وهو علم العبد بأن الله، عز وجل، واحد، وحكمه وإخباره عنه بأنه واحد.
فهذه جمة في معنى التوحيد علي شرط الإيجاز والتحديد.
واختلفت عبارات الشيوخ عن معنى التوحيد: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: وقد سئل عن التوحيد. فقال: أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصنعه للأشياء بلاعلاج، وعلةُ كلِّ شيء صَنَعه ولا علة لصُنعه، ومهما تصور في نفسك شيء فالله بخلافه.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زكريا يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت عبد الله بن صالح يقول: قال الجريري: لبس لعلم التوحيد إلا لسان التوحيد.
وسئل الجنيد عن التوحيد فقال: إفراد الموحَّد بتحقيق وحدا نيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشياء بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
وقال الجنيد: إذا تناهت عقول العقلاء في التوحيد تناهت إلى الحيرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين بن مقسم يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول ذلك، وسئل الجنيد عن التوحيد،فقال: معنى تضمحل فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم ويكون الله تعالى كما لم يزل وقال الحصري: أصولنا في التوحيد خمسة أشياء.
رفع الحدث وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما عُلم على وجُهل.

سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: كنت في صحن الجامع ببغداد يعني جامع المنصور والحصري يتكلم في التوحيد، فرأيت ملكين يعرجان إلى السماء، فقال أحدهما لصاحبه: الذي يقول هذا الرجل علم التوحيد والتوحيد غيرُه، يعني كنت بين اليقظة والنوم.
وقال فارس التوحيد هو إسقاط الوسائط عند غلبة الحال والرجوع إليها عند الأحكام، وأن الحسنات لا تغير الأقسام من الشقاوة والسعادة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر بن شاذان يقول: سمعت الشبلي يقول: التوحيد: صفة الموحَّد حقيقة وحلية الموَّحد رسماً.
وسئل الجنيد عن توحيد الخاص فقال: أن يكون العبد شبحاً بين يدي الله، سبحانه، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته، في حقيقة قربه بذهاب حسنه وحركته. لقيام الحق، سبحانه له فيما أراد منه، وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون.
وسئل البوشنجي عن التوحيد فقال: غير مشبه الذوات ولا منفي الصفات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسين العنبري يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول، وقد سئل عن ذات الله، عزَّ وجلَّ. فقال: ذات الله تعالى موصوفة بالعلم، غيرُ مدركة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حدِّ ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقي ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لا تدركه،ينظر إليه المؤمنون بالآبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
وقال الجنيد: أشرف كلمة في التوحيد: ما قاله أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.
سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
قال الأستاذ أبو القاسم: ليس يريد الصّديق، رضي الله عنه، أنه لا يعرف؛ لأن عند المحققين: العجز عجز عن الموجود، دون المعدوم، كالمقعد عاجزٌ عن قعوده؛ إذ ليس بكسب له ولا فعل، والقعود موجود فيه، كذلك العارف عاجز عن معرفته، والمعرفة موجودة فيه؛ لأنها ضرورية.
وعند هذه الطائفة المعرفة به سبحانه في الانتهاء ضرورية.
فالمعرفة الكسبية في الابتداء، وإن كانت معرفة على التحقيق، فلم يعدّها الصديق رضي الله عنه شيئاً بالإضافة إلى المعرفة الضرورية، كالسراج عند طلوع الشمس وانبساط شعاعها عليه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن سعيد البصري بالكوفة يقول: سمعت ابن الأعرابي يقول: قال الجنيد: التوحيد الذي انفرد به الصوفي هو: إفراد القدم عن الحدث والخروج عن الأوطان، وقطع المحاب وترك ما علم وجهل، وأن يكون الحق، سبحانه، مكان الجميع.
وقال يوسف بن الحسين: من وقع في بحار التوحيد لايزداد على ممر الأوقات إلا عطشاً.
وقال الجنيد: علم التوحيد مباين لوجوده، ووجوده مفارق لعلمه.
وقال الجنيد أيضاً: علم التوحيد طوى بساطه منذ عشرين سنة، والناس يتكلمون في حواشيه!! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد الأصبهاني يقول: وقف رجل علي الحسين بن منصور، فقال: من الحق الذي يشيرون إليه؟ فقال: معل الأنام ولا يعتل.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: من اطلع على ذرّة من علم التوحيد ضعف عن حمل بقة لثقل ما حمله.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي؛ فقيل له أخبرنا عن توحيد مجرد وبلسان حق مفرد.
فقال: ويحك!! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نصدق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أ،ه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتوه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
وقال يوسف بن الحسين: توحيد الخاصة أن يكون بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله تعالى يجري علي تصاريف تدبيره وأحكام قدرته في بحار توحيده بالفناء عن نفسه وذهاب حسه، بقيام الحق سبحانه له في مراه منه، فيكون كما هو قيل أن يكون في جريان حكمه سبحانه عليه.
وقيل: التوحيد للحق سبحانه، والخلق طفيلي.

وقيل: التوحيد: إسقاط الياءات؛ لا تقول لي وبي ومني وإليّ.
وقيل: لأبي بكر الطمستاني: ما التوحيد؟ فقال: توحيد، وموحد، وموحَّد، هذه ثلاثة.
قال رويم: التوحيد هو آثار البشرية وتجرد الألوهية.
سمت أبا علي الدقاق يقول في آخر عمه، وكان قد اشتدت به العلة، فقال: من أمارات التأييد حفظ التوحيد فيأوقات الحكم، ثم قال؛ كالمفسر لقوله مشيراً إلى ما كان من حاله، هو: أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعةً وأنت شاكر حامد.
وقال الشبلي: ما شم روائح التوحيد من تصور عنده التوحيد.
وقال أبو سعيد الخراز: أول مقام لمن وجد علم التوحيد، وتحقق بذلك، فناء ذكر الأشياء عن قلبه، وانفراده بالله عزَّ وجلَّ.
وقال الشبلي لرجل: أتدري لم لا يصح توحيدك؟ فقال: لا!! فقال: لأنك تطلبه بك.
وقال ابن عطاء: علامة حقيقة التوحيد نسيان التوحيد، وهو أن يكون القائم به واحداً.
ويقال من الناس من يكون مكاشفاً بالأفعال، يرى الحادثات بالله تعالى، ومنهم من هو مكاشف بالحقيقة، فيضمحل إحساسه بما سواه، فهو يشاهد الجمع سراً بسرّ، وظاهره بوصف التفرقة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن محمد القزويني يقول: سمعت القنفذ يقول: سئل الجنيد عن التوحيد، فقال سمعت قائلاً يقول:
وغنى لي من قلبي
وغنيت كما غنّى
وكنا حينما كانوا
وكانوا حينما كنا
فقال السائل: أهَلكَ القرآن والأخبار؟!! فقال: لا، ولكن الموحِّد يأخذ أعلى التوحيد من أدنى الخطاب وأيسره.
باب الخروج من الدنيا
باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا قال الله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين " .
يعنى: طيبة نفوسهم، ببذلهم مُهجهم لا يثقل عليهم رجوعهم إلى مولاهم.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن عقبة الشيباني بالكوفة قال: حدثنا الخضر بن أيان الهاشمي قال: حدثنا أبو هدبة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت، وإن مفاصله ليسِّلم بعضها علي بعض؛ تقول: عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا الخضر بن أبان الهاشمي قال: حدثنا سوار قال: حدثنا جعفر. عن ثابت، عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله تعالى وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئان لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف " .
واعلم أن أحوالهم في حال النزع مختلفة؛ فبعضهم الغالب عليه الهيبة، وبعضهم الغالب عليه الرجاء، ومنهم من كشف له في تلك الحالة ما أوجب له السكون، وجميل الثقة.
حكى أبو محمد الجريري قال: كنت عند الجنيد في حال نزعه، وكان يوم الجمعة، ويوم نيروز، وهو يقرأ القرآن، فختمه، فقلت: في هذه الحالة يا أبا القاسم؟ فقال: ومن أولى بذلك منى وهو ذا تطوى صحيفتي.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول بلغني عن أبي محمد الهروي أنه قال: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها فكان يقول طول ليلته هذين البيتين:
كلُّ بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرُج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
وحكى عن عبد الله بن منازل أنه قال: إن حمدون القصار أوصى إلى أصحابه أن لا يتركوه في حال الموت بين النسوان.
وقيل لبشر الحافي، وقد احتضر كأنك يا أبا نصر تحبّ الحياة؟ فقال: القدوم علي الله، عزَّ وجلَّ، شديد.
وقيل: كان سفيان الثوري إذا قال له بعض أصحابه إذا سافر: أتأمر بشغل؟؟..
يقول: إن وجدتَ الموتَ فاشتره لي! فلما قربت وفاته كان يقول: كنا نتمناه.. فإذا هو شديد!! وقيل: لما حضرت الحسن بن علي بن أبي طالب الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أقدم على سيد لم أره.
ولما حضرت بلالاً الوفاة قالت امرأته: واحزناه!! فقال: بل واطرباه.. غداً نلقي الأحبة محمداً وحزبه.
وقيل: فتح عبد الله بن المبارك عينيه عند الوفاة وضحك. وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.

وقيل: كان مكحول الشامي الغالب عليه الحزن، فدخلوا عليه في مرض موته وهو يضحك، فقيل له في ذلك، فقال: ولام لا أضحك وقد دنا فراق ما كنت أحذره، وسرعة القدوم على ما كنت أرجوه وآمله.
وقال رويم: حضرتُ وفاة أبي سعيد الخراز، وهو يقول في آخر نفسه:
حنينُ قلوب العارفين إلى الذكر ... وتذكارهم وقت المناجاة للسرِّ
أديرت كؤوس للمنايا عليهم ... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر
هُمُوهم جوالة بمعسكرٍ ... به أهل ودّ الله كالأنجم الزهر
فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرَّجوا عن مسر بؤس ولا ضر
وقيل للجنيد: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت. فقال: لم يكن بعجيب أن تظير روحه اشتياقاً.
وقال بعضهم وقد قربت وفاته: يا غلام اشدد كتافي وعفر خدي، ثم قال: دنا الرحيل ولا براءة لي من ذنب، ولا عذر أعتذر به، ولا قوة أنتصر بها.. أنت لي، أنت لي..
ثم صاح صيحة ومات، فسمعوا صوتاً: " استكان العبدُ لمولاه، فقبله " .
وقيل لذي النون المصري عند موته: ما تشتهي؟ قال أن أعرفه قبل موتي بلحظة.
وقيل لبعضهم وهو في النزع: قل الله، فقال: إلى متى تقولون: قل الله، وأنا محترق بالله؟!! وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري، فقدم فقير وقال السلام عليكم، فردوا عليه السلام، فقال: هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه؟ فأشاروا عليه بمكان، وكان ثمَّ عين ماء.. فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله تعالى، ومضى إلى المكان الذي أشاروا إليه.. ومد رجليه، ومات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: كان أبو العباس الدينوري يتكلم يوماً في مجلسه.. فصاحت امرأة تواجداً، فقال لها: موتي.. فقامت المرأة فلما بلغت باب الدار التفتت إليه وقالت: قدُمتُّ. ووقعت ميتة.
وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلة؟! فقال سلوا العلة عني كيف تجدني، فقيل له. قل لا إله إلا الله، فحول وجهه إلى الجدار وقال: أفنيت كُلي بكلك هذا جزاء من يحبك.
وقيل لأبي محمد الدبيلي، وقد حضرته الوفاة، قل: لا إله إلا الله.
فقال هذا شيء قد عرفناه، وبه نفنى، ثم أنشأ يقول:
تسربل ثوبُ النية لما هويته ... وَصدَّ ولم يرض بأن أكُ عبده
وقيل للشبلي عند وفاته: قل لا إله إلى الله. فقال:
قال سلطان حبه ... أنا لا أقبل الرِّشا
فسلوه بحقه ... لِم بقتلي تحرَّشا
سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت بعض الفقراء يقول: لما مات يحيى الاصطخري جلسنا حوله، فقال له رجل منا: قل أشهد أن لا إله إله الله، فجلس مستوياً.. ثم أخذ بيد واحد منا، وقال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله.. ثم أخذ بيد آخر.. حتى عرض الشهادة على جميع الحاضرين، ثم مات.
ويحكى عن فاطمة أخت أبي علي الروذباري، أنها قالت: لما قرب أجل أخي أبي الروذباري، وكان رأسه في حجري، فتح عينيه، وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت.. وهذه الجنان قد زُينت، وهذا قائل يقول لي: يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها.. ثم أنشأ يقول:
وحقّك لا نظرتُ إلى سواكاً ... بعين مودةّ حتى أراكا
أراك معذِّبي بفتورِ لحظر ... وبالخد المورد من جناكا
ثم قال: يا فاطمة، الأول ظاهر،والثاني فيه إشكال.
سمعت بعض الفقراء يقول: لما قربت وفاة أحمد بن نصر، رحمه الله تعالى، قال له واحد: قل أشهد أن لا إله إلا الله فنظر إليه وقال له: لا تترك الحرمة بالفراسية بي حرمتي مكن.
وقال بعضهم: رأيت فقيراً يجود بنفسه غريباً.. والذباب على وجهه، فجلست أذبّ الذباب عن وجهه.. ففتح عينيه، وقال: من هذا؟ أنا منذ كذا سنة في طلب وقت يصفو لي فلم يتفق إلا الآن.. جئت أنتّ توقع نفسك فيه، مرّ؛ عافاك الله.
وقال أبو عمران الاصطخري: رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء.

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: كان سبب وفاة أبي الحسين النوري أنه سمع هذا البيت.
لا زلت أنزل في ودادك منزلاً ... تتحير الألبابُ عند نزوله
فتواجد النودي وهام في الصحراء ... فوقع في أجمه قصب قد قطعت وبقي
أصولها مثلُ السيوف، فكان يمشي عليها ويعيد عليها ويعيد هذا البيت إلى الغداة والدم يسيل من رجليه. ثم وقع مثل السكران، فتورمت قدماه. ومات.
وحكي أنه قيل له عند النزع: قل لا إله إلا الله، فقال أليس إليه أعود.
وقيل: مرض إبراهيم الخواص في المسجد الجامع: بالري وكنت به علة بالإسهال، فكان إذا قام مجلساً يدخل الماء.. ويتوضأ، فدخل الماء مرة فخرجت روحه.
سمعت منصوراً المغربي يقول دخل عليه يوسف بن الحسين عائداً له بعد ما أتى عليه أيامٌ لم يعده، ولم يتعهده، فلما رآه، قال للخواص: أتشتهي شيئاً؟ قال: نعم، قطعت كبد مشوي.
قال الأستاذ أبو القاسم: لعل الإشارة فيه أنه أراد: أشتهى قلباً يرقى لفقير، وكبداً تشتوي وتحترق لغريب؛ لأنه كالمستجفى ليوسف بن الحسين؛ حيث لم يتعهده.
وقيل: كان سبب موت بن عطاء أنه أدخل مرة على الوزير، فكلمه الوزير بكلام غليظ.
فقال له ابن عطاء: أهدأ يا رجل!! فأمر.. فضُرب بخفه على رأسه فمات منه.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبدالله بن علي التميمي يقول: سمت أبا بكر الدقي يقول: كنا عند أبي بكر الزقاق بالغداة، فقال: إلهي: كم تبقيني ها هنا فما بلغ الغداة الأولى حتى مات.
وحكي عن أبي علي الروذباري أنه قال: رأيت في البادية حّدَثاً، فلما رآني. قال: أما يكفيه أ، شغفني بحبه حتى علني، ثم رأيته يجود بروحه، فقلت له: قل لا إله إلا الله، فأنشأ يقول:
أيا من ليس لي عنه ... وإن عذبني بد
ويا من نال من قلبي ... منالاً ما له حد
وقيل للجنيد: قل لا إله إلا الله، فقال: ما نسيتُه فأذكره!! وقال:
حاضر في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره
فهو مولاي ومعتمدي ... ونصيبي منه أوفر
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سألت جعفر بن نصير بكران الدينوري، وكان يخدم الشبلي، ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي عليَّ درهم مظلمة، وقد تصدَّقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي شغل أعظم منه، ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك علي لسانه، فقبض على يدي وأدخلها في لحيته، ثم مات، فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته حتى في آخر عمره أدب من آداب الشريعة.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن بن عبد الله الطرسوسي يقول: سمعت علوشاً الدينوري يقول: سمعت المزين الكبير يقول: كنت بمكة - حرصها الله تعالى - فوقع بي انزعاج، فخرجت أريد المدينة. فلما وصلت إلى بئر ميمونة إذا أنا بشاب مطروح؛ فعدلت إليه وهو ينزع؛ فقلت له: قل لا إله إلا الله.. ففتح عينيه؛ مانشأ يقول:
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي ... وبداء الهوى تموت الكرام
فشهق شهقة، ثم مات، فغسلته، وكفنته، وصليت عليه، فلما فرغت من دفنه سكن ما كان بي من إرادة السفر، فرجعت إلى مكة.
وقيل لبعضهم: أتحبُّ الموت؟ فقال: القدوم على من يرجى خيره خير من البقاء مع من ى يؤمن شره.
وحكي عن الجنيد أنه قال: كنت عند أستاذي ابن الكرنبي، وهو يجود بنفسه، فنظرت إلى السماء فقال: بعد، ثم نظرت إلى الأرض فقال: بعد، يعني: أنه أقرب إليك من أن تنظر إلى السماء أو إلى الأرض، بل هو وراء المكان.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت مصر فرأيت الناس مجتمعين، فقالوا: كنا في جنازة فتى سمع قائلا يقول:
كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراكا
فشهق شهقة ومات.
وقيل: دخل جماعة علىممشاد الدينوري في مرض موته، فقالوا: ما فعل الله بك وما صنع؟ فقال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي، وقالوا له عند النزع: كيف تجد قلبك؟ فقال: منذ ثلاثين سنة فقدت قلبي.

سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن التميمي يقول: قال الوجيهي: كان سبب موت ابن بنان أنه ورد على قلبه شيء، فهام على وجهه، فلحقوه في وسط متاهة بني إسرائيل في الرمل، ففتح عينيه وقال: ارتع، فهذا مرتع الأحباب. وخرجت روحه.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: كنت بمكة، فجاءني فقير معه دينار، فقال: إذا كان غداً فأنا أموت، فأصلح لي بنصف هذا قبراً، والنصف الثاني لجهازي. فقلت في نفسي: دوخل الشاب؛ فإنه قد أصابته فاقة الحجاز، فلما كان الغد جاء؛ ودخل الطواف، ثم مضى وامتد على الأرض، فقلت: هو ذا يتماوت، فذهبت إليه، فحركته فإذا هو ميت. فدفنته كما أمر.
وقيل: لما تغيرت الحال على أبي عثمان الحيري مزق ابنه أبو بكر قميصاً ففتح أبو عثمان عينيه وقال: يا بني إن خلاف السنة في الظاهر من رياء في الباطن.
وقيل: دخل ابن عطاء على الجنيد، وهو يجود بنفسه؛ فسلم. فأبطأ في الجواب، ثم رد، وقال: اعذرني، فلقد كنت في وردي ثم مات.
وحكى أبو علي الروذباري قال: قدم علينا فقير، فمات، فدفنته وكشفت عن وجهه لأضعه في التراب ليرحم الله عزّ وجلّ غربته. ففتح عينيه وقال: يا أبا علي، أتدللني بين يدي من دللني؟! فقلت: يا سيدي أحياة بعد موت؟ فقال لي: بلى أنا حيّ، وكل محبّ لله، عزّ وجلّ، حتىّ لأنصرنك غداً بجاهي يا روذباري.
ويحكى عن ابن سهل الأصفهاني أنه قال: أترون أني أموت كما يموت الناس، مرض وعيادة، وإنما أدعى، فيقال: يا عليٌّ، فأجيب.
فكان يمشي يوماً، فقال: " لبيك " . ومات.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: سمعت أبا الحسن المزين قال: لما مرض أبو يعقوب النهرجوري مرض وفاته، قلت له، وهو في النزع: قل لا إله إلا الله، فتبسم إلي وقال: إيايّ تمني؟ وعزة من لا يذوق الموت ما بيني وبينه إلا حجّاب العزة. وانطفأ من ساعته، فكان المزين يأخذ بلحيته ويقول: حجام مثلي يلقن أولياء الله الشهادة، واخجلتاه منه!! وكان يبكي إذا ذكر هذه الحكاية.
وقال أبو حسين المالكي: كنت أصحب خيرا النساج سنين كثيرة، فقال لي قبل موته بثمانية أيام: أنا أموت يوم الخميس وقت المغرب، وأدفن يوم الجمعة قبل الصلاة، وستنسى هذا، فلا تنس.
قال أبو الحسين: فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من أخبرني بموته، فخرجت لأحضر جنازته، فوجدت الناس راجعين يقولون: يدفن بعد الصلاة.
فلم أنصرف، وحضرت، فوجدت الجنازة قد أخرجت قبل الصلاة كما قال، فسألت من حضر وفاته، فقال: إنه غشي عليه، ثم أفاق، ثم التفت إلى ناحية البيت وقال: قف عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور، الذي أمرت به لا يفوتك، والذي أمرت به يفوتني؛ فدعا بماء فجدد وضوءه وصلى، ثم تمدد، وغمض عينيه، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: كيف حالك؟ فقال: لا تسل، ولكني تخلصت من دنيا الوضرة.
وذكر أبو الحسين الحمصي مصنف كتاب بهجة الأسرار أنه لما مات سهل بن عبد الله انكبّ الناس على جنازته، وكان في البلد يهودي نيف على السبعين، فسمع الضجة، فخرج لينظر ما كان، فلما نظر إلى الجنازة صاح وقال: أترون ما أرى؟ فقالوا: لا، ماذا ترى؟ فقال أرى أقواماً ينزلون من السماء يتسحون بالجنازة، ثم إنه تشهد، وأسلم، وحسن إسلامه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن قيس - بمصر - يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كنت بمكة فجزت يوماً بباببني شيبة فرأيت شاباً حسن الوجه ميتاً، فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي وقال لي: يا أبا سعيد، أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا، وإنما ينقلون من دار إلى دار.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: بلغني أنه قيل لذي النون المصري عند النزع: أوصنا. فقال: لا تشغلوني فإني متعجب من محاسن لطفه.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: سئل أبو حفص في حال وفاته: ما الذي تعظنا به؟ فقال: لست أقوى على القول، ثم رأى من نفسه قوة، فقلت له: قل حتى أحكي عنك.
فقال: موعظتي: الانكسار بكلِّ القلب على التقصير.
باب المعرفة بالله
قال الله تعالى: " وما قدروا الله حق قدره " .جاء في التفسير: وما عرفوا الله حق معرفته.

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العدل، قال: حدثنا محمد بن القاسم العتكي، قال: حدثني محمد بن أشرس، قال: حدثنا سليمان بن عيسى الشجري عن عبا بن كثير، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن دعامة البيت أساسهُ، ودعامة الدين المعرفة بالله تعالى، واليقينُ والعقل القامع فقلت: بأبي أنت وأمي ما العقل القامع؟ قال الكف عن معاصي الله، والحرص على طاعة الله " .
قال الأستاذ: المعرفة على لسان العلماء هو: العلم؛ فكل علم معرفة؛ وكل معرفة علم؛ وكل عالم بالله عارف؛ وكل عارف عالم وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائ وصفاته؛ ثم صدق الله تعالى في معاملاته: ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وأفاقه؛ ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكاف فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله في جميع أ؛واله؛ وانقطع عنه هواجس نفسه؛ ولم يضع بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره؛ فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن آفات نفسه بريا؛ ومن المساكنات والملاحظات نقياً؛ ودام في السر مع الله تعالى مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة.
وبالجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.
وقد تكلم المشايخ في المعرفة، فكل نطق بما وقع له؛ وأشار إلى ما وجده في وقته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة من الله، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته.
وسمعته يقول: المعرفة توجب السكينة في القلب كما أ، العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته.
سمعت الشيخ أبا عب الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زيد يقول: سمعت الشبلي يقول: ليس لعارف علاقة ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن محمد بن عبد الوهاب يقول: سمعت الشبلي يقول،وقد سئل عن المعرفة، فقال: أولها الله تعالى، وآخرها ما لا نهاية له.
وسمعته يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا العباس الدينوري يقول: قال أبو حفص: مذ عرفت الله تعالى ما دخل قلبي حق ولا باطل.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا الذي اطلقه أبو حفص فيه طرف من الإشكال، وأجل ما يحتمله: أن عند القوم المعرفة توجب غيبة العبد عن نفس، لإستيلاء ذكر الحق؛ سبحانه، عليه، فلا يشهد غير الله، عزّ وجلَّ، ولا يرجع إلى غيره، فكما أن العقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر، أو يستقبله من حال؛ فالعارف رجوعه إلى ربه. فإذا لم يكن مشتغلاً إلا بربه لم يكن راجعاً إلى قلبه. وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له. وفرق بين من عاش بقلبه وبين من عاش بربه عز وجل.
وسئل أبو يزيد عن المعرفة، فقال: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " .
قال الأستاذ: هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص.
وقال أبو يزيد: للخلق أحوال، ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه. فنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.
وقال الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار إليه.
قال الأستاذ: أراد الواسطي بهذا: أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه؛ لأنهما من صفاته، والعارف محو في معرفة، فكيف يصح له ذلك، وهو لاستهلاكه في وجوده، أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ الوجود مختطف عن إحساسه بكل وصف هو له.
لهذا قال الواسطي أيضاً: من عرف الله تعالى انقطع، بل خرس وانقمع. قال صلى الله عليه سلم: " لا أحصي ثناء عليك " .
هذه صفات الذين بعد مرماهم، فأما من نزلوا عن هذا الحد فقد تكلموا في المعرفة وأكثروا.
أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول: من كان بالله أعرف كان له أخوف.
وقال بعضهم: من عرف الله تعالى تبرم بالبقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها.
وقيل: من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوفُ المخلوقين، وأنس بالله تعالى.

وقيل: من عرف الله ذهب عنه رغبة الأشياء، وكان بلا فصل ولا وصل.
وقيل: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم.
وقال رويم: المعرفة للعارف مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه.
وقال ذو النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة فسبقت روحُ نبينا، صلى الله عليه وسلم، أرواحَ الأنبياء عليهم السلام إلى روضة الوصال.
وقال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى يحتملك ويحلم عنك، تخلقاً بأخلاق الله.
وشئل بن يزدانيار: متى يشهد العارف الحقَّ سبحانه؟ فقال: إذا بدا الشاهد وفنى الشواهد وذهب الحواس واضمحل الإخلاص.
وقال الحسين بن منصور: إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله إليه بخواطره، وحرس سرَّه أن يسنح فيه غير خاطر الحق.
وقال علامة العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: أعرف الناس بالله تعالى أشدهم تحيراً فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأنطاكي يقول: قال رجل للجنيد: مِن أهل المعرفة أقوام يقولون إن ترك الحركات من باب البر والتقوى!! فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة.
وقيل لأبي يزيد: بماذا وجدت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع وبدن عار.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: قلت لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شيء غير الله عز وجل؟ فقال: وهل يرى غيره فيتأسف عليه؟! قلت: فبأي عين ينظر إلى الأشياء؟ فقال: بعين الفناء والزوال.
وقال أبو يزيد: العارف طيار، والزاهد سيار.
وقيل: العارف تبكي عينه ويضحك قلبه.
وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض يطؤه البرُّ والفاجر، وكالسحاب بطل كل شيء، وكالمطر، يسقى ما يحب، وما لا يحب.
وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، عز وجل.
وقال أبو يزيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ماله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت يوسف بن علي يقول: لا يكون العارف عارفاً حقاً حتى لو أعطي مثل ملك سليمان عليه السلام لم يشغله عن الله طرفة عين.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياء، والأنس.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: قيل لذي النون المصري: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي.
وقيل: العالم يقتدي به، والعارف يهتدي به.
وقال الشبلي: العارف لا يكون لغيره لاحظاً، ولا بكلام غيره لا فظاً، ولا يرى لنفسه غير الله تعالى حافظاً.
وقيل: العارف أنس بذكر الله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذل له تعالى فأعزه في خلقه.
وقال أبو الطيب السامري: المعرفة طلوع الحق على الأسرار بمواصلة الأنوار.
وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
وقال أبو سليمان الداراني: إن الله تعالى يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي.
وقال الجنيد: العارف من نطق الحقُّ عن سره وهو ساكت.
وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله تعالى.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الرُّوذباري يقول: سمعت رويماً يقول: رياء العارفين أفضل من أخلاص المريدين.
وقال أبو بكر الوراق: سكوت العارف أنفع، وكلامه أشهى وأطيب.
وقالذو النون: الزهاد ملوك الآخرة وهم فقراء العارفين.
وسئل الجنيد عن العارف، فقال: لون الماء لون إناثه يعني أنه يحكم وقته.
وسئل أبو يزيد عن العارف، فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله، ولا يوافق غير ألمه، ولا يطالع غير الله تعالى.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سئل بعض المشايخ: بمَ عرفت الله تعالى؟ فقال: بلمعة لمعت بلسان مأخوذ عن التمييز المعهود، ولفظة جرت على لسان هالك مفقود يشير إلى وجد ظاهر ويخبر عن سر سائر هو بما أظهرهُ، وغيره بما اشكله ثم أنشد:
نطقتُ بلا نطق هو النطق إنه ... لك النطق لفظاً أو يبين عن النطق
تراءيت كي أخفى وقد كنتَ خافياً ... وألمعتَ لي برقاً فانضفت بالبرق
وسمعته يقول: سمعت علي بن بندار الصيرفي يقول: سمعت الجريري يقول: سئل أبو تراب عن صفة العارف، قال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كلُّ شيء.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: العارف تضيء له أنوار العلم فيبصر به عجائب الغيب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: العارف مستهلك في بحار التحقيق؛ كما قال قائلهم: المعرفة أمواج تغطّ. ترفع وتحط.
وسئل يحيى بن معاذ عن العارف، فقال: رجل كائن بائن، ومرة قال: كان فبان.
وقال ذو النون: علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطناً من العلم ينقض عليه ظاهراً من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل، عليه على هتك أستار محارم الله.
وقيل: ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة، فكيف عند أبناء الدنيا؟؟ وقال أبو سعيد الخراز: المعرفة تأتي من عين الجود وبذل المجهود.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً يقول: سئل الجنيد عن قول ذي النون المصري في صفة العارف.
كان ها هنا فذهب فقال الجنيد: العارف: لا يحصره حال عن حال، ولا يحجبه منزل ن التنقل في المنازل، فهو مع أهل كل مكان يمثل الذي هو فيه يجد مثل الذي يجدون، وينطق فيها بمعالمها لينتفعوا بها.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محم بن الفضل يقول: المعرفة حياة القلب مع الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الكتاني يقول: سئل أبو سعيد الخراز: هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ فقال: نعم، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله تعالى، فإذا نزلوا إلى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك.
؟باب المحبة قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " .
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: حدثنا السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاء، ومن لم يحب لقاء الله لم يحب الله لقاءه " أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد الصفار البصري قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا الحسين بن موسى قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا الحسن بن يحيى عن صدقة الدمشقي، عن هشام الكتاني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربه سبحانه وتعالى قال: " من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدّ له منه، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً " .
أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عبيد ابن شريك قال: أخبرنا يحيى، قال: حدثنا مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحبّ الله، عز وجل، العبد قال لجبريل: يا جبريل، إني أحب فلاناً فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله تعالى قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك " .
والمحبة: حالة شريفة شهد الحقُّ، سبحانه، بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد، فالحق: سبحانه، يوصف بأنه يحب العبدّ، والعبدُ يوصف بأنه يحب الحق سبحانه.

والمحبة على لسان العلماء: هي الإرادة، وليس مراد القوم بالمحبة الإرادة؛ فإن الإرادة لا تتعلق بالقديم، اللهمَّ إلا أن تُحمل على إرادة التقرب إليه والتعظيم له.
ونحن نذكر من تحقيق هذه المسألة طرَفاً إن شاء الله تعالى؛ فمحبة الحقُّ سبحانه، للعبد إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته له إرادة الإنعام، فالرحمة أخصّ من الإرادة، والمحبة أخصّ من الرحمة، فإرادة الله تعالى لأن يوصل إلى العبد الثواب والإنعام تسمى رحمة وإرادته لأن يخصه بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة.
وإرادته، سبحانه، صفة واحدة، فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى غضباً، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة.
وقوم قالوا: محبة الله، سبحانه، للعبد، مدحه ل، وثناؤه عليه بالجميل، فيعود معنى محبته له، على هذا القول، إلى كلامه، وكلامه قديم.
وقال قوم: محبته للعبد: من صفات فعله، فهو إحسان مخصوص يلقي الله العبد به، وحالة مخصوصة برقية إليها، كما قال بعضهم: إن رحمته بالعبد نعمة معه، وقوم من السلف قالوا: محبته من الصفات الخبرية، فأطلقوا اللفظ وتوقفوا عن التفسير.
فأما ما عدا هذه الجملة مما هو المعقول من صفت محبة الخلق؛ كالميل إلى الشيء، والاستئناس بالشيء، وكحالة يجدها المحب مع محبوبه من المخلوقين، فالقديم، سبحانه. يتعالى عن ذلك.
وأما محبة العبد لله: فحالة يجدها من قلبه. تلطف عن العبارة.
وقد تحمله تلك الحالة علي التعظيم له، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه. والاهتياج إليه، وعدم القرار من ونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه. وليست محبة العبد ل. سبحانه. متضمنة سَبيلاً، ولا أختطاطاً. كيف. وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق والدرك والإحاطة. والمحب بوصف الاستهلاك في المحبوب، أولى منه بأن يوصف بالاختطاط. ولا توصف المحبة يوصف ولا تحد بحد أضح ولا أقرب إلى الفهم والاستقصاء في المقال عند حصول الإشكال؛ فإذا زاد الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام.
وعبارات الناس عن المحبة كثيرة. وتكلموا في أصلها في اللغة؛ فبعضهم قال: الحب اسم لصفاء الموجة؛ لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.
وقيل: الحباب: ما يعلوا الماء عند المطر الشديد؛ فعلى هذا المحبة: غليان القلب وثورانه عند العطش والاهتياج إلى لقاء المحبوب.
وقيل: إنه مشتق من حباب الماء بفتح الحاء وهو: معظمه. فسمي بذلك: لأن المحبة غاية معظم ما في القلب من المهمات.
وقيل: اشتقاق من اللزوم والثبات، يقال: أحب البعير. وهو: أن يبرك فلا يقوم فكأن المحب لا يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه.
وقيل: الحب مأخوذ من الحب. وهو القرط قال الشاعر:
تبينت الحيَّة النضناض منه ... مكانّ الحب تستمع السرارا
وسمي القرط حبا؛ إما للزومه للأذن، أو لقلقه. وكلا المعنيين صحيح في الحب.
وقيل: هو مأخوذ من الحبِّ جمع حبَّة وحبة القلب: ما به قوامه؛ فسمي الحب حباً باسم محله.
وقيل: الحب، والحبّ كالعمَر والعُمر.
وقيل: هو مأخوذ من الحبة بكسر الحاء وهي بذور الصحراء: فسمي الحب حبا، لأنه لباب الحياة، كما أن الحب لباب النبات.
وقيل: الحب: هي الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة:، فسميت المحبة حباً لأنه يتحمل عن محبوبه كل عز وذلّ.
وقيل: هو من الحب الذي فيه الماء، لأنه يمسك ما فيه، فلا يسع فيه غير ما امتلأ به، كذلك إذا امتلأ القلب بالحب فلا مساغ فيه لغير محبوبه.
وأما أقويل الشيوخ فيه، فقال بعضهم: المحبة: الميل الدائم بالقلب الهائم.
وقيل: المحبة: إيثار المحبوب على جميع المصحوب.
وقيل: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب.
وقيل: نحو المحبِ لصفاته، وإثباتُ المحبوب بذته.
وقيل: مواطأة القلب لمرادات الرب.
وقيل: خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة.
وقال أبو يزيد البسطامي: المحبة: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار قليل من حبيبك.
وقال سهل: الحبُّ: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة.
وسئل الجنيد عن المحبة، فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب.
أشار بهذا إلى استيلاء ذكر المحبوب، حتى لا يكون الغالب على قلب المحب إلا ذكر صفت المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها.

وقال أبو علي الروذباري: المحبة: الموافقة.
وقال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كتلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.
وقال الشبلي: سميت المحبة محبة؛ لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب.
وقال ابن عطاء: المحبة: إقامة العتاب على الدوام.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: المحبة: لذة، ومواضع الحقيقة دهش.
وسمعته يقول: العشق: مجاوزة الحد في المحبة، والحقُّ، سبحانه؛ لا يوصف بأنه يجاوز الحدّ، فلا يوصف بالعشق، ولو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ذلك استحقاق قدر الحق سبحانه، فلا يقال: إن عبداً جاوز الحد في محبة الله. فلا يوصف الحق. سبحانه بأنه يعشق، ولا العبد في صفته سبحانه بأنه يعشق، فنفى العشق، ولا سبيل له إلى وصف الحق، سبحانه، لا من الحق للعبد، ولا من العبد للحق، سبحانه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول، وقد سئل عن المحبة. فقال: أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: محبة توجب حقن الدماء، ومحبة توجب سفك الدماء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت سمنوناً يقول: ذهب المحبون لله تعالى بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المرءمع من أحب " ؛ فهم مع الله تعالى: وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة مالا ينقص بالجفاء، ولايزيد بالبر، وقال ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده.
وقال الجنيد: إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وفي معناه نشد الأستاذ أبو عليّ:
إذا صفت المودّة بين قوم ... ودام ودادهم سمج الثناء
وكان يقول: لا ترى أباً شفيقاً يبجل إبنه في الخطاب والناس يتكلفون في مخاطبته والأب يقول: يا فلان.
وقال الكتاني: المحبة: الإيثار للمحبوب.
وسمعت محمد بن الحسيني قول: سمعت ابا سعيد الأرجاني يقول: سمعت بندار بن الحسين يقول: رؤى مجنون بني عامر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وجعلني حجة على المحبِّبين.
وقال أبو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة: أن ينسى العبد حظه من الله وينسى حوائجه إليه.
وقال الحسين بن منصور: حقيقة المحبة: قيامك مع محبوبك بخلع وصافك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: قيل النصراباذي: ليس لك من المحبة شيء؟ فقال: صدقوا؛ ولكن لي حسراتهم، فهو ذا احترق فيه.
وسمعته يقول: قال النصراباذي: المحبة: مجانبة السلو على كلِّ حال. ثم أنشد:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوةً ... فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمحة بارق
وقال محمد بن الفضل: المحبة: سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب.
وقال الجنيد: المحبة: إفراط المسيل بلا نيل.
ويقال: المحبة: تشويش في القلوب يقع من المحبوب.
ويقال:المحبة: فتنة تقع في الفؤاد من المراد.
وأنشد ابن عطاء:
غرست لهل الحبّ غصناً من الهوى ... ولم يك يدري ما الهوى أحدٌ قبلي
فأورق أغصاناً، وأينع صبوة ... وأعقب لي مراً من الثمر المحلى
كل جميع العاشقين هواهم إذا نسوه كان من ذلك الأصلي
وقيل: الحب أوله ختل وآخره قتل.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " حبّك للشيء يعمى ويُصم " .
فقال يعمى عن الغير غيرة وعن المحبوب هيبة، ثم أنشد:
إذا ما بد لي تعاظمته ... فأصدر في حال من لم يرد
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارس المحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك وما لك، ثم موافقتك له سرَّا وجهراً، ثم علم بتقصيرك في حبِّه.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: لا تصلع المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا.
وقال الشبلي. المحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك.

وقيل: المحبة: نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.
وقيل:المحبة: بذل المجهود والحبيب يفعل ما يشاء.
وقال النوري: المحبة: هتك الأستار وكشف الأسرار.
وقال أبو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة.
وقال جعفر: قال الجني: دفع السريِّ إلى رقعة، وقال: هذه لك خير من سبعمائة قصة أو حديث يعلو، فإذا فيها:
ولما ادَّعيتُ الحبَّ قالت: كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا
وقال ابن مسروق: رأيت سمنونا يتكلم في المحبة فتكسرت قناديل المسجد كلها.
سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم ابن فانك يقول: سمعت سمنوناً، وهو جالس في المسجد يتكلم في المحبة إذ جاء طير صغير فقرب منه، ثم قرب.. فلم يزل يدنو حتى جلس على يده.. ثم ضرب بمنقاره الأرض حتى سال منه الدم، ثم مات.
وقال الجنيد: كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة.
وقيل: حبس الشبليّ في المارستان فدخل عليه جماعة: فقال: من أنتم؟ قالوا: إنا محبوك يا أبا بكر، فأقبل يرميهم بالحجارة، ففروا، فقال: إن ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي.
وأنشد الشبلي:
أيها السيد الكريم ... حبك بين الحشا مقيم
يا رافع النوم عن جفوني ... أنت بما مر بي عليم
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: سمعت علي بن عبيد يقول: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وماروي بعد، ولسانه خارج ويقول: هل من مزيد.
وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت إلفي ... وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمني وأموت شوقاً ... فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحبّ كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
وقيل: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إني إذا اطلعت علي قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي.
ورأيت بخط الأستاذ أبي علي الدقاق، رحمه الله: في بعض الكتب المنزلة " عبدي، أنا وحقك لك محب، فبحقي كن لي محباً " .
وقال عبد الله بن المبارك: من أعطى شيئاً من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع.
وقيل: المحبة: ما يمحو أترك.
وقيل: المحبة: سُكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه.
ثم السكر الذي يحصل عند الشهود لا يوصف، وأنشدوا:
فأسكر القومَ دَوْرُ كًأس ... وكان سكري من المدير
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق ينشد كثيراً:
لي سكرتان، وللندمان واحدة ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي
وقال أبن عطاء: المحبة: إقامة العتاب على الدوام.
وكان للأستاذ أبي عليّ جارية تسمى فيروز وكان يحبها؛ إذ كانت قد خدمته كثيراً، فسمعته يقول: كانت فيروز تؤذيني يوماً وتستطيل عليّ بلسانها، فقال لها أبو الحسن القارىء لم تؤذين هذا الشيخ؟ فقالت: لأني أحبه.
وقال يحيى بن معاذ: مثقالُ خردلة من الحب أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقيل: إن شاباً أشرف على الناس في يوم عيد وقال:
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
وألقى نفسه من سطح عال فوقع ميتاً.
وحكي أن بعض أهل الهند عشق جارية، فرحلت الجارية، فخرج الرجل في وداعها، فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى، فغمض التي لم تدمع أربعاً وثمانين سنة. ولم يفتحها، عقوبة لها؛ لأنها لم تبك على فراق حبيبته، وفي معناه أنشدوا:
بكت عيني غداة البين دمعاً ... وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع ... بأن غمضتها يوم التقينا
وقال بعضهم: كنا عند ذي النون المصري: فتذاكرنا المحبة، فقال ذو النون: كفوا عن هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها. ثم أنشأ يقول:
الخوف أولى بالمسي ... ء إذا تأله والحزن

والحبُّ يجمل بالتقي ... وبالنقي من الدرَنَ
وقال يحيى بن معاذ: من نشر المحبة عند غير أهلها فهو في دعواه دعيّ.
وقيل: ادَّعى رجل الاستهلاك في محبة شخص، فقال له الشاب: كيف هذا، وأخي أحسن مني وجهاً وأتمُّ جمالاً؟ فرفع الرجل رأسه يلتفت، وكانا على سطح فالقاه من السطح وقال: هذا أجر من يدعي هواناً وينظر إلى سوانا.
وكان سمنون يقدم المحبة على المعرفة، والأكثرون يقدمون المعرفة على المحبة.
وعند المحققين: المحبة: استهلاك في لذة، والمعرفة: شهود في حيرة، وفناء في هيبة.
وقال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحبة، بمكة، أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرم سناً، فقالوا له: هات ما عندك يا عراتي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبدٌ ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوارُ هويته، وصفا شربه منكأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيب؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله والله ومع الله فبكر الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، إني حرَّمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري فيها.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن القاسم قال: حدثنا هيثم بن همام قال: أخبرنا إبراهيم بن الحارث قال: حدثني عبد الرحمن ابن عفان قال: حدثني محمد بن أيوب قال: حدثني أبو العباس خادم الفضيل ابن عياض قال: احتبس بول الفضيل، فرفع يديه وقال: اللهم بحبي لك إلا أطلقته عني، فمابرحنا حتى شفي.
وقيل المحبة: الإيثار كامرأة العزيز لما تناهت في أمرها قالت: " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " .
وفي الابتداء قالت: " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلى أن يسجن أو عذاب أليم " ، فوركت الذنب في الابتداء عليه، وفي الانتهاء نادت على نفسها بالخيانة.
سمعت الأستاذ أبا علي يقول ذلك.
وحكي عن أبي سعيد الخراز أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني، فإن محبة الله شغلتني عن محبتك.. فقال: يا مبارك، من أحب الله تعالى فقد أحبني.
وقيل: قالت رابعة في مناجاتها: إلي، أتحرق بالنار قلباً يحبك؟ فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هكذا، فلا تظني بنا ظن السوء!! وقيل: الحب، حرفان: حاء وباء، والإشارة فيه: أن من أحب فليخرج عن روحه وبدنه.
وكالإجماع من إطلاقات القوم: أن المحبة: هي الموافقة، وأشد الموافقات: الموافقة بالقلب، والمحبة توجب انتفاء المباينة؛ فإن المحب أبداً مع محبوبه، وبذلك ورد الخبر: " حدَّثنا الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا القاضي أحمد بن محمود بن حرزاذ قال: حدثنا الحسين بن حماد بن فاضلة قال: حدثنا يحيى بن حبيب قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: " إن الرجل ليحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول. سمعت أبا حفص يقول: أكثر فساد الأحوال من ثلاثة، فسق العارفين، وخيانة المحبين، وكذب المريدين.
قال أبو عثمان: فسق العارفين: إطلاق الطرف واللسان والسمع إلى أسباب الدنيا ومنافعها.
وخيانتة المحبين: اختيار هواهم على رضا الله عزَّ وجل فيما يستقبلهم.
وكذب المريدين: أن يكون ذكر الخلق ورؤيتهم تغلب عليهم على ذكر الله عزَّ وجلَّ.

وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا القاسم الجوهري يقول: سمعت أبا علي ممشاد بن سعيد العكبري يقول: رواد خطاف خطابة في قبة سلميان، عليه السلام، فامتنعت عليه، فقال لها: لِمَ تمتنعين عليّ وإن شئت قلبت القبة على سليمان!! فدعاه سليمان، عليه السلام، وقال له: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله، إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم! فقال: صدقت.

تعليقات

المشاركات الشائعة