مقامات الصوفية 3

تابع المقامات
باب الرضا
قال الله عزَّ وجلَّ: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " .. الآية.
أخبرنا عليّ بن أحمد الأهوازي، رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن عبيد البصريّ، قال: حدثنا الكريمي، قال: حدّثنا يعقوب بن إسماعيل السلالّ، قال: حدثنا أبو عاصم العباداني، عن الفضل بن عيسى الرقاشيّ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " بينا أهلُ الجنة في مجلس لهم، إذ سطع لهم نورٌ على باب الجنة، سلوني. فقالوا: نسألك الرِّضا عنَّا، قال تعالى: رضاي قد أحلكم داري، وأنا لكن كرامتي، هذا أوانها، فاسألوني. قالوا: نسالك الزيادة. قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر.. أزمتها زُمُردٌ أخضر، وياقوت أحمر، فجاءوا عليها، تضع حوافرَها عند منتهى طرفها، فيأمر الله، سبحانه، بأشجار عليه الثمار، وتجيء جوار من الحوار العين، وهنَّ يقلن: نحن الناعمات فلا نبؤس، ونحن الخالدات فلا نموت، أزواج قو مؤمنين كرام، ويأمر الله، سبحانه،يكتبان من مسك أبيض أذفر، فتثير عليهم ريحاً يقوال لها المثيرة حتى تنتهي بهم إلى جنَّة عدن، وهي قصبةُ الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا، قد جاء القوم. فيقول الله: مرحباً بالصادقين.. مرحباً بالطائعين.
قال: فيكشف لهم الحجاب.. فينظرون إلى الله، عزّ وجلَّ.. فيتمنون بنور الرحمن، حتى لا يبصرَ بعضهم بعضاً، ثم يقول: أرجعوهم إني الصور بالتحف قال: فيرجعون، وقد أبصر بعضهم بعضاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك قوله تعالى: " نُزلاَ من غفور رحيم " .
وقد اختلف العراقيون والخراسانيون في الرِّضا: هل هو من الأحوال، أو من المقامات.
فأهل خراسان قالوا: الرضا: من جملة المقامات وهو نهاية التوكل، ومعناه: أنه ينول إلى أنه يتوصل إليه العبد باكتسابه.
وأما العراقيون؛ فإنهم قالوا: الرضا: من جملة الأحوال، وليس ذلك كسباً للعبد، بل هو نازلةٌ تحل بالقلب كسائر الأحوال.
ويمكن الجمع بين اللسانين؛ فيقال: بداية الرِّضا مكتسبة للعبد، وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال، وليست بمكتسبة.
وتكلم الناس في الرضا؛ فكل عبر عن حاله وشربه، فهم في العبارة، عنه مختلفون، كما أنهم في الشرب والنصيب من ذلك متفاوتون.
فأما شرط العلم، والذي هو لابد منه: فالراضي بالله تعالى، هو: الذي لا يعترض على تقديره.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرضا: أن لا تعترض على الحكم والقضاء.
واعلم أن الواجب على العبد: أن يرضى بالقضاء الذي أمر بالرضا به؛ إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد أو يجب عليه الرضا؛ كالمعاصي، وفنون محن المسلمين.
وقال المشايخ: الرِّضا باب الله الأعظم. يعنون: ن من أكرم بالرضا فقد لقي بالترحيب الأوفى، وأكرم بالتقريب الأعلي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: أخبرنا أبو جعفر الرازي قال: حدثنا العباس بن حمزة قال: حدثنا ابن أبي الحواري قال: قال عبد الواحد بن زيد: الرضا بابُ الله الأعظم، وجنة الدنيا.
واعلم: أن العبد لا يكاد يرضى عن الحق. سبحانه، إلا بعد أني رضى عنه الحق سبحانه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ قال: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " .
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: قال تلميذ لأستاذه: هذا يعرف العبد أن الله تعالى راضٍ عنه؟ فقال: لا، كيف يعلم ذلك. ورضاه غيب؟ فقال التلميذ: بل يعلم ذلك، فقال: كيف؟! فقال: إذا وجدت قلبي راضياً عن الله تعالى. علمت أنه راضٍ عني فقال الأستاذ: أحسنت يا غلام.
وقيل: قال موسى عليه السلام: إلهي، دلني على عمل إذا عملتهُ رضت به عني. فقال: إنك لا تُطيق ذلك: فخرّ موسى عليه السلام ساجداً له، متضرعاً، فأوحى الله تعالى إليه: يا ابن عمران، إن رضاي في رضاك بقضائي.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، قال: حدثنا العباس بن حمزة قال: حدثنا ابن ابي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راضٍ.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول:من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه.
وقال محمد بن خفيف: الرضا على قسمين: رضا به، ورضاع عنه؛ فالرضا به أن يرضاه مدبراً، والرضا عنه فيما يقضى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: طريق السالكين أطول، وهو طريق الرياضة، وطريق الخواص أقرب، لكنه أشقُّ، وهو أن يكون عملك بالرضا، ورضاك بالقضاء.
وقال رويم: الرضا: أن لو جعل الله جهنم على يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره.
وقال أبو بكر بن طاهر: الرضا: إخراج الراهية من القلب، حتى لا يكون فيه إلا فرح وسرور.
وقال الواسطي: استعمل الرضا جهدك، ولا تدع الرضا يستعملك؛ فتكون محجوباً بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع.
واعلم أن هذا الكلام الذي قاله الواسطي شيء عظيم، وفيه تنبيه على مقطعة للقوم خفية، فإن السكون عندهم إلى الأحوال: حجاب عن محول الأحوال، فإذا استلذ رضاه ووجد بقلبه راحة الرضا حجب بحاله عن شهود حقه.
ولقد قال الواسطي أيضاً: إياكم واستحلاء الطاعات، فإنها سموم قاتلة.
وقال أبن خفيف: الرضا: سكون القلب إلى أحكامه، وموافقة القلب بما رضي الله به واختاره له.
وسئلت رابعة العدوية: متى يكون العبد راضياً؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرَّته النعمة.
وقيل. قال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له الجنيد: قولك ذا ضيقُ صدر، وضِيقُ الصدر لترك الرضا بالقضاء، فسكت الشبلي.
وقال أبو سليمان الداراني: الرضا: أن لا تسأل الله تعالى الجنة، ولا تسعيذ به من النار.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري، رحمه الله، يقول: ثلاثة من أعلام الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن جعفر البغدادي يقول: سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: قيل للحسين بن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما: إنَّ أبا ذرٍّ يقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إلى من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنَّ غيرَ ما اختاره الله عز وجل له.
وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافيِّ: الرضا افضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
وسئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك الرضا بعد القضاء " فقال: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت ابن أبي حسان الأنماطي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: أرجوا أن أكون عرفت طرفاً من الرضا: لو انه أجخلني النار لكنت بذلك راضياً.
وقال أبو عمر الدمشقي: الرِّضا: ارتفاع الجزع في أيَّ حكم كان، وقال الجنيد: الرضا: رفع الاختيار، وقال ابن عطاء: الرضا: نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط، وقال رُويم. الرضا: استقبال الأحكام بالفرح، وقال المحاسبي: الرضا: سكون القلب تحت مجاري الأحكام، وقال النوري: الرضا: سرور القلب بُمرِّ القضاء.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: من رضي بدون قدره رفعه الله تعالى فوق غايته.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت الحسن بن علوية يقول: قال أبو تراب النخشبي: ليس ينال الرضا من للدنيا في قلبه مقدار.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان قال: حدثنا عبد الله بن شترويه قال: حدثنا بشر بن الحكم قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن الهادي، عن محمد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً " .
وقيل: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، " أما بع، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضي، وإلا، فاصبر " .
وقيل: إنَّ عتبة الغلام بات ليلة يقول إلى الصباح: " إن تعذبني فأنا لك محبُ، وإن ترحمني فأنا لك محب " .
سمت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: الإنسان خزف، وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحقِّ تعالى.
وقال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله، عز وجل، في حال فكرهتهُ، وما نقلني إلى غير فسخطته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: غضب رجل على عبدٍ له، فاستشفع العبد إلى سيده إنساناً، فعفا عنه، فأخذ العبد يبكي، فقال له الشفيع: لمَ تبكي وقد عفا عنك سيدك؟ فقال له السيدُ: إنما يطلب الرضا مني ولا سبيل له إليه، فإنما يبكي لأجله.
باب العبودية
قال الله عزَّ وجلَّ: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " .
وأخبرنا أبو الحسن الإهوازي، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال حدثنا عبيد بن شريك قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا مالك، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن عمر بن الخطاب، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سعبة يظلهم الله في ظلهّ يوم لا ظلّ إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادةِ الله تعالى. ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: العبودية أتم من العبادة، فأولاً: عباة، ثم عبودية؛ ثم عبودة.
فالعبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخاص.
وسمعته يقول: العبادة: لمن له علم اليقين، والعبودية؛ لمن له عين اليقين، والعبوة: لمن له حق اليقين.
وسمعته يقول: العبادة: لأصحاب المجاهدات، والعبودية: لأرباب المكابدات، والعبودة: صفة أهل المشاهدات، فمن لم يدخر عنه نفسه، فهو صاحب عبادة، ومن لم يضن عليه بقلبه فهو صاحب عبودية: ومن لم يبخل عليه بروحه فهو صاحب عبودة.
ويقال: العبودية: القيام بحق الطاعات بشرط التوفير والنظير إلى ما منك بعين التقصير، وشهود ما يحصل من مناقبك من التقدير.
ويقال: العبودية: ترك الاختيار فيما يبدو من الأقدار.
ويقال: العبودية: التبرؤ من الحول والقوة، والإقرارُ بما يعطيك ويوليك من الطول والمنة.
ويقال: العبودية: معانقة ما أمرت به، ومفارقة مازجرت عنه.
وسئل محمد بن خفيف: متى تصح العبودية؟ فقال: إذا طرح كل علي مولاه، وصبر معه على بلواه.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت ابن مسروق يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يصح التعبد لأحدٍ حتى لا يجزع من أربعة أشياء: من الجوع، والعري، والفقر، والذلّ.
وقيل: العبودية: أن تسلم إليه كلكَ، وتحمل عليه كلك.
وقيل: من علامات العبودية: تركُ التدبير، وشهودُ التقدير.
وقال ذو النون المصري: العبودية: أن تكون أنت عبده في كل حال، كما أنه ربك في كلًّ حال.
وقال الجريري: عبيدُ النمم كثير عديدهم؛ وعبيدُ المنعم عزيزٌ وجودهم.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: أنت عبدُ من أنت في رقة وأسره، فإن كنت في أسر نفسك فأنت عبدُ نفسك، وإن كنت فيأسر دنياك فأنت عبدُ دنياك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة " .
ورأى أبو رزين رجلاً فقال له: ما حرفتك؟ فقال: خربندة " .
فقال: أما الله تعالى حمارك، لتكون عبد الله، لا عبد الحمار.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: لا تصفو لأحد قدمٌ في العبودية حتى يشاهد أعماله عنده رياء، وأحواله دعاوى. وسمعته يقول: سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: العبد عبد ما لم يطلب لنفسه خادماً، فإذا طلب لنفسه خادماً فقد سقط عن حد العبودية وترك آدابها.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت ابن مسروق يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يصلح للعبد التعبد حتى يكون بحيث لا يرى عليه أثر المسكنة في العدم، ولا أثر الغنى في الوجود.
وقيل: العبودية شهود الربوبية.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: قيمة العابد بمعبوده، كماأن شرف العارف بمعروفه.
وقال أبو حفص: العبودية زينة العبد، فمن تركها تعطل من الزينة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا جعفر الرازي يقول سمعت عباس بن حمزة يقول: حدثنا أحمد بن الحواري قال: سمعت النباجي يقول: اصل العبادة في ثلاثة أشياء: لا ترد من أحكامه شيئاً، ولا تدخر عنه شيئاً، ولا يسمعك تسأل غيره حاجة. وسمعته يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: العبودية في أربع خصال: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر عن المفقود.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الكتاني يقول: سمعت عمرو بن عثمان المكيَّ يقول: ما رأيت أحداً من المتعبدين، في كثرة من لقيت بمكة وغيرها، ولا أحداً ممن قدم علينا في المواسم أشد اجتهاداً ولا أدوم على العبادة من المزني، رحمه الله تعالى، ولا رأيت أحداً اشد تعظيماً لأوامر الله تعالى عنه، وما رأيت أحداً أشد تضييقاً على نفسه وتوسعة على الناس منه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: ليس شيء أشرف من العبودية، ولا أسم أتم للمؤمن من الاسم له بالعبودية، ولذلك قال سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج - وكان أشرف أوقاته في الدنيا - " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام " . وقال تعالى: " فأوحى إلى عبه ما أوحى " ، فلو كان اسمٌ أجل من العبودية لسماه به.
وفي معناه أنشدوا:
يا عمرو ثاري عند زهرائي ... يعرفهُ السامعُ والرائي
لا تدعني إلا بياعبدها ... فإنه أشرف أسمائي
وقال بعضهم: إنماهم شيئان: سكونك إلى اللذة، واعتمادك على الحركة، فإذا أسقطت عنك هذين فقد أديتَ العبودية حقها.
كما قال الواسطي: احذروا لذة العطاء؛ فإنها غطاء لأهل الصفاء.
وقال أبو علي الجوزجاني: الرضا: دار العبودية، والصبر بابه، والتفويض بيته، فالصوت على الباب والفراغة في الدار، والراحة في البيت.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدقاق يقول: كما أن الربوبية نعت للحقَّ سبحانه لا يزول عنه، فالعبودية صفة للعبد لا تفارقه ما دام.
وأنشد بعضهم:
فإن تسألوني قلت: هاأنا عبدهُ ... وإن سألوه قال هاذاك مولايا
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت النصراباذي يقول: العبادات إلى طلب الصفح والعفو عن تقصيرها أقربُ منها إلى طلب الإعواضِ والجزاء عليها.

وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: العبودية اسقاط رؤية التبعد في مشاهدة المعبود.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الجريري يقول. سمعت الجنيد يقول: العبودية، تركُ الأشغال، والاشتغالُ بالشغل الذي هو أصل الفراغة.

باب الإرادة
قال الله عزَّ وجلَّ: " ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشى يريدون وجهه " .
وأخبرنا: علي بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا هشام بن علي قال: حدثنا الحكم بن أسلم قال: أخبرنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله. فقيل له: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت " .
والإرادةُ: بدء طريق السالكين، وهي أسم لأول منزلة القاصدين إلى الله تعالى.
وإنما سميت هذه الصفة: إرادة؛ لأن الإرادة مقدمة كلِّ أمر، فما لم يُرد العبد شيئاً لم يفعله، فلما كان هذا أوَّل الأمر لمن سلك طريق الله عز وجل سُمي: إرادة تشبيهاً بالقصد في الأمور الذي هو مقدمتها.
والمريد، على موجب الاشتقاق: من له إرادة، كما أن العالم: من له علم؛ لأنه من الأسماء المشتقة.
ولكن المريد في عُرف هذه الطائفة: من لا إرادة له، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريداً، كما أنَّ من لا إرادة له، علي موجب الاشتقاق لا يكون مريداً.
وتكلم الناس في معنى الإرادة؛ فكلٌّ عبر على حسب ما لاح لقلبه، فأكثر المشايخ قالوا: الإرادة: ترك ما عليه العادة وعادة الناس - في الغالب - التعريج في أوطان الغفلة، والركونُ إلى اتباع الشهوة، والإخلادُ إلى ما دعت إليه المنية.
والمريد منسلخ عن هذه الجملة؛ فصار خروجه إمارة ودلالة على صحة الإرادة، فسميت تلك الحالة: إرادة، وهي خروج عن العادة؛ فإن ترك العادة أمارة الإرادة.
فأما حقيقتها: فهي نهوض القلب في طلب الحق، سبحانه، ولهذا يقال: إنها لوعةٌ تهون كل روعة.
سمت: الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول حاكياً على ممشاد الدينوري، أنه قال: مذ علمتُ أن أحوال الفقراء جد كلها لم أمازح فقيراً؛ وذلك أن فقيراً قدم عليَّ فقال: أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة. فجرى على لساني إرادة وعصيدة فتأخر الفقير ولم أشعر به، فأمرتُ باتخاذ عصيدة.. وطلبت الفقير. فلم أجده.. فتعرفت خبره.. فقيل لي: إنه انصرف من فوره، وكان يقول في نفسه: إرادة وعصيدة.. إرادة وعصيدة.. وهام على وجهه حتى دخل البادية، ولم يزل يقول هذه الكلمات حتى مات.
وعن بعض المشايخ قال: كنت بالبادية وحدي، فضاق صدري، فقلت: يا إنس، كلموني.. يا جن كلموني، فهتف بين هتف: ما تريد؟ فقلت: أريد الله تعالى، فقال: متى تريد الله؟ يعني: أن من قال للجن والإنس: كلموني، متى يكون مريداً لله عزَّ وجلَّ؟! والمريد لا يفتر آناء الليل والنهار، فهو في الظاهر بنعت المجاهدات،وفي الباطن بوصف المكابدات.. فارق الفِراش، ولازم الانكماش، وتحمل المصاعب، وركب المتاعب، وعالج الأخلاق، ومارس المشاق، وعانق الأهوال، وفارق الأشكال، كما قيل:
ثم قطعت الليل في مهمةٍ ... لا أسد أخشى ولا ذيبا
يغلبني شوقي فأطوي السرى ... ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
سمعت: الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الإرادة: لوعة في الفؤاد.. لدغة في القلب.. غرام في الضمير.. انزعاج في الباطن.. نيران تتأجج في القلوب.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا بكر السباك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: كان بين أبي سليمان وأحمد بن أبي الحواري عقد: لا يخالفه أحمد في شيء يأمره به.. فجاءه يوماً وهو يتكلم في مجلسه، فقال: إن التنور قد سجر، فما تأمر؟ فلم يجبه، فقال مرتين أو ثلاثة، فقال أبو سليمان: اذهب فاقعد فيه!! كأنه ضاق به قلبه، وتغافل عنه أبو سليمان ساعة، ثم ذكر فقال: ادركوا أحمد فإنه في التنور؛ لأنه آلى على نفسه أن لا يخالفني؛ فنظروا فإذا هو في التنور لم تحترق منه شعرة.
وسمعت الأستاذ أبا علي يقول: كنت في ابتداء صباي محترقاً في الإرادة وكنت أقول في نفسي: ليت شعري!! ما معنى الإرادة.

وقيل: من صفات المريدين: التحبب إليه بالنوافل، والخلوص في نصيحة الأمة، والأنس بالخلوة، والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمره، والحياءُ من نظره، وبذل المجهود في محبوبه، والتعرض لكل سبب يتوصل إليه، والقناعة بالخمول، وعدم القرار بالقلب إلى أن يصل إلى الرب.
وقال أبو بكر الوراق: آفة المريد ثلاثةُ أشياء: التزويج، وكتبة الحديث، والأسفار.
وقيل له: لِمَ تركت كتابة الحديث؟ فقال: منعتني عنها الإرادة.
وقال حاتم الأصم: إذا رأيت المريد يريد غير مراده، فاعلم أن قد أظهر بذلته.
سمعت: محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الكناني يقول: مِن حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة اشياء: نومه غلبة، وأكله فاقة، وكلامه ضرورة.
وسمعته يقول: سمت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا أراد الله تعالى بالمريد خيراً أوقعه إلى الصوفية، ومنعه صحبة القُراء.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الرًّقي يقول: سمعت الدقاق يقول: نهاية الإرادة أن تشير إلى الله تعالى فتجده مع الإشارة، فقلت: فأي شيء يستوعب الإرادة؟ فقال: أن تجد الله تعالى بلا إشارة.
سمعت: محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت عباس بن أبي الصحو يقول: سمعت أبا بكر الدقاق يقول: لا يكون للرد مريداً حتى لايكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة.
وقال أبو عثمان الحيري: من لم تصح إرادته بداراً لا يزيد مرور الأيام عليه إلا إدباراً.
وقال أبو عثمان: المريد إذا سمع شيئاً من علوم القوم فعمل به صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره، ينتفع به، ولو تكلم به انتفع به من سمعه. ومن سمع شيئاً من علومهم، ولم يعمل به، كان حكاية يحفظها أياماً ثم ينسها.
وقال الواسطي: أول مقام المريد: إرادة الحقّ، سبحانه، بإسقاط إرادته.
وقال يحيى بن معاذ: أشد شيء علي المريدين: معاشرة الأضداد.
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا القاسم الرازيّ يقول: قال يوسف بن الحسين: إذا رأيت المريد يشتغل بالّرُّخص والكسب؛ فليس يجيء منه شيء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت جعفراً الخالدي يقول: سئل الجنيد: ما للمريدين في مجاراة الحكايات؟ فقال: الحكايات جند من جنود الله تعالى، يقوي بها قلوب المريدي. فقيل له : فهل لك في ذلك شاهد؟ فقال: نعم، قوله عزّ وجلّ: " وكلاَّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك " .
وسمعته يقول: سمعت محمد بن خالد يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: المريد الصادق غني عن علم العلماء.
فأما الفرق بين المريد والمراد: فكلُّ مريد على الحقيقة مرا. إذ لو لم يكن مراد الله تعالى بن يريده لم يكن مريداً؛ إذ لا يكون إلا ما أراده الله تعالى، وكل مرادٍ مريد؛ لأنه إذا أراده الحقُّ سبحانه بخصوصية وفقه للإرادة. ولكن القوم فرقوا بين المريد والمراد: فالمريد عندهم هو المبتدىء، والمراد: هو المنتهي، والمريد: الذي نصب بعين وألقى في مقاسات المشاقّ، والمراد: الذي كفى بالأمر من غير مشقة، فالمريد متعنِّ، والمراد: مرفوق به مرفَّه.
وسنَّة الله تعالى مع القاصدين مختلفة، فأكثرهم يوفقّون للمجاهدات، ثم يصلون، بعد مقاساة اللتيَّا والتي، إلى سنِّي المعاني. وكثير منهم يكاشفون في الابتداء بجليل المعاني، ويصلون إلا ما لم يصل إليهكثيرون من أصحاب الرياضات، إلا أن أكثرهم يردّون إلى المجاهدات بعد هذه الأرفاق؛ ليستوفي منهم ما فاتهم من أحكام أهل الرياضة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: متحمِّل، والمراد محمول.
وسمعته يقول: كان موسى، عليه السلام، مريداً، فقال: " ربي اشرح لي صدري " ، وكان نبينا، صلى الله عليه وسلم، مراداً، فقال الله تعالى: " ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك " . وكذلك قال موسى عليه السلام: " رب، أرني أنظر إليك، قال: لن تراني " وقال لنبينا، صلى الله عليه وسلم: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظلَّ " .
وكان أبو علي يقول: إن المقصود قوله " ألم تر إلى ربك " وقوله: " كيف مد الظل " : ستر للقصة وتحصين للحالة.
وسئل الجنيد، رحمه الله، عن المريد والمراد، فقال:

المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: تتولاه رعاية الحق، سبحانه، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر؟ وقيل: أرسل ذو النون إلى أبي يزيد رجلاً، وقيل له: قل له إلى متى النوم والراحة، وقد جازت القافلة؟! فقال أبو يزيد: قل لأخي ذي النون: الرجل من ينام الليل كله، ثم يصبح في المنزل قبل القافلة.
فقال ذو النون: هنيئاً له؛ هذا كلام لا تبلغه أحوالنا.
باب الاستقامة
قال الله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " .
أخبرنا: الإمام أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: أخبرنا أبو بشر يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان مولي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير دينكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
والاستقامة: درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده؛ قال الله تعالى: " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً " .
ومن لم يكن مستقيما في صفته لم يرتق من مقامه إلى غيره، ولم يبن سلوكه على صحة؛ فمن شرط المستأنف: الاستقامة في أحكام البداية، كما أن من حق العارف الاستقامة في آداب النهاية.
فمن أمارات استقامة أهل البداية: أن لا تشوب معاملاتهم فترة.
ومن أمارات استقامة أهل الوسائط: أن لا يصحب منازلهم وقفة.
ومن أمارات استقامة أهل النهاية: أن لاتتداخل مواصلتهم حجبة.
سمعت: الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: الاستقامة؛ لها ثلاثة مدارج: أولها: التقويم، ثم الإقامة، ثم الاستقامة؛ فالتقويم، من حيث تأديب النفوس. والإقامة: من حيث تهذيب القلوب، والاستقامة: من حيث تقريب الأسرار.
وقال أبو بكر، رضي الله عنه، في معنى قوله: " ثم استقاموا " : لم يشركوا.
وقال عمر، رضي الله عنه، لم يزوغوا زوغان الثعالب.
فقول الصدّيق، رضي الله عنه، محمول على مراعاة الأصول في التوحيد.
وقول عمر، رضي الله عنه، محمول علي طلب التأويل والقيام بشرط العهود.
وقال ابن عطاء: استقاموا على انفراد القلب بالله تعالى.
وقال أبو علي الجوزجائي: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربُّك، عز وجلّ، يطالبك بالاستقامة.
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عليّ الشَّبوي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: روى عنك يا رسول الله أنك قلت: " شيبتني هود " فما الذي شيبك منها: قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال: لا، ولكن قوله تعالى: " فاستقم كما أمرت " .
وقيل: إن الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " استقيموا ولن تحصوا " .
وقال الواسطي: الخصلة التي بها كملت المحاسن، وبفقدها قبحت المحاسن: الاستقامة.
وحكى عن الشبلي، رحمه الله، أنه قال: الاستقامة: أن تشهد الوقت قيامة.
ويقال: الاستقامة في الأقوال: بترك الغيبة، وفي الأفعال: بنفي البدعة، وفي الأعمال بنفي الفترة،وفي الأحوال بنفي الحجبة.
سمعت: الأستاذ الإمام أبا بكر محمد بن الحسين بن فورك يقول: السيد في الاستقامة: سين الطلب، أي: طلبوا من الحقّ، تعالى، أن يقيمهم على توحيدهم، ثم على استدامة عهودهم، وحفظ حدودهم.
قال الأستاذ: واعلم أن الاستقامة: توجب دوام الكرامات، قال الله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا " ولم يقل: سقيناهم، بل قال: " أسقيناهم " يقال: أسقيته إذا جعلت له سقيا؛ فهو يشير إلى الدوام.
سمعت: محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد يقول: سمعت أبا العباس الفرغني يقول: قال الجنيد: لقيت شاباً من المريدين في البادية تحت شجرة من شجر أم غيلان فقلت: ما أجلسك ها هنا؟ فقال: مال افتقدته، فمضيت وتركته. فلما انصرفت من الحج إذا أنا بالشاب قد انتقل إلى موضع قريب من الشجرة، فقلت: ما جلوسك هنا؟ فقال: وجدت ما كنت أطلبه في هذا الموضع فلزمته.

فقال: الجنيد: فلا أدري أيُّهما كان أشرف: لزومه لا فتقاد حاله، أو لزومه للموضع الذي نال فيه مراده.
باب الإخلاص
قال الله تعالى: " ألا لله الدين الخالص " .
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا جعفر بن محمد الغرياني قال: حدثنا أبو طلوت قال: حدثني هانيء بن عبد الرحمن بن أبي عقبة، عن إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي قال: حدثني عطية ابن وشاح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله علي وسلم: " ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله؛ ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين " .
وقال الأستاذ: الإخلاص، إفراد الحق، سبحانه، في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر؛ من تصنُّع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرّب به إلى الله تعالى.
ويصحّ أن يقال: الإخلاص: تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين.
ويصحّ أن يقال الإخلاص: التوقيّ عن ملاحظة الأشخاص.
وقد ورد خبر مسند: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر جبريل، عليه السلام، عن الله سبحانه وتعالى، أنه قال: الإخلاص سر من سري، استودعته قلب من أحببته من عبادي " .
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: وقد سألته عن الإخلاص: ما هو؟ فقال: سمعت: علي بن سعيد، وأحمد بن محمد بن زكريا، وقد سألتهما عن الإخلاص، فقالا: سمعنا علّي بن إبراهيم الشقيقي، وقد سألناه عن الإخلاص، فقال: سمعت: محمد بن جعفر الخصّاف، وقد سألته عن الإخلاص، فقال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشريطيّ عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسّان عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت ربِّ العزة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: " سرّ من سرّي استودعته قلب من أحببته من عبادي " .
سمعت: الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: الإخلاص: التوقيِّ عن ملاحظة الخلق، والصِّدق: التنقيِّ من مطالعة النفس فالمخلص؛ لا رياء له، والصادق: لا إعجاب له.
وقال ذو النون المصري: الإخلاص: لا يتم إلا بالصدق فيه، والصبر عليه، والصدق لا يتمّ إلا بالإخلاص فيه والمداومة عليه.
وقال أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الخلاص إحتاج إخلاصهم إلى إخلاص.
وقال ذو النون: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامّة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: الإخلاص: ما يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام.وأما إخلاص الخواصّ: فهو ما يجري عليهم، لا بهم، فتبدو منهم الطاعات، وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية، ولا بها اعتداد، فذلك: إخلاص الخواصِّ.
وقال أبو بكر الدقاق: نقصان كلّ مخلص في إخلاصه: رؤية إخلاصه؛ فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه؛ فيكون مخلصاً لامخلصا.
وقال سهل: لا يعرف الربء إلا مخلص.
سمعت أبا حاتم السجتاني يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا عليّ الروذباري يقول: قال لي رويم: قال أبو سعيد الخرّاز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين.
وقال ذو النون: الإخلاص: ما حفظ من العدو أن يفسده.
وقال أبو عثمان: نسيان رؤية الخلق به وام النظر إلى فضل الخالق.
وقال حذيفة المرعشي: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن.
وقيل: الإخلاص: ما أريد به الحقُ، سبحانه، وقُصد به الصدق.
وقيل: الإغماضُ عن رؤية الأعمال.
سمعت: محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الحسين الفراسي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عليَّ بن عبد الحميد يقول: سمعت السري يقول: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى.

وسمعته يقول: سمعت عليّ بن بندار الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن محمود يقول: سمعت محمد بن عبد ربه يقول: سمعت الفضيل يقول ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما.
وقال الجنيد: الإخلاص سرٌّ بين الله تعالى وبين العبد، لايعلمه مَلكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
وقال رويم: الإخلاص من العمل هو: الذي لايريد صاحبه عليهِ عوضاً من الدارين، ولا حظً من الملكين.
وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيء أشدُّ على النفس؟ فقال: الإخلاص: لأنه ليس لها فيها نصيب.
وسئل بعضهم عن الإخلاص: فقال: أن لا تشهد على عملك غير الله عز وجل.
وقال بعضهم: دخلت علي سهل بن عبد الله يوم جمعة قبل الصلاة بيتاً.. فرأيت في البيت حيَّة. فجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فقال: ادخل، لا يبلغ أحدٌ حقيقة الإيمان وعلى وجه الأرض شيء يخافه. ثم قال: هل لك في صلاة الجمعة؟ فقلت: بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة.. فأخذ بيدي، فما كان إلا قليل حتى رأيت المسجد، فدخلناه؛ وصلينا الجمعة. ثم خرجنا؛ فوقف ينظر إلى الناس وهم يخرجون، فقال: أهل لا إلهَ إلا الله كثير، والمخلصون منهم قليل.
أخبرنا: حمزة بن يوسف الجرجاني قال: حدثنا محمد بن محمد بن عبد الرحيم قال: حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي قال: حدثنا أبو قرصافة محمد بن عبد الوهاب العسقلاني قال: حدثنا زكريا بن نافع قال: حدثنا محمد بن يزيد القراطيسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن مكحل قال: ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً، إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: أعزُّ شيء في الدنيا الإخلاصُ، وكن أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبث فيه على لون آخر.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت أبا الجهم يقول: سمعت ابن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء.
باب الصدق
قال الله تعالى: " ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " .
أخبرنا: الإمام أبو بكر محمد بن فورك، رحمه الله، قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: حدثنا أبو بشر يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّقاً، ولا يزال يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " .
قال الأستاذ: والصدق: عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة، قال الله تعالى: " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.. " الآية.
والصادق الاسم اللازم من الصدق، والصديق المبالغة منه: وهو الكثير الصدق، الذي الصدق غالبه، كالسكير والخمير.. وبابه.
وأقل الصدق: استواء السر والعلانية. والصادق: من صدق في أقواله.
والصديق: من صدق في جميع أقواله، وأفعاله وأحواله.
وقال أحمد بن خضروية: من أراد أن يكون الله تعالى معه فليلزم الصدق؛ فإن الله تعالى قال: " إن الله مع الصادقين " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: الصادق: ينقلب في اليوم أربعين مرّة، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة.
وقال أبو سليمان الداراني: لو أراد الصادق أن يصف ما في قلبه ما نطق به لسانه.
وقيل الصدق: القول بالحق في مواطن الهلكة.
وقيل: الصدق: موافقة السرِّ النطق.
وقال القناد: الصدق: منع الحرام من الشدق.
وقال عبد الواحد بن زيد: الصدق: الوفاء لله سبحانه بالعمل.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره.
وقال أبو سعيد العرشي: الصادق: الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحي من سره لو كشف، قال الله تعالى: " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " .

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: كان أبو علي الثقفي يتكلم يوماً، فقال له عبد الله بن منازل: يا أبا علي، استعد للموت فلا بد منه. فقال أبو عليّ: وأنت يا عبد الله، استعد للموت فلا بد منه. فتوسد عبد الله ذراعه، ووضع رأسه، وقال: قد مِتُّ.
فانقطع أبو علي؛ لأنه لم يمكنه أن يقابله بما فعل، لأنه كان لأبي عليِّ علاقات وكان عبد الله مجرداً لا شغل له.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: كان أبو العباس الدينوري يتكلم.. فصاحت عجوز في المجلس صيحة، فقال لها أبو العباس الدينوري: مُوتي.. فقامت وخطت خطوات.. ثم التفتت إليه، وقالت:قد مِتُّ. ووقعت ميّتة.
وقال الواسطي: الصدق: صحة التوحيد مع القصد.
وقيل: نظر عبد الواحد بن زيد إلى غلام من أصحابه قد نحل بدنه، فقال: يا غلام، أتديم الصوم؟ فقال: ولا أديم الإفطار. فقال: أتديم القيام بالليل؟ فقال: ولا أديم النوم.
فقال: فما الذي أنحلك؟ فقال: هوى دائم.. وكتمان دائم عليه. فقال عبد الواحد: اسكت؟ فما أجرأك!! فقام الغلام، وخطا خطوتين، وقال إلهي، إن كنت صادقاً فخذني؛ فخر ميتاً.
وحكي عن أبي عمرو الزجاجي أنه قال: ماتت أمي.. فورثت منها داراً، فبعتها بخمسين ديناراً.. وخرجت إلى الحج، فلما بلغت باب استقبلني من واحد القناقنة وقال: ما معك؟ فقلت في نفسي: الصدق خير.. ثم قلت: خمسون ديناراً. فقال: ناولنيها. فناولته الصرة.. فعدَّها؛ فإذا هي خمسون ديناراً. فقال: خدثها؛ فلقد أخذني صدقك. ثم نزل عن الدابة، وقال: أركبها. فقلت: لا أريد! فقال لابد. وألحَّ عليَّ.
فركبتها. فقال: وأنا على أثرك.
فلما كان العام المستقبل لحق بي، ولازمني حتى مات.
سمت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً الخواص يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: الصادق. لا نراه إلا في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين بن مقسم يقول: سمعت جعفراً الخواص يقول: سمعت الجنيد يقول: حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب.
وقيل: ثلاثة لا تخطىء الصادق: الحلاوةُ، والهيبة، والملاحة.
وقيل: أوحى الله، سبحانه، إلى داود عليه السلام، يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته.
وقيل: دخل إبراهيم بن دوحة مع غبراهيم بن ستنبة البادية، فقال إبراهيم بن ستنبة: اطرح ما معك من العلائق. قال: فطرحت كل شيء إلا ديناراً فقال: يا إبراهيم، لاتشغل سري، اطرح ما معك من العلائق!! قال: فطرحت الدينار، ثم قال: يا إبراهيم، اطرح ما معك من العلائق!!. فتذكرت أن معي شسوعاً للنعل، فطرحتها، فما أحتجت في الطريق إلى شسع إلاَّ وجدته بين يدي.
فقال: إبراهيم بن ستنبة: هكذا من عامل الله تعالى بالصدق.
وقال ذو النون المصري، رحمه الله: الصدق سيف الله، ما وُضع على شيء، إلا قطع.
وقال سهل بن عبد الله: أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم.
وسئل فتح الموصلي عن الصدق، فأدخل يده في كير الحداد.. وأخرج الحديدة المحماة.. ووضعها على كفه، وقال: هذا هو الصدق.
وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله تعالى بالصدق أحب إلى من أن أضرب بسيفي في سبيل الله تعالى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: الصدق أن تكون مع الناس كما تَرى من نفسك، أو أن ترى من نفسك كما تكون.
وسئل الحارث المحاسبي عن علامة الصدق، فقال: الصادق: هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يُطلع الناس على السيء من عمله؛ فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من أخلاق الصديقين.
وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت.
وقيل له: ما الفرض الدائم؟ قال: الصدق.
وقيل: إذا طلبت الله بالصدق أعطاك مرآة تُبصر فيها كلَّ شيء من عجائب الدنيا والآخرة.
وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك؛ فإنه يضرك.
وقيل: كل شيءٍ، ومصادقة الكذاب لا شيء.
وقيل: علامة الكذاب جوده باليمين بغير مستحلف.
وقال ابن سيرين: الكلامُ أوسع من أن يكذب طريف.
وقيل: ما أملق تاجر صدوق.
باب الحياء

قال الله تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " .
وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبدوس الحيري! المزكي قال: أخبرنا أبو سهل أحمد ابن محمد بنزياد النحويُّ ببغداد قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الهيثم قال: حدثنا موسى بن حيان قال: حدثنا المقدمي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافقع، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" الحياء من الإيمان " .
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الاسماعيلي قال: حدثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري قال: حدثنا أبو أحمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا يعلى بن عبيد قال: حدثنا أبان بن إسحق، عن الصباح بن محمد، عن مُرَّة الهمذاني، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم لأصحابه: " استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحي يا نبي الله، والحمد الله.
قال: ليس ذلك، ولكن ن استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعي، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: أخبرنا أبو نصر الوزيري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد قال: حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن مخلد، عن أبيه قال: قال بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يُستْحا منه.
وسمعته يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت ابن عطاء يقول: العلم الأكبر: الهيبة والحياء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحياء لم يبق فيه خير.
وسمعته يقول: سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب يقول: حدثني محمد بن عبد الملك قال: سمعت ذا النون المصري يقول: الحياء وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربك تعالى.
وقال ذو النون المصري: الحبُّ ينطق، والحياة يسكب، والخوف يقلق.
وقال أبو عثمان: من تكلم في الحياء ولا يستحي من الله عز وجل فيما يتكلم به، فهو مستدرج.
سمعت أبا بكر بن أشكيب، يقول: دخل الحسن بن الحداد على عبد الله ابن منازل، فقال: من أين تجيء؟ فقال: من مجلس أبي القاسم المذكر. قال: في ماذا كان يتكلم؟ فقال: في الحياء. فقال عبد الله: واعجباه!! من لم يستح من الله تعالى كيف يتكلم في الحياء؟! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت أحمد بن صالح يقول: سمعت محمد بن عبدون يقول: سمعت أبا العباس المؤدب يقول: قال السريَّ: إن الحياء والأنس يطرقان القلب؛ فإن وجدا فيه الزهد والورع حطا، وإلا رحلا.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الجريري يقول: تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين، حتى رق الدين.. ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة.
وقيل في قوله تعالى: " ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه " .
البرهان: أنها ألقت ثوباً على وجه صنم في زاوية البيت، فقال يوسف عليه السلام: ماذا تفعلين؟ فقالت: استحي منه، قال يوسف عليه السلام: أنا أولى منك أن أستحي من الله تعالى.
وقيل في قوله تعالى: " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قيل: إنما استحيت منه؛ لأنها كانت تدعوه إلى الضيافة، فاستحيت أن لا يجيب موسى عليه السلام، فصفة المضيف الاستحياء، وذلك استحياء الكرم.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله. يقول: سمعت عبد الله بن الحسين يقول. سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله. يقول: سمعت أبا عبد الله العمري يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراتي يقول: قال ألله تعالى: " يا عبدي إنك ما استحييت مني؛ أنسيتُ الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، ولا أناقشك في الحساب يوم القيامة " .
وقيل: رؤى رجل يصلي خارج المسجد، فقيل له: لم لا تدخل المسجد فتصلي فيه؟ فقال: استحى منه تعالى أن أدخل بيته، قد عصيته!! وقيل: من علامات المستحي: أن لايرى بموضع يستحيا منه.
وقال بعضهم: خرجنا ليلة فمررنا بأجمة، فإذا رجل نائم، وفرص عند رأسه ترعى، فحركناه، وقلنا له: ألا تخاف أن تنام في مثل هذا الموضع المخوف وهو مًسبع؟

فرفع رأسه، وقال: أنا أستحي منه تعالى، أن أخاف غيره، ووضع رأسه ونام.
وأوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السلام: عظ نفسك؛ فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستح مني أن تعظ الناس.
وقيل: الحياء على وجوه: حياء الجناية؛ كآدم، عليه السلام، لما قيل له: أفراراً منا!! فقال: لا، بل حياء منك.
وحياء التقصير؛ كالملائكة يقولون: سبحانه: ما عبدناك حق عبادتك.
وحياء الإجلال؛ كإسرافيل، عليه السلام، تسربل بجناحه حياء من الله عزَّ وجلَّ.
وحياء الكرم؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم، كان يستحي من أمته أن يقول لهم: أخرجوا، فقال الله عز وجلَّ: " ولا مستأنسين لحديث " .
وحياء حشمة؛ كعلى، رضي الله عنه، حين سأل المقداد بن الأسود حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم خروج المذي، لمكان فاطمة رضي الله عنها.
وحياء الاستحقار؛ كموسى عليه السلام، قال: إني لنعرِض لي الحاجة من الدنيا، فاستحي أن أسألك يا رب، فقال لله عز وجل له: سلني حتى عن ملح عجينك، وعلق شاتك.
وحياء الإنعام، هو حياء الرب سبحانه، يدفع إلى العبد كتاباً مختوماً بعد ما عبر الصراط، وإذا فيه: فعلتَ ما فعلتَ، وقد استحييت أن أظهره عليك، فاذهب، فإني قد غفرت لك.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في هذا الخبر: إن يحيى بن معاذ قال: سبحان من يذنب العبد فيستحي هو منه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت زنجوية اللباد يقول: سمعت علي بن الحسين الهلالي يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
وفي بعض الكتب: ما أنصفني عبدي، يدعوني فأستحي ن أرده، ويعصيني فلا يستحي مني.
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعاً استحيا الله تعالى منه وهو مذنب.
وأعلم أن الحياء: يوجب التذويب، فقال: الحياء: ذوبان الحشا لاطلاع المولى.
ويقال: الحياء: انقباض القلب، لتعظيم الرب وقيل: إذا جلس الرجل ليعظ الناس ناداه ملكاه: عظ نفسك بما تعظ به أخاك، وإلا فاستحي من سيدك؛ فإنه يراك.
وسئل الجنيد عن الحياء، فقال: رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء.
وقال الواسطي: لم يذق لذعات الحياء من لابس خرق حدَّ أو نقض عهد.
وقال الواسطي أيضاً: المستحي يسيل منه العرق، وهو الفضل الذي فيه،وما دام في النفس شيء فهو مصروف عن الحياء.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الحياء: ترك الدعوى بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس بن الوليد الزوزني يقول: سمعت محمد بن أحمد الجوزجاني يقول: سمعت أبا بكر الوراق يقول: ربما أصلي لله تعالى ركعتين، فأنصرف عنهما، وأنا بمنزلة من ينصرف عن السرقة من الحياء.

تعليقات

المشاركات الشائعة