مقامات الصوفية 1

شرح المقامات
باب التوبة
قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحوه " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمود بن خرَّاز قال: حدثنا محمد بن فضل بن جابر، قال حدثنا سعيد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن زكريا، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أحبَّ الله عبداًلم يضرّه ذنب " ، ثم تلا: " إن الله يحب التوَّابين ويحب المتطهرين " ، قيل: يا رسول الله، وما علامة التوبة؟ قال " الندامة " .
أخبرنا عليُّ بن أحمد بن عبدان الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا محمد بن الفضل بن جابر قال: أخبرنا الحكم بن موسى، قال: حدَّثنا غسَّان بن عبيد عن أبي عاتكة طريف بن سليمان، عن أنس بن مالك. أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: " ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب " .
فالتوبة أوَّل منزل من منازل السالكين.
وأوَّلُ مقام من مقامات الطالبين.
وحقيقة التوبة في لغة العرب: الرجوع، يقال: تاب أي رجع.
فالتوبة الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " .
فأرباب الأصول من أهل السنةَّ قالوا: شرط التوبة، حتى تصح، ثلاثة أشياء: الندم على ما عمل من المخالفات.
وترك الزَّلة في الحال.
والعزمُ على أن لايعود إلى مثل ما عمل من المعاصي.
فهذه الأركان لابد منها، حتى تصحَّ توبته.

قال هؤلاء: وما في الخبر أن " الندم توبة " إنما نصَّ على معظمه كما قال صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفه " ، أي معظم أركانه عرفه، أي الوقوف بها، لا أنه لا ركن في الحج سوى الوقوف بعرفات، ولكن معظم أركانه الوقوف بها.
وكذلك قوله " الندم توبة " أي معظم أركانها الندم.
ومن أهل التحقيق من قال: يكفي الندم في تحقيق ذلك؛ لأن الندم يستتبع الركنين الآخرين فإنه يستحيل تقدير أن يكون نادماً على ما هو مصر على مثله؛ أو عازم على الإتيان بمثله.
وهذا معنى التوبة على جهة التحديد والإجمال.
فامَّا على جهة الشرح والإبانة، فن للتوبة أسباباً وترتيباً وأقساماً فأول ذلك: انتباه القلب عن رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة.
ويصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للاصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق، سبحانه. يسمع قلبه، فإنه جاء في الخبر " واعظُ الله في قلب كل امرىء مسلم " .
وفي الخبر: " إن في البدن لمضغة إذا صلحَت صلح جميع البدن وإذا فسدت فسد جميع البدن، ألا وهي: القلب " .
فذا فكر بقلبه في سوء ما يصنعه، وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال، سنح في قلبه إرادة التوبة، والإقلاعُ عن قبيح المعاملات فيمدُّه الحق، سبحانه بتصحيح العزيمة، والأخذ في جميل الروجعي، والتأهب لأسباب التوبة: فأوَّل ذلك: هجران إخوان السوء؛ فإنهم هم الذين يحملونه على ردّ هذا القصد ويشوشون عليه صحة هذا العزم.
ولا يتم ذلك: إلا بالمواظبة على المشاهدة التي تزيد رغبته في التوبة وتوفَر دواعيه على إتمام ما عزم عليه. مما يقوِّي خوفه ورجاءه: فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الأفعال، فيقف عن تعاطي المحظورت، ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات فيفارق الزلةَّ في الحال، ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال.
فإن مضى على موجب قصده، ونفذ بمقتضى عزمه فهو الموفق صدقا.
وإن نقض التوبة مرَّة أو مرات، وتحمله إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا أيضاً كثيراً، فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل كتاباً.
حكي عن أبي سليمان الداراني، أنه قال: أختلفت إلى مجلس قاض، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء.. فعدت ثانياً؛ فبقي أثر كلامه في قلبي، حتى رجعت إلى منزلي.
فكسرب آلات المخالفات ولزمت الطريق.
فحكى هذه الحكاية لحيي بن معاذ فقال: عصوراً اصطاد كركيَّاً!! أراد بالعصفور. ذلك القاصَّ، وبالكركيِّ، أبا سليمان الداراني ويحكى عن أبي حفص الحدَّاد أنه قال: تركت العمل كذا، وكذا مرة، فعدت إليه، ثم تركني العمل، فلم أعد بعد إليه.
وقيل: إن أبا عمرو بن نجيد، في ابتداء أمره، أختلفت إلى مجلس أبي عثمان، فأثرت في قلبه كلامه، فتاب.
ثم إنه وقعت له فترة، فكان يهرب من أبي عثمان إذا رآه، ويتأخر عن مجلسه فاستقبله أبو عثمان يوماً فحاج أبو عمرو عن طريقه، وسلك طريقاً أخرى، فتبعه أبو عثمان فما زال به يقفو أثره، حتى لحقه، فقال له: يا بُني، لا تصحب من لا يحبك إلا معصوماً، إنما ينفعك أبو عثمان في مثل هذه الحالة. قال: فتاب أبو عمرو بن نجيد، وعاد لى الإرادة، ونفذ فيها.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: تاب بعض المريدين، ثم وقعت له فترة، فكان يفكر وقتاً: لو عاد إلى توبته كيف حكمه؟ فهتف به هاتف: يا فلان، أطعتنا فشكرناك، ثم تركتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا قبلناك.
فعاد الفتى إلى الإرادة، ونفذ فيها.
فإذا ترك المعاصي، وحل عن قلبه عقدة الإصرار، وعزم أن لا يعود إلى مثله، فعند ذلك يخلق إلى قلبه صادق الندم. فيتأسف على ما عمله، ويأخذ في التحسر على ما صنعه من أحواله، وارتكبه من قبيح أعماله، فتتم توبته، وتصدق مجاهدته، واستبدل بمخالطته العزلة، وبصحبته مع أخوان السوء التوحش عنهم، والخلوة دونهم ويصل ليله بنهار في التلهف، ويعتنق في عموم أ؛واله بصدق التأسف، يمحو بصوب عبرته آثار عثرته، ويأسو بحسن توبته كلوم حوبته ويعرف من بين أمثاله بذبوله، ويستدل صحة حاله بنحوله.

ولن يتم له شيء من ذلك إلا بعد فراغه من إرضاء خصومه، والخروج عما لزمه من مظالمه، فإن أول منزلة من التوبة إرضاء الخصوم بما أمكنه، فإن اتسع ذات يده لإيصال حقوقهم إليهم، أو سمحت أنفسهم بإحلاله والبراءة عنه، وإلا فالعزم بقلبه على أن يخرج عن حقوقهم عند الإمكان والرجوعُ إلى الله سبحانه بصدق الابتهال والدعاء لهم.
وللتائبين صفات وأحوال: هي من خصالهم، يعدُّ ذلك من جملة التوبة، لكونها من صفاتهم، لا لأنها من شرط صحتها، وإلى ذلك تشير أقاويل الشيوخ في معنى التوبة: سمعت الأستاذ أبا عليّ الدِّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: التوبة على ثلاثة اقسام: أوَّلها التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة.
فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والإنابة واسطنهما.
فكلُّ ما تاب لخوف العقوبة فهو صاحب إنابة.
ومن تاب مراعاة للأمر لا للرغبة في الثواب أو رهبة من العقاب فهو صاحب أوبة.
ويقال أيضاً: التوبة صفة المؤمنين، قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون " .
والإنابة: صفة الأولياء والمقرَّبين، قال الله تعالى: " وجاء بقلب منيب " .
والأوبة: صفة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: " نعم العبد إنه أوَّاب " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: التوبة على ثلاثة معان: أولها: الندم، والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه، والثالث السعي في أداء المظالم.
وقال سهل بن عبد الله: التوبة: ترك التسويف.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي، يقول: سمعت أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث يقول: ما قلت قط، اللهم إني إسألك التوبة، ولكني أقول: أسألك شهوة التوبة.
أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، رحمه الله قال: سمعت أبا عبد الله بن مصلح، بالأهواز يقول. سمعت ابن زيري يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على السرّي يوماً فرأيته متغيراً، فقلت له: مالك؟ فقال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة، فقلت له: أن لا تنسى ذنبك!! فعارضني، وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك.
فقلت: إن الأمر عندي ما قاله الشاب.
فقال: لِم؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الوفاء؛ فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت.
سمعت أبا حاتم السجستاني، رحمه الله، يقول: سمعت أبا نصر السراج الصوفي يقول: سئل سهل بن عبد الله عن التوبة، فقال: أن لا تنسى ذنبك وسئل الجنيد عن التوبة فقال: أن لا تنسى ذنبك.
قال أبو نصر السراج: أشار سهل إلى أحوال المريدين والمتعرضين، تارة لهم، وتارة عليهم، فأما الجنيد فإنه أشار إلى توبة المحققين فإنهم لا يذكرون ذنوبهم بما غلب على قلوبهم من عظمة الله تعالى، ودوام ذكره.
قال: وهو مثل ما سئل رويم عن التوبة، فقال: هي التوبة من التوبة.
وسئل ذا النُّون المصري عن التوبة: فقال: توبة العوامِّ من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة.
وقال أبو الحسين النوري: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله عز وجل.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي ابن محمد التميمي يقول: شتان ما بين تائب يتوب من الزلات، وتائب يتوب من الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات.
وقال الواسطي: التوبة النصوح لا تبقي على صاحبها أثراً من المعصية سراً ولا جهراً ومن كانت توبته نصوحاً لا يبالي كيف أمسى أو أصبح.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن إبراهيم بن الفضل الهاشمي يقول: سمعت محمد بن الرومي يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: إلهي، لا أقول تبت، ولا أعود لما أعرف من خلقي، ولا أضمن ترك الذنوب لما أعرف من ضعفي، ثم إنيِّ أقول: لا أعود لعلي أن أموت قبل أن أعود.
وقال ذو النون: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكاذبين.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت ابن يزدانيار يقول، وقد سئل عن العبد إذا خرج إلى الله على أيِّ أصل يخرج؟ فقال: على أن لا يعود إلى ما منه خرج، ولا يراعي غير من إليه خرج، ويحفظ سرَّه عن ملاحظة ما تبرأ منه.
فقيل له: هذا حكم من خرج عن وجود، فكيف حكم من خرج عن عدم؟ فقال: وجودُ الحلاوة في المستأنف عوضاً عن المرارة في السالف.

وسئل البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرتَ الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره، فهو التوبة.
وقال ذو النون: حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى لا يكون لك قرار.. ثم تضيق عليك نفسك، كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: " وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا " .
وقال ابن عطاء: التوبة: توبتان: توبة الإقامة، وتوبة الاستجابة.
فتوبة الإنابة: أن يتوب العبد خوفاً من عقوبته.
وتوبة الاستجابة: أن يتوب حياء من كرمه: وقيل لأبي حفص: لم يبغض التائب الدنيا؟ قال: لأنها دار باشر فيها الذنوب.
فقيل له: فهي ايضاً دار أكرمه الله فيها بالتوبة؟ فقال: إنه الذنب على يقين، ومن قبول توبته على خطر.
وقال الواسطي: طرب داوود عليه السلام، وما هو فيه من حلاوة الطاعة أوقعه في أنفاس متصاعدة، وهو في الحالة الثانية أتم منه في وقت ما ستر عليه من أمره.
وقال بعضهم: توبة الكذابين على أطراف ألسنتهم يعني قوله: " أستغفر الله " .
وسئل أبو حفص عن التوبة، فقال: ليس للعبد في التوبة شيء!! لأن التوبة إليه، لا منه.
وقيل: أوحى الله سبحانه، إلى آدم ورثت ذريتك التعب والنصب، وورثتهم التوبة، من دعاني منهم يدعونك لبِّيته كتلبيتك، يا آدم أحشر التائبين، من القبور مستبشرين ضاحكين، ودعاؤهم مستجاب.
وقال رجل لرابعة: إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبت هل يتوب علي؟ فقالت: لا بل لو تاب عليك لتبت.
وإعلم أن الله تعالى قال: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومن قارف الزلة فهو من خطئه على يقين، فإذا تاب، فإنه من القبول على شكل، لاسيما إذا كان من شرطه وحقه أن يكون مستحقاً لمحبة الحق وإلى أن يبلغ العاصي محلاً يجد في أوصافه أمارة محبة الله إيه مسافة بعيدة، فالواجب إذن على العبد إذا علم أنه أرتكب ما تجب منه التوبة دوام الإنكسار، وملازمة التنصل والاستغفار. كما قالوا: " استشعار الوجل إلى الأجل " ، وقال عزَّ من قائل: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " .
وكان من سنته صلى الله عليه وسلم: دوام الاستغفار، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " .
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسين بن علي يقول: سمعت محمد بن أحمد يقول: سمعت عبد الله بن سهل يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول في قوله عز وجل: " إن إلينا إيابهم " قال: رجوعهم، وإن تمادى يهم الجولان في المخالفات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: ركب علي بن عيسى الوزير في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟ فقالت امرأة قائمة على الطريق: إلى متى تقولون من هذا؟ من هذا؟! هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه الله بما ترون. فسمع على بن عيسى ذلك، فرجع إلى منزله واستغنى عن الوزارة، وذهب إلى مكة وجاور بها.
باب المجاهدة
قال الله تعالى: " والذين جاهدوا فينا، لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا العباس بن الفضل الإسقاطي، قال: أخبرنا ابن كاسب قال أخبرنا ابن عيبنة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أفضل الجهاد " ، فقال: " كلمة عدل عند سلطان جائر " فدمعت عينا أبي سعيد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة، قال الله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " .
وأعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من ظن أن يفتح له شيء من هذه الطريقة، أو يكشف له عن شيء منها إلا بلزوم المجاهدة فهو في غلط.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من لم يكن له في بدايته قومة، لم يكن له في نهايته جلسة.
وسمعته أيضاً يقول: قولهم الحركة بركة: حركات الظواهر توجب بركات السرائر.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الحسين بن علويه يقول: قال أبو يزيد البسطامي: كنت ثنتي عشرة سنة حدَّاد نفسي وخمس سنين كنت مراة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فإذا في وسطي زَنَّار ظاهر، فعملت في قطعة ثنتي عشرة سنة.
ثم نظرت، فإذا في باطني زنار فعملت في قطعة خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي، فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: يا معشر الشباب، جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرتُ: وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب العبادة.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عبد العزيز النجراني يقول: سمعت الحسن القزاز يقول: بني هذا الأمر على ثلاثة أشياء: أن لا تأكل إلا عند الفاقة، ولا تنام إلا عند الغلبة، ولا تتكلم إلا عند الضرورة.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن خضروية يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: لن ينال الرجل درجة الصالحين، حتى يجوز ست عقبات: أولها: أن يغلق باب النعمة، ويفتح باب الشدة.
والثاني: أن يغلق باب العز، ويفتح باب الذلِّ.
والثالث: أن يغلق باب الراحة؛ ويفتح باب الجهد.
والرابع: أن يغلق باب النوم، ويفتح باب السهر.
والخامس: أن يغلق باب الغنى، ويفتح باب الفقرِ.
والسادس: أن يغلق باب، الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت.
سمعت الشيخأبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه!! وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع، فالزموه السوق، وأمروه بالكسب.
وأعلم أن أصل المجاهدة وملاكها: فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات.
وللنفس صفتان ما نعتان لها من الخير: أنهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات فإذا جمحت عند ركوب الهوى وحب كبحها بلجام التقوى، وإذا حرنت عند القيام بالموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى، وإذا ثارت عند غضبها، فمن الواجب مراعاة حالها، فما من منازلة أحسن عاقبه من غضب يكسب سلطانه بخلق حسن، وتخمد نيرانه برفق، فإذا استحلت شراب الرعونة فضاقت، إلا عن إظهار مناقبها والتزين لمن ينظر إليها ويلاحظها، فمن والواجب كسر ذلك عليها، وإحلالها بعقوبة الذل بما يذكرها من حقارة قدرها، وخساسة أصلها، وقذارة فعلها.
وجهد العوام في توفية الأعمال وقصد الخواص إلى تصفية الأحوال فإن مقاساة الجوع والسهر سهل يسير، ومعالجة الأخلاق والتنقي من سفاسفها صعب شديد.
ومن غوامض آفات النفس: ركونها إلى استحلاء المدح، فإن من تحسى منه جرعة حمل السموات والأرضين على شفرة من أشفاره.
وأمارة ذلك: أنه إذا انقطع عنه ذلك الشرب آل حاله إلى الكسل والفشل.
وكان بعض المشايخ يصلي في مسجده في الصف الأول سنين كثيرة، فعاقه يوماً عن الابتكار إلى المسجد عائق، فصلى في الصف الأخير، فلم ير بعد ذلك مدة، فسئل عن السبب، فقال: كنت أقضي صلاة كذا، وكذا سنة صليتها وعندي أني مخلص فيها لله، فداخلني يوم تأخري عن المسجد من شهود الناس إياي في الصف الأخير نوع خجل، فعلمت أن نشاطي طول عمري إنما كان رويتهم فقضيت صلواتي.
ويحكي عن أبي محمد المرتعش، أنه قال: حججت كذا، وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوباً بحظي؛ وذلك: أن والدتي سألتني يوماً أن أستقي لها جرَّة ماء فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظ، وشوب لنفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع.
وكانت امرأة قد طعنت في السن، فسئلت عن حالها، فقالت: كانت في حال الشباب أجد من نفسي نشاطاً وأحوالاً؛ أظنها قوة الحال، فلما كبرت زالت عني، فعلمت أن ذلك كان قوة الشباب، فتوهمتها أحوالاً.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدقاق يقول: ما سمع هذه الحكاية أحد من الشيوخ إلا رقَّ لهذه العجوز، وقال: إنها كانت منصفه.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: ما أعز الله عبداً بعز هو أعز له من أن يدله على ذلك نفسه، وما أذل الله عبداً بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذلك نفسه.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: ما هالني شيء إلا ركبته.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازيَّ يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول، الراحة: هو الخلاص من أماني النفس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت الآفة على الخلق من ثلاثة: سقم الطبيعة، وملازمة العادة، وفساد الصحبة.
فسألته: ما سقم الطبيعة؟ فقال: أكل الحرام.
فقلت، ما ملازمة العادة؟ فقال: النظر، والاستمتاع بالحرام، والغيبة.
قلت: فما فساد الصحبة؟ قال: كلما هاجت في النفس الشهوة تبعتها.
وسمعته يقول: سمعت النّصراباذي يقول: سجنك نفسك. إذا خرجت منها وقعت في راحة أبدية.
وسمعته يقول: سمعت محمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الورَّاق يقول: كان أجل أحكامنا في مبادىء أمرنا في مسجد أبي عثمان الحيري الإيثار بما يفتح علينا، وأن لا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا، بل نعتذر إليه، ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته والإحسان إليه حتى يزول.
وقال أبو حفص: النفس ظُلمْة كلها، وسراجها سرها، ونور سراجها التوفيقُ، فمن لم يصحبه في سرِّه توفيق من ربه كان ظلمة كلَّه.
قال الأستاذ الإمام القشيري: معنى قوله " سراجها سرها " يريد: سرَّ العبد الذي بينه وبين الله تعالى، وهو محل إخلاصه، وبه يعترف العبد أن الحادثات بالله لا بنفسه ولا من نفسه؛ ليكون متبرئاً من حوْله وقوته على استدامة أوقاته، ثم بالتوفيق يعتصم من شرور نفسه، فإن من لم يدركه التوفيق لم ينفعه علمه بنفسه، ولا بربه، ولهذا قال الشيوخ: من لم يكن له سر فهو مُصر.
وقال أبو عثمان: لا يرى أحد عيب نفسه وهو مستحسن من نفسه شيئاً، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال.
وقال أبو حفص: ما أسرع هلاك من لا يعرف عيبه، فإن المعاصي يريد الكفر.
وقال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملاً فاحتسبت به.
وقال السري: إياكم وجيران الأغنياء، وقرَّاء الأسواق، وعلماء الأمراء: وقال ذو النون المصري: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: الأول: ضعف النية بعمل الآخرة.
والثاني: صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم.
والثالث: غلبهم طول الأمل مع قرب الأجل.
والرابع: آثروا رضا المخلوقين على رضا الخالق.
والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وراء ظهورهم.
والسادس: جعلوا قليل زلاَّت السلف حجة لأنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم.
باب الخلوة والعزلة
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدَّثنا عبد العزيز بن معاوية قال: حدّثنا القعني قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن ابيه، عن بعجة بن عبد الله بن بدر الجهني، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من خير معايش الناس كلِّهم رجلاً آخذاً بعنان فرسه في سبيل الله، إن سمع فزعة أو هيعة كان على متن فرسه يبتغي الموت أو القتل في مظانه، أو رجلاً في غنيمة له في رأس شعفة من هذه الشعاف، أو في بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويعبُد ربَّه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير " .
قال الأستاذ: الخلوة: صفة أهل الصفوة. والعزلة: من أمارات الوصلة.
ولا بد للمريد - في ابتداء حاله - من العزلة عن أبناء جنسه، ثم في نهايته - من الخلوة؛ لتحققه بأنسه.
ومنَ حقِّ العبد - إذا آثر العزلة - أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره ولا يقصد سلامته من شر الخلق، فإن الأول من القسمين: نتيجة استصغار نفسه، والثاني شهود مزيته على الخلق. ومن استصغر نفسه فهو متواضع، ومن رأى لنفسه مزلة على أحد، فهو متكبر.
ورؤي بعض الرهبان، فقيل له: إنك راهب.
فقال: لا، بل أن حارس كلب؛ إن نفسي كلب يعقر الخلق أخرجتها من بينهم، ليسلموا منها.

ومرَّ إنسان ببعض الصالحين؛ فجمع ذلك الشيخ ثيابه منه، فقال له الرجلَّ: لم تجمع عني ثيابك، ليست ثيابي نجسة؟ فقال الشيخ: وهمتَ في ظنك، ثيابي هي النجسة. جمعتها عنك؛ لئلا تنجس ثيابك، لا لكي لا تنجس ثيابي.
ومن آداب العزلة: العارفُ؟ قالوا: كائن بائن، يعني: كائن مع الخلق، بائن عنهم بالسر.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقَّاق، رحمه الله، يقول: إلبس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر.
وسمعته يقول: جاءني إنسان، وقال: جئتك من مسافة بعيدة فقلت: ليس هذا الحديث من حيث قطع المسافة ومقاساة الأسفار فارق نفسك ولو بخطوة، فقد حصل مقصودك.
يحكى عن أبي يزيد قال: رأيت ربيَّ عز وجلَّ في المنام، فقلت: كيف أجدك؟ فقال: فارقْ نفسك وتعال.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من أختار الخلوة على الصحبة ينبغي أن يكون خالياً من جميع الأذكار إلا ذكر ربه، وخالياً من جميع الإرادات إلا رضا ربَّه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب، فإن لم يكن بهذه الصفة، فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية.
وقيل: الإنفراد في الخلوة أجمع لدواعي السلوة.
وقال يحيى بن معاذ: أنظر: أنسك بالخلوة، أو أنسك معه في الخلوة، فن كان أنسك بالخلوة ذهب أنسك إذا خرجت منها، وإن كان أنسك به في الخلوة استوت لك الأماكن في الصحاري والبراري.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الورَّاق، فلما أراد أن يرجع، قال له: أوصني. فقال وجدت خير الدنيا والآخرة في الكثرة والقلة، وشرَّهما في الكثرة والاختلاط.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الجريري وقد سئل عن العزلة، فقال: هي الدخول بين الزحام وتمنع سرك أن لا يزاحموك، وتعزل نفسك عن الآثام، ويكون شرك مربوطاً بالحق.
وقيل؛ من آثر العزلة حصل العزلة.
وقال سهل: لا تصح الخلوة إلا بأكل الحلال، ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق الله.
وقال ذو النون المصري: لم أر شيئاً أبعث على الإخلاص من الخلوة: وقال أبو عبد الله الرملي: فيمكن خدنك الخلوة، وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة فإما أن تموت؛ وإما أن تصل الله سبحانه.
وقال ذو النون: ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة، كمن احتجب عنهم بالله.
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: مكابدة العزلة أيسرُ من مداراة الخلطة.
وقال مكحول: إن كان في مخالطة الناس خير فإن في العزلة السلامة.
وقال يحيى بن معاذ: الوحدة جليس الصديقين.
سمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: سمعت الشبلي يقول: الإفلاس.. الإفلاس يا ناس.
فقيل له: يا أبا بكر، ما علامة الإفلاس؟ قال: من علامة الإفلاس الاستئناس بالناس.
وقال يحيى بن أبي كثير: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم.
وقال شعيب بن حرب. دخلت على مالك بن مسعود بالكوفة، وهو في دار وحده، فقلت له: أما تستوحش وحدك؟ فقال: ما كنت أرى أن أحداً يستوحش مع الله.
سمعت الشيخأبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر والأنماطي يقول، سمعت الجنيد يقول: من أراد أن يسلم له دينه، ويستريح بدنه وقلبه، فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: قال أبو يعقوب السوسي: الإنفراد لا يقوى عليه إلا الأقوياء، ولأمثالنا: الاجتماع أوفر وأنفع، يعمل بعضهم على رؤية بعض.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن أبي سعيد يقول: سمعت أبا العباس الدامغاني يقول: أوصاني الشبلي، فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجبار حتى تموت.
وجاء رجل إلى شعيب بن حرب، فقال له: ما جاء بك؟ فقال أكون معك.
قال: يا أخي، إن العباة لا تكون بالشركة، ومن لم يستأنس بالله لم يستأنس بشيء. حكي أن بعضهم قيل له: ما أعجب ما لقيت في سياحتك؟ فقال لهم: لقيتي الخضر، فطلب مني الصحبة: فخشيت أن يفسد علي توكلي.
وقيل لبعضهم: هاهنا أحد تستأنس به؟ فقال: نعم... ومد يده إلى مصحف ووضعه في حدره، وقال: هذا.
وفي معناه أنشدوا:

وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم
وقال رجل لذي النون المصري.
متى تصح لي العزلة؟ فقال: إذا قويت على عزلة نفسك.
وقيل لابن المبارك: ما دواء القلب؟ فقال: قلة الملاقاة للناس.
وقيل: إذا أراد الله أن يَنقل العبد من ذلك المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة وأغناه بالقناعة وبصره بعيوب نفسه، فمن أعطى ذلك فقد أعطى خير الدنيا والآخرة.
؟باب التقوى قال الله تعالى: " إنَّ أكرمكم عند الله أنقاكم " .
وأخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، قال أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا محمد بن الفضل بن جابر قال: حدثنا ابن عبد الأعلى القرشي، قال: حدثنا يعقوب العمي، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ الله، أوصني.
فقال: " عليك بتقوى الله؛ فإنه جِماع كلِّ خير، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية المسلم، وعليك بذكر الله، فإنه نور لك " .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا عباس بن المفضَّل الإسقاطي؛ قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو هرمز نافع بن هرمز، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه؛ يقول: " قيل يا نبي الله من آل محمد؟ قال: كل تقي " .
فالتقوى جماع الخيرات.
وحقيقة الإتقاء التحرز بطاعة الله عن عقوبته؛ يقال: اتقى فلان بترسه.
وأصل التقوى: انقاء الشرك؛ ثم بعده: اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعده انقاء الشبهات؛ ثم يدع بعده الفضلات.
كذلك سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله؛ يقول، سمعته يقول: ولكلِّ قسم من ذلك باب. وجاء في تفسير قوله عزَّ وجل: " اتقوا الله حق تقاته " إن معناه: أن يطاع فلا يعصي؛ ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت أحمد بن عاصم يقول: سمعت سهل بن عبدالله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله، ولا زاد إلا التقوي، ولا عمل إلا الصبر عليه.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الكتاني يقول: قسمت الدنيا على البلوى وقسمت الآخرة على التقوي: وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيِّ يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يُحْكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف المشاهدة.
وقال النصراباذي: التقوي: أن يتقي العبد ما سوى الله عزَّ وجلَّ.
وقال سهل: من أراد أن تصح له التقوى فليترك الذنوب كّلها.
وقال النصراباذي: من لزم التقوى اشتقاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله سبحانه يقول: " وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
وقال بعضهم: من تحقق في التقوى هون الله على قلبه الإعراض عن الدنيا.
وقال أبو عبد الله الروذباري: التقوي: مجانبة ما يبعدك عن الله.
وقال ذو النون المصري: التقي: من لايدنس ظاهره بالمعارضات، ولا باطنه بالعلالات ويكون واقفاً مع الله موقف الاتفاق.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه ال(له، يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: للتقوى ظاهر وباطن، فظاهره: محافظة الحدود. وباطنه: النية والإخلاص.
وقال ذو النون:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم ... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر
سكون إلى روح اليقين وطيبه ... كما سكن الطفل الرضيع إلى الحجر
وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما قد فات.
وقال طلق بن حبيب: التقوى: عمل بطاعة الله على نور من الله، مخافة عقاب الله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمداً الفراء يحكي عن أبي حفص: أنه قال: التقوى بالحلال المحض، لا غير.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا الحسين الزنجاني يقول: من كان رأس ماله التقوى كلَّت الألسنُ عن وصف ربحه.
وقال الواسطي: التقوي: أن يتقي من تقواه يعني: من رؤية تقواه والمتقي مثل ابن سيرين؛ اشترى اربعين حباً سمنا، فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله: من أي حب أخرجتها؟ فقال لا أدري! فصبها كلها على الأرض.
ومثل ابن يزيد:

اشترى بهمذان حب القرطم، ففضل منه شيء، فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين، فرجع إلى همذان فوضع النملتين.
ويحكى أن أبا حنيفة كان لا يجلس في ظل شجرة غريمة. ويقول: قد جاء في الخبر: " كلُّ قرض جر نفعاً فهو رباً " .
وقيل: إن أبا يزيل غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له.
فقال له صاحبه: تعلق الثوب في جدار الكرم.
فقال لا، لا تغرز الوتد في جدار الناس.
فقال: نعلقه في الشجر.
فقال: لا، إنه يكسر الأغصان.
فقال: نبسطه على الأذْخِر.
فقال: لا؛ إنه علق الدواب، لا نستره عنها.
قولي ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره، حتى جف جانب، ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.
وقيل: إن أبا يزيد دخل يوماً الجامع، فغرز عصاه في الأرض فسقطت، ووقعت على عصا شيخ بجنبه ركز عصاه في الأرض، فألقتها. فانحنى الشيخ وأخذ عصاه، فمضى أبو يزيد إلى بيت الشيخ واستحله، وقال: كان السبب في انحنائك تفريطي في غرز عصاي، حيث حتجب إلى أن تنحني.
ورؤى عتبة الغلام بمكان يتصبب عرقاً في الشتاء، فقيل له في ذلك.
فقال: إنه مكان عصيت فيه ربي!! فسئل عنه فقال: كشطت من هذا الجدار قطعت طين، غسل بها ضيف لي يده، ولم أستحل من صاحبه.
وقال إبراهيم بن أدهم: بت ليلة تحت الصخرة ببيت المقدس؛ فلما كان بعض الليل نزل ملكان، فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم.
فقال: ذاك الذي حط بالله سبحانه درجة من درجاته.
فقال: لم؟ قال: لأنه اشترى بالبصرة تمراً، فوقعت تمرة على تمرة من تمر البقال، فلم يردها على صاحبها.
قال إبراهيم: فمضيت إلى البصرة، واشتريت التمر من ذلك الرجل، وأوقعت تمرة على تمرة، ورجعت إلى بيت المقدس، وبت في الصخرة.
فلما كان بعض الليل، إذ أنا بملكين نزلا من السماء.
فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم: فقال: ذلك الذي رد الله مكانه، ورُفعت درجته.
وقيل: التقوى على وجوه: للعامة: تقوى الشرك، وللخاصة: تقوى المعاصي، وللأولياء: تقوى التوصل بالأفعال، وللأنبياء تقوى نسبة الأفعال؛ إذ تقواهم منه إليه.
وعن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادة الناس في الآخرة الأتقياء.
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسين البصري قال: أخبرنا بشر بن موسى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيى ابن أيوب، عن عبيد الله بن رحو، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نظر إلى محاسن امرأة فغض بصره في أول مرة، أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس محمد بن الحسين، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: كان الجنيد جالساً مع رويم، والجريري، وابن عطاء، فقال الجنيد: ما نجا من نجا إلا بصد اللجا، قال الله تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. الآية " .
وقال رويم، رحمه الله: ما نجا ما نجا إلا بصدق التقي، قال تعالى: " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم.. " .
وقال الجريري: ما نجا من نجا إلا بمراعاة الوفاء، قال الله تعالى: " والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " .
وقال ابن عطاء: ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء من الله قال الله تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " .
وقال الأستاذ الإمام: ما نجا من نجا إلا بالحكم والقضاء، قال الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الآية.
وقال أيضاً: ما نجا من نجا إلا بما سبق له من الاجتباء، قال الله تعالى: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " .
باب الورع
أخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال:حدثنا محمد بن سليمان الزاهد قال أخبرنا محمد بن الحسين بن قتيبة، قال: حدثنا أحمد بن إبي طاهر الخرساني. قال: حدثنا يحيى بن العيزار قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابيِّ، عن سفيان، عن الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبى الأسود الدؤلي، عن أبى ذرِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " .

قال الأستاذ الإمام رضي الله عنه: أما الورع، فإنه: ترك الشبهات. كذلك قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك مالا يعنيك هو ترك الفضلات.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام " . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " كن ورعاً تكن أعبد الناس " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، يقول سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السرى يقول: كان أهل الورع في أوقاتهم أربعة: حذيفة المرتعش، ويوسف بن أسباط، وإبراهيم بن أدهم، وسليمان الخواص، فنظروا في الورع فلما ضاقت عليهم الأمور فزعوا إلىالتقلل.
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت الشبلي يقول: الورع أن تتورَّع عن كلِّ ما سوى الله تعالى.
وسمعته يقول: أخبرنا أبو جعفر الرازيُّ قال: حدثَّنا العباس بن حمزة قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا اسحق بن خلف؛ قال: الورع، المنطق: أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة ك أشد منه في الذهب والفضة، لأنك تبدلهما في طلب الرئاسة.
وقال أبو سليمان الداراني: الورع: أول الزهد، كما أن القناعة: طرف من الرضا.
وقال أبو عثمان: ثواب الورع خفَّة الحساب.
وقال يحيى بن معاذ: الورع: الوقوف على حدِّ العلم من غير تأويل.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول. سمعت عبد الله بن الجَّلاء يقول: أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته، ورشائه، ولم يتناول من طعام جاب من مصر.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت علي بن موسى التاهرتي يقةل: وقع من عبد الله بن مروان فلس في بئر قذرة، فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه، فقيل له في ذلك، فقال: كان عليه اسم الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت بن علوية يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الورع على وجهين: ورع في الظاهر؛ وهو: أن لايتحرك إلا لله تعالى.
وورع في الباطن، وهو: أن لايدخل قلبك سوى الله تعالى: وقال يحيى بن معاذ: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء.
وقيل: من دق في الدين نظره جل في القيامة خطره.
وقال ابن الجلاء: من لم يصحبه التقي في فقره أكل الحرام النص.
وقال يونس بن عبيد: الورع: الخروج عن كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة.
وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع: ماحاك في نفسك تركته، وقال معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذِّم.
وقال بشر بن الحارث: أشد الأعمال ثلاثة: الجود في القلَّة، والورع في الخلوة، وكلمة الحقِّ عند من يخاف منه ويرجى.
وقيل: جاءت أخت بشر الحافي إلى أحمد بن حنبل وقالت: إنا نغزل على سطوحنا،فتمر بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟.
فقال أحمد: من أنت؟ عافاك الله تعالى.
فقالت: أخت بشر الحافي.
فبكي أحمد وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لاتغزلي في شعاعها.
وقال علي العطار: مررت بالبصرة في بعض الشوراع، فإذا مشايخ قعود وصبيان يلعبون، فقلت: أما تستحون من هؤلاء المشايخ؟! فقال صبي من بينهم: هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم.
وقيل: إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة، فلم يصح له أن يأكل شيئاً من تمر البصرة، ولامن رطبها، حتى مات ولم يذقه. وكان إذا انقضى وقت الرطب قال: يا أهل البصرة، هذا بطني ما نقص منه شيء ولا زاد فيكم.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال لو كان لي دلو لشربت منه.
سمعت الأستاذ أبا الدقَّاق يقول: كان الحارث المحاسبي إذا مدَّ يده إلى طعام فيه شبهة ضرب على رأس إصبعه عرق فيعلم إنه غير حلال.
وقال: إن بشراً الحافيَّ دعي إلى دعوة، فوضع بين يديه طعام، فجهد أن يمد يده إليه، فلم تمتد. ففعل ذلك ثلاث مرات. فقال رجل يعرف ذلك منه: إن يده لا تمتد إلى طعام فيه شبهة، ما كان أعنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الشيخ؟!

أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى الصوفي، قال: سمعت عبد الله بن علي ابن يحيى التميمي قال سمعت أحمد بن محمد بن سالم بالبصرة يقول: سئل سهل ابن عبد الله عن الحلال الصافي، فقال: هو الذي لا يعصي الله تعالى فيه.
وقال سهل: الحلال الصافي: الذي لا ينسى الله تعالى فيه.
ودخل الحسن البصري مكة، فرأى غلاماً من أولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قد أسند ظهر إلى الكعبة يعظ الناس، فوثب عليه الحسن وقال له: ما ملاك الدين؟ فقال: الورع. فقال له: فما آفة الدين؟ فقال: الطمع. فتعجب الحسن منه.
وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع للسالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وأوحى الله سبحانه، إلى موسى، عليه الصلاة والسلام: لم يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع والزهد.
وقال: أبو هريرة: جلساء الله تعالى غداً: أهل الورع والزهد.
وقال: سهل بن عبد الله: من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل ولم يشبع!! وقيل: حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم، فنبض علي مشامه.
وقال: إنما ينتفع من هذا بربحه، وأناأكره أن أجد ريحه دون المسلمين.
وسئل أبو عثمان الحيري عن الورع، فقال: كان أبو صالح حمدون عند صديق له، وهو في النزع، فمات الرجل، فنفث أبو صالح في السراج، فقيل له في ذلك، فقال: إلى الآن كان الدهن له في المسرجة، ومن الآن صار للورثة. اطلبوا دهنا غيره.
وقال كهمس: أذنبتُ ذنباً أبكي عليه منذ أربعين سنة؛ وذلك: أنه زارني أخُ لي؛ فاشتريت لأجله بدانفق سمكة مشوية، فلما فرغ أخذت قطعة طين من جدار جار لي حتى غسل بها يده ولم أستحله.
وقيل: كان رجل يكتب رقعة، وهو في بيت بكراء، فأراد أن يُترب الكتاب من جدار البيت، فخرط بباله أن البيت بالكراء.. ثم إنه خطر بباله أنه لا خطر لهذا، فترب الكتاب، فسمع هاتفاً يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقاه غداً من طول الحساب!! ورهن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، سٍطلاً له عند بقال بمكة، حرسها الله تعالى، فلما أراد فكاكه أخرج البقال إليه سطلين، وقال: خذ أيهما هو لك.
فقال أحمد أشكل عليَّ سطلي، فهو لك، والدراهم لك.
فقال البقال: سطلك هذا، وأنا أردت أن أجربك.
فقال: لا آخذه. ومضى. وترك السطل عنده.
وقيل: سيب ابن المبارك دابة قيمتها كثيرة، وصلى صلاة الظهر، فرتعت الدابة في زرع قرية سلطانية، فترك ابن المبارك الدابة ولم يركبها.
وقيل: رجع ابن المبارك من مرو إلى الشام في قلم استعاره فلم يرده على صاحبه.
واستأجر النخعي دابة، فسقط سوطه من يده، فنزل، وربط الدابة، رجع فأخذ السوط، فقيل له: لو حولت الدابة إلى الموضع الذي سقط فيه السوط فأخذته كان أسهل لك فقال: إنما استأجرتها لأمضي هكذا.. لا هكذا!! وقال أبو بكر الدقاق: تهت في تيه بني إسرائيل خمسة عشر يوماً.. فلما وافيت الطريق، استقبلني جندي فسقاني شربة من ماء، فعادت قسوتها على قلبي وتألمت ثلاثين سنة.
وقيل: خاطت رابعة العدوية شقاً في قميصها في ضوء مشعلة سلطان، ففقدت قلبها زماناً، حتى تذكرت، فشقت قميصها، فوجدت قلبها.
وروِّي سفيان الثوري في المنام، وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة.
فقيل: بم نلت هذا؟: فقال: بالورع.
ووقف حسان بن أبي سنان على أصحاب الحسن، فقال: أي شيء أشد عليكم؟ فقالوا: الورع.
فقال: ولا شيء أخف علي منه.
فقالوا: فكيف؟ فقال: لم أرو من نهركم منذ أربعين سنة.
وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً، ولا يأكل سميناً ولا يشرب ماء بارداً ستين سنة، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟. فقال: خيراً، إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها.
وكان لعبد الواحد بن زيد غلام خدمه سنين، وتعبَّد أربعين سنة: وكان في أبتداء أمره كيالاً، فلما مات رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً، غير أني محبوس عن الجنة، وقد أخرج علي من غبار القفيز الذي اكتلته أربعين قفيزاً.
ومر عيسى ابن مريم؛ عليهما السلامِ بمقبرة، فنادى رجلاً منها، فأحياه الله تعالى: فقال: من أنت؟ فقال كنت حمالاً أنقل للناس، فنقلت لإنسان يوماً حطباً، فكسرت منه خلالاً تخللت به فأنا مطالب به منذ متُّ.
وتكلم أبو سعيد الخراز في الورع.. فمر به عباس بن المهتدي، فقال:

يا أبا سعيد، أما تستحي، تجلس تحت سقف أبي الدوانيق، وتشرب من بركة زبيدة، وتتعامل بالدراهم المزيفة، وتتكلم في الورع؟!
باب الزهد
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، قال: أخبرنا ابو الحسن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري ببغداد، قال: حدثنا جعفر بن مجاشع قال: حدثنا زيد بن إسماعيل قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا الحكم ابن هشام، عن يحيى بن سعيد، عن افروة، عن أبي خلاد - وكانت له صحية - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل قد أوتي زهداً في الدنيا، ومنطقاً، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة " .
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم، رحمه الله: اختلف الناس في الزهد، فمنهم من قال: الزهد في الحرام، لأن الحلال مباح من قبل الله تعالى، فإذا أنعم الله على عبده بمال من حلال، وتعبده بالشكر عليه، فتركه له باختياره. لا يقدم على إمساكه له بحق إذنه.
ومنهم من قال: الزهد في الحرام واجب، وفي الحلال فضيلة، فإن إقلال المال - والعبد صابر في حاله، راض بما قسم الله تعالى له، قانع بما يعطيه - أم من توسعه وتبسطه في الدنيا فإن الله تعالى زهد الخلق في الدنيا بقوله: " قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى " : وغير ذلك من الآيات الواردة في ذم الدنيا والتزهيد فيها.
ومنهم من قال: إذا أنفق العبد ماله في الطاعة وعلم من حاله الصبر، وترك التعرض لما نهاه الشرع عنه في حال العسر، فحينئذ يكون زهده في المال الحلال أثم.
ومنهم من قال: ينبغي للعبد أن لا يختار الحلال بتكلفه، ولا طلب الفضول مما لا يحتاج إلريه ويراعي القسمة. فإن رزقه الله، سبحانه وتعالى مالاً من حلال شكره، وإن وقفه الله تعالى، على حد الكفاف لم تكلف في طلب ما هو فضول المال، فالصبر أحسن بصاحب الفقر. والشكر أليق بصاحب المال الحلال.
معنى الزهد وتكلموا في معنى الزهد: فكل نطق عن وقته، وأشار إلى حدِّه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: حدثنا أحمد ابن إسماعيل الأزدي قال: حدثنا عمران بن موسى الإسفنجي قال: حدثنا الدورقي قال: حدثنا وكيع قال: قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا: قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء.
وسمعته يقول: سمعت سعيد بن أحمد يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري السقطي يقول: إن الله سبحانه، سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأجرها من قلوب أهل وداده؛ لأنه لم يرضها لهم.
وقيل: الزهد من قوله سبحانه وتعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " .
قالزاهد لا يفرح بموجود من الدنيا، ولا يتأسف على مفقود منها.
وقال أبو عثمان: الزهد: أن تترك الدنيا ثم لاتبالي بمن أخذها.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الزهد: أن تترك الدنيا كما هي، لاتقول أبني بها رباطاً أو أعمر مسجداً.
وقال يحيى بن معاذ: الزهد: يورث السخاء بالملك، والحب يورث السخاء بالروح، وقال ابن الجلاء: الزهد: هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها.
وقال ابن خفيف: علامة الزهد: وجود الراحة في الخروج عن الملك.
وقال أيضاً: الزهد: سلو القلب عن الأسباب، وفض الأيدي من الأملاك.
وقيل الزهد: عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: الزاهد: غريب في الدنيا، والعارف غريب في الأخرة.
وقيل: من صدق في زهده أتته الدنيا راغمة.
ولهذا قيل: لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها.

وقال الجنيد: الزهد خلو القلب عمَّا خلت منه اليد.
وقال أبو سليمان الداراني: الصوف علم من أعلم الزهد؛ فلا ينبغي للزاهد أن يلبس صوفاً بثلاثة دراهم، وفي قلبه رغبة خمسة دراهم.
وقد اختلف السلف في الزهد.
فقال سفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وعيسى بن يونس، وغيرهم: الزهد في الدنيا: إنما هو قصر الأمل.
وهذا الذي قالوه يحمل على أنه من أمارات الزهد، والأسباب الباعثة عليه والمعاني الموجبة له.
وقال عبد الله بن المبارك: الزهد: هو الثقة بالله تعالى مع حب الفقر.

وبه قال شقيق البلخي، ويوسف بن أسباط وهذا أيضاً من أمارات الزهد، فإنه لا يقوى العبد على الزهد، إلا بالثقة بالله تعالى.
وقال عبد الواحد بن زيد: الزهد: ترك الدينار والدرهم.
وقال أبو سليمان الدارني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله سبحانه وتعالى.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول، وقد سأله رويم عن الزهد، فقال: هو استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
وقال سري: لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه، ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه.
وسئل الجنيد عن الزهد، فقال: خلوُّ اليد من الملك، والقلب من التتبع.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: أن نزهد فيما سوى الله تعالى.
وقال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاثُ خصال: عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة.
وقال أبو حفص: الزهد لا يكون إلا في الحلال، ولا حلال في الدنيا، فلا زهد.
وقال أبو عثمان: إن الله تعالى يعطي الزاهد فوق ما يريد، ويعطي الراغب دون ما يريد، ويعطي المستقيم موافقة ما يريد.
وقال يحيى بن معاذ: الزاهد يسعطك الخل والخردل، والعارف يشمك المسك والعنبر.
وقال الحسن البصري: الزهد في الدنيا أن تبغض أهلها وتبغض ما فيها:.
وقيل لبعضهم: ما الزهد في الدنيا؟ قال: ترك ما فيها على ما فيها.
وقال رجل لذي النون المصري: متى أزهد في الدنيا؟ فقال: إذا زهدتَ في نفسك.
وقال محمد بن الفضل: إيثار الزهاد عند الاستغناء، وإيثار الفتيان عند الحاجة، قال الله تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
وقال الكتاني: الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ولا عراقي، ولا شامي: الزهد في الدنيا، وسخاوة النفس، والنصيحة للخلق، يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد إنها غير محمودة.
وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكل، وألبس رداء الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك.
فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل، ثم لا آمن عليك أن تفتضح بينهم!! وقال بشكر الحافي: الزهد: ملك لا يسكن إلا في قلب مخلي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت بن محمد بن الأشعث البيكندي يقول: من تكلم في الزهد، ووعظ الناس، ثم رغب في مالهم، رفع الله تعالى حب الآخرة من قلبه.
وقيل: إذا زهد العبد في النيا وكل الله تعالى به ملكاً يغرس الحكمة في قلبه.
وقيل: لبعضهم: لم زهدت في الدنيا؟ فقال: لزهدها فيَّ.
وقال أ؛مد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام، وهو: زهد العوام: والثاني: ترك الفضول من حلال، وهو: زهد الخواص.
والثالث: ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو: زهد العارفين.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، يقول: قيل لبعضهم: لم زهدت في الدنيا؟ قال: لما زهدت في أكثرها أنفت من الرغبة في أقلها.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس المجلوة، ومن يطلبها ما شطتها والزاهد فيها يسخم وجهها، وينتف شعرها، ويحرق ثوبها والعارف مشتغل بالله تعالى، لا يلتفت إليها.
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت: أبا الطيب السامري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: مارست كل شيء من أمر الزهد، فنلت منه ما أريد، إلا الزهد في الناس؛ فإني لم أبلغه، ولم أطقه.
وقيل. ما خرج الزاهدون إلا إلى أنفسهم، لأنهم تركوا النعيم الفاني للنعيم الباقي.
وقال النصراباذي: الزاهد حقن دماء الزاهدين،وسفك دماء العارفين.
وقال حاتم الأصم. الزاهد يذيب كيسه قبل نفسه، والمتزاهد يذيب نفسه قبل كيسه.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: حدثنا علي بن الحسين الموصلي قال: حدثنا أحمد بن الحسين قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد.
باب الصمت

أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدا، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا بشر بن موسى الأسدي قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، عن بن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن قبة بنع عامر قال: قلت: يارسول الله، ما النجاة؟ قال: " احفظ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبك على خطيئتك " .
قال الأستاذ، رحمه الل: الصمت سلامة، وهو الأصل. وعليه ندامة إذا ورد عنه الزجر فالواجب: أن يعتبر فيه الشرع، والأمر والنهي.
والسكوت في وقته: صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس.
والصمت: من آداب الحضرة، قال الله تعالى: " وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون " .
وقال تعالى - خبراً عن الجن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم - : " فلما حضروه قالوا أنصتوا.. " .
وقال تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً " .
وكم ببن عبد يسكت تصاوناً عن الكذب والغيبة. وبين عبد يسكت لاستيلاء سلطان الهيبة عليه. وفي معناه أنشدوا:
أفكر ما أقول إذا افترقنا ... وأحكم دائباً حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا ... فانطق، حين أنطق، بالمحال
وأنشدوا:
فياليل كم من حاجة له مهمة ... إذا جئتكم لم أدر ياليل ماهيا
وأنشدوا:
وكم حديث لك حتى إذا ... مكنت من لقياك أنسيته
وأنشدوا:
رأيتك الكلام يزين الفتى ... والصمتُخير لمن قد صمت
فكم من حروف تجر الحتوف ... ومن ناطق ود أن لو سكت
والسكوت على قسمين: سكوت بالظاهر، وسكوت بالقلب والضمائر.
فالمتوكل: يسكت قلبه عن تقاضي الأرزاق.
والعارف: يسكت قلبه مقابلة للحكم بنعت الوفاق.
فهذا بجميل صنعه واثق، وهذا بجميع حكمه قانع.
وفي معناه قالوا:
تجري عليك صروفه ... وهموم سرك مطرقة
وربما يكون سبب السكوت حيرة البديهة؛ فإنه إذا ورد كشف عن وصف البغتة خرست العبارات عند ذلك، فلا بيان، ولا نطق. وطمست الشواهد هنالك، فلا علم، ولا حس.
وقال الله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا لا علم لنا " .
فأما إيثار أرباب المجاهدة السكوت: فلما علموا ما في الكلام من الآفات؛ ثم ما فيه من حظ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من آفات في الخلق، وذلك يتميز بين نعت أرباب الرياضات، وهوأحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق.
وقيل: إن داود الطائي، لما أراد أن يعقد في بيته اعتقد أن يحضر مجالس أبي حنيفة، رحمه الله، إذ كان تلميذاً له، ويقعد بين أقرانه من العلماء، ولا يتكلم في مسألة، فلما قوَّي نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة، قعد في بيته عند ذلك وآثر العزلة.
وكان عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، إذا كتب كتاباً واستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره.
سمعت الشيخ أبا عب الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: أخبرنا عبد الله بن محمد الرازي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن إسحق السراج قال: سمعت أحمد بن الفتح يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم.
وقال سهل بن عبد الله: لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه للخلوة، ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت.
وقال أبو بكر الفارسي: من لم يكن الصمت وطنه فوفي الفضول ون كان صامتاً.. والصمت ليس بمخصوص على اللسان، لكنه على القلب والجوارح كلها.
وقال بعضهم: من لم يستغنم السكوت فإذا نطق نطق بلغو.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت ممشاد الدينوري يقول: الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر.

وسئل أبو بكر الفارسي عن صمت السر فقال: ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل.
وقال أبو بكر الفارسي: إذا كان العبد ناطقاً فيما يعنيه، وفيما لابد منه، فهو في حد الصمت.
روي عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، أنه قال: كلم الناس قليلاً، وكلم ربك كثيراً؛ لعل قلبك يرى الله تعالى.
وقيل لذي النون المصري: من أصون الناس لقلبه؟. قال: أهلكم للسانه.
وقال ابن مسعود: ما من شيء يطول السجن أحق من اللسان.
وقال علي بن بكار: جعل الله تعالى لكل شيء بابين، وجعل للسان أربعة أبواب: فالشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان.
وقيل: إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، كان يمسك في فيه حجراً كذا كذا سنة؛ ليقل كلامه.
وقيل: إن أبا حمزة البغدادي، رحمه الله، كان حسن الكلام، فهتف به هاتف، فقال له: تكلمت فأحسنت، بقي أن تسكت فتحسن؟ فما تكلمَّ بعد ذلك حتى مات قريباً من هذه الحالة على رأس اسبوع، أو أقلَّ، أو أكثر.
وربما يكون السكوت يقع على المتكلم تأديباً له، لأنه أساء أدبه في شيء.
كان الشبلي إذا قعد في حلقته، ولا يسألونه، يقول: " ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون " .
وربماَّ يقع السكوت على المتكلم، لأن في القوم من هو أولى منه بالكلام.
سمعت أبن السماك يقول: كان بين شاه الكرماني، ويحيى بن معاذ صداقة، فجمعهما بلد، فكان شاه لا يحضر مجلسه، فقيل له في ذلك: فقال: الصواب هذا. فما زالوا به حتى حضر يوماً مجلسه، وقعد ناحية لا يشعر به يحيى بن معاذ، فلما أخذ يحيى في الكلام سكت، ثم قال: ها هنا من هو أولى بالكلام مني، وارتج عليه فقال شاة: قلت لكم الصواب أن لا أحضرُ مجلسه.
وربمَّا يقع السكوت على المتكلم لمعنى في الحاضرين، وهو أنه يكون هناك من ليس بأهل لسماع ذلك الكلام فيصون الله تعالى لسان المتكلم غيرة وصيانة لذلك الكلام عن غير أهله.
وربما كان سبب السكوت الذي يقع على المتكلم: أن بعض الحاضرين كان معلومُ الله تعالى من حاله أنه يسمع ذلك الكلام، فيكون فتنة له، إما لتوهمه أنه وقته ولا يكون، أو لأنه يحملِّ نفسه مالا يطيق فيرحمه الله، عزَّ وجلَّ، بأن يحفظ سمعه عن ذلك الكلام، إما صيانة له، أو عصمة عن غلطة.
وقال مشايخ هذه الطريقة.
ربما يكون السبب فيه حضور من ليس بأهل لسماعه من الجن، إذ لا تخلو مجالس القوم من حضور جماعة من الجن.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: اعتللت مرة بمرو فاشتقت أن أرجع إلى نيسابور. فريت في المنام. كأن قائلاً يقول لي: لا يمكنك أن تخرج من هذا البلد، فإن جماعة من الجن قد استحلوا كلامك، ويحضرون مجلسك، فلأجلهم تجلس هاهنا.
وقال بعض الحكماء: إنما خلق للإنسان لسان واحد، وعينان، وأذنان، ليسمع ويبصر أكثر مما يقول.
ودعي إبراهيم بن أدهم إلى دعوة؛ فلما جلس أخذوا في الغيبة، فقال: فقال: عندنا يؤكل اللحم بعد الخبز، وأنتم ابتدأتم بأكل اللحم؟ أشار إلى قوله تعالى: " أيجب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً، فكرهتموه " .
وقال بعضهم: الصمت، لسان الحْلم.
وقال بعضهم: تعلمَّ الصمت، كما تتعلم الكلام؛ فإن كان الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك.
وقيل: عفة اللسان صمته.
وقيل: مثل اللسان مثل السبع إن لم تُوثقه عدا عليك: وسئل أبو حفص: أيُّ الحالين للوليِّ أفضل؟ الصمت، أو النطق؟ فقال: لو علم الناطق ما آفة النطق لصمت إن استطاع عمرَ نوح، ولو علم الصامت ما آفة الصمت لسأل الله تعالى، ضعفي عمر نوح حتى ينطق.
وقيل: صمت العوامِّ بألسنتهم، وصمت العارفين بقلوبهم، وصمت المحبين بالتحفظ من خواطر اسرارهم.
وقيل لبعضهم: تكلمَّ فقال: ليس لي لسان فأتكلمَّ.
فقيل له: اسمع، فقال: ليس فيَّ مكان فأسمع.
وقال بعضهم: مكثت ثلاثين سنة لا يسمع قلبي إلا من لساني.
وقال بعضه: لو أسكت لسانك لم تنج من كلام قلبك، ولو صرت رميماً لم تتخلص من حديث نفسك، ولو جهدت كلَّ الجهد لم تكلمك روحك، لأنها كاتمة للسر.
وقيل: لسان الجاهل مفتاح حتفه.
وقيل: المحب: إذا سكت هلك، والعارف إذا سكت ملك سمعت محمد بن الحسين، يقول سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر الصائغ يقول: سمعت مردوية الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
باب الخوف

قال الله تعالى: " يدعون ربهم خوفا وطعما " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن دلوية الدقاق قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثنا عامر بن أبى الفرات قال:حدثنا المسعودي، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريره قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى، حتى يلج اللبن في الضرع. ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد أبداً.
حدثنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم المهرجاني قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن الحسن بن الشرفي، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان بن الشرفي، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلملضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً " .
قلت الخوف: معنى متعلقة في المستقبل، لأنه نما يخاف أن يحلَّ به مكروه، أو يفوته محبوب. ولا يكون إلا لشيء يحصل في المستقبل.
فأمَّا ما يكون في الحال موجوداً، فالخوف لا يتعلق به.
والخوف من الله تعالى، هو: أن يخاف أن يعاقبه الله تعالى إمَّا في الدنيا، وإما في الآخرة.
وقد فرض الله، سبحانه، على العباد أن يخافوه، فقال تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الخوف علي مراتب: الخوف، والخشية، والهيبة.
فالخوف من شرط الإيمان وقضيته. قال الله تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الخوف على مراتب: الخوف، والخشية، والهيبة.
فالخوف من شرط الإيمان وقضيته: قال الله تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
والخشية من شرط العلم، قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والهيبة من شرط المعرفة، قال الله تعالى: " ويحذركم الله نفسه " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله؛ يقول: سمعت محمد ابن علي الحيري يقول: سمعت محفوظاً يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف سوْط الله يقوّم به الشاردين عن بابه.
وقال أبو القاسم الحكيم: الخوف على ضربين: رهبة، وخشية.
فصاحب الرهبة يلتجىء إلى الهرب ذا خاف، وصاحب الخشية يلتجىء إلى الرب.
قال رحمه الله: ورهب، وهرب؛ يصح أنا يقال: أنهما واحد معنى، مثل: جذب، وجبذ.
فإذا هرب أنجذب في مقتضى هواه، كالرهبان الذين اتبعوا أهوائهم فإذا كبحهم لجام العلم وقاموا بحق الشرع، فهو الخشية.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف، سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله. يقول: الخوف ألاَّ تعلل نفسك بعسى وسوف.
سمعت محمد بن الحسين. يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي يقول: الخوف، سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله. يقول: الخوف ألاَّ تعلل نفسك بعسى وسوف.
سمعت محمد بن الحسين. يقول:سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي يقول: الخائف، من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.
وقال ابن الجلاء: الخائف، من تؤمنه المخوفات.
وقيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخف أن يعذب عليه.
وقيل للفضيل، مالنا لا نرى خائفاً؟ فقال: لو كنتم خائفين لرأيتم الخائفين، إن الخائف لايراه إلا الخائفون، وإن الثكلى، هي التي تحب أن ترى الثكلى.
وقال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لدخل الجنة.
وقال شاء الكرماني: علامة الخوف: الحزن الدائم.
وقال أبو القاسم الحكيم: من خاف من شيء هرب منه، ومن خاف من الله عزَّ وجل هرب إليه.
وسئل ذو النون المصرين رحمه الله، متى يتيسر على العبد سبيل الخوف؟ فقال: إذا أنزل نفسه منزلة السقيم، يحتمى من كل شيء؛ مخافة طول السقام.
وقالبشر الحافي: الخوف من الله ملك لايسكن إلا في قلب متق.
وقال أبو عثمان الحيري: عيب الخائف في خوفه السكون إلى خوفه لأنه أمر خفى.
وقال الواسطي: الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد.

وهذا اللفظ فيه إشكال ومعناه: أن الخائف متطلع لوقت ثان. وأبناء الوقت لاتطلع لهم في المستقبل، وحسنات الابرار سيئات المقربين.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن النهاوندي يقول: سمعت ابن فانك يقول: سمعت النوري يقول: " الخائف يهرب من ربه إلى ربه " .
وقال بعضهم: علامة الخوف، التحير والوقوف على باب الغيب: سمعت ابا عبد الله الصوفي يقول: سمعت على بن إبراهيم العكبري يقول: سمعت الجنيد وقد سئل عن الخوف، فقال: هو توقع العقوبة مع مجاري الأنفاس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين ابن أحمد الصفار يقول: سمعت محمد بن المسيب يقول: سمعت هاشم بن خالد يقول:سمعت أبا سليمان الدارانى يقول: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن يقول: سمعت أبا عثمان يقول: صدق الخوف، هو الورع عن الآثام ظاهراً وباطناً.
وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق.
وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف، وعلامة الخوف قصر الأمل.
وقال رجل لبشر الحافي: أراك تخاف الموت!! فقال: القدوم على الله، عز وجل شديد سمعت الأستاذ أبا على الدقاق، يقول: دخلت على الإمام أبى بكر ابن فورك عائداً، فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن شاء الله تعالى يعافيك ويشفيك.
فقال لي: تراني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت!! أخبرنا عن بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا القاسم بن محمد قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن سعيد بن موهب، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله: الذين يؤتون ما آتوا: وقلوبهم وجلة، أو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا: ولكن الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه.
وقال ابن المبارك: رحمه الله: الذي يهيج الخوف حتى يسكن في القلب دوامُ المراقبة في السرِّر والعلانية.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول سمعت أبا القاسم بن أبي موسى يقول: سمعت محمد بن أحمد: قال: حدثنا علي الرازي قال: سمعت ابن المبارك: رحمه الله يقول ذلك.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد رغبة الدنيا عنه.
وقيل، الخوف، قوَّة العلم بمجاري الأحكام.
وقيل: الخوف، حركة القلب من جلال الربِّ.
وقال أبو سليمان الداراني، ينبغي للقلب أن لا يكون الغالب عليه إلا الخوف، فنه إذا غلب الرجاء على القلب فسد القلب.
ثم قال: يا أحمد، بالخوف ارتفعوا، فإن ضيعوه نزلوا.
وقال الواسطي، الخوف؛ والرجاء، زمامان على النفوس، لئلا، تخرج إلى رعوناتها.
وقال الواسطي: إذا ظهر الحق على السرائر، لا يبقي فيها فضلة لرجاء ولا لخوف.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا فيه إشكال. ومعناه: إذا اصطلت شواهد الحق، تعالى، الأسرار ملكتها، فلا يبقى فيها مساغ لذكر حدثان، والخوف والرجاء من آثار بقاء الإحساس بأحكام البشرية.
وقال الحسين بن منصور: من خاف من شيء سوى الله عزَّ وجل أو رجا سواه أغلق عليه ابواب كل شيءن وسلط عليه المخافة؛ وحجبه بسبعين حجاباً أيسرها الشك، وإن مما أوجب شدة خوفهم، فكرهم في العواقب، وخشية تغير أحوالهم، قال الله تعالى: " وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " وقال الله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
فكم منمغبوط في أ؛واله أنعكست عليه الحال، ومني بمقارنة قبيع الآفعال، فبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة..
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، ينشد كثيراً:
أحسن ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
سمعت منصو بن خلف المغربي يقول:

كان رجلان اصحطبا في الإراجة برهة من الزمان.. ثم إن أ؛دهما سافر، وفارق صاحبه.. وني عليه مدة من الزمان ولم يسمع منه خبراً.. فبينا هذا الآخر كان في غزاة يقاتل عسكر الروم إذ خرج على المسلمين رجل مقنع في السلاح، يطلب المبارزة.. فخرج إليه من أبطال المسلمين واحد، فقتله الرومي.. ثم خرج آخر فقتله.. ثم ثالث فقتله، فخرج إليه هذا الصوفي.. وتطاردا، فحسر الرومي عن وجهه، فإذا هو صاحبه الذي صحبه في الإرادة والعبادة سنين.
فقال هذا له: إيش الخبر؟ فقال: نه ارتد.. وخالط القوم.. وولد له أولاد.. واجتمع له مال.
فقال له: لا أذكر منه حرفاً.
فقال له هذا الصوفي: لا تفعل، وارجع، فقال: لا أفعل، فلي فيهم جاه ومال، فانصرف أنت عني، وإلا لأفعلن بك ما فعلت بأولئك.
فقال له الصوفي: أعلم أنك قتلت ثلاثة من المسلمين، وليس عليك أنفه في الانصراف، فانصرف أنت وأنا أمهلك.
فرجع الرجل مولياً: فتبعه هذا الصوفي، وطعنه، فقتله.
فبعد تلك المجاهدات، ومقاساة تلك الرياضات، قتل على النصرانية.
وقيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان زماناً طويلاً، فأوحى الله تعالى، إليهما: ما لكما تبكيان كل هذا البكاء؟ فقالا: يا ربنا، لا نأمن مكرك.
فقال الله تعالى: هكذا كونا، لا تأمنا مكري.
ويحكي عن السري السقطي أنه قال: ني لأنظر إلى أنفي في اليوم كذا مرة؛ مخافة أن يكون قد أسود، لما أخافه من العقوبة!! وقال أبو حفص: منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي، أن الله؛ تعالى: ينظر إلي نظر السخط، وأعمالي تدل على ذلك.
وقال حاتم الأصم: لا تغتر بموضع صالح؛ فلا مكان أصلح من الجنة، فلقي آدم، عليه السلام فيها ما لقي!! ولا تغتر بكثرة العبادة؛ فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي!! ولا تغتر بكثرة العلم؛ فإن بلعام كان يحسن أسم الله الأعظم؛ فأنظر ماذا لقي!! ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر قدراً من المصطفى؛ صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه.
وخرج ابن المبارك يوماً على أصحابه فقال: إني قد أجترأت الباحرة على الله عز وجل: سألته الجنة.
وقيل: خرج عيسى عليه السلام، ومعه صالح من صالحي بني إسرائيل فتبعهما رجل خاطىء مشهور بالفسق فيهم، فقعد منتبذاً عنهما منكسراً، فدعا الله سبحانه وقال اللهم اغفر لي.
ودعا هذا الصالح وقال: اللهم لا تجمع غداً بيني وبين ذلك العاصي.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: أني قد استجبت دعاءهما جميعاً، رددت ذلك الصالح، وغفرت لذلك المجرم.
وقال ذو النون المصري: قلت لعليم. لم سميت مجنوناً؟ قال: لما طال حبسي عنه صرت مجنوناً لخوف فراقه في الآخرة.
وفي معناه أنشدوا:
لو أن مابي على صخر لأنحله ... فكيف يحمله خلق من الطين؟
وقال بعضهم، ما رأيت رجلاً أعظم رجاء لهذه الأمة، ولا أشد خوفاً على نفسه، من ابن سيرين.
وقيل، مرض سفيان الثوري، فعُرض دليله على الطبيب؛ فقال: هذا رجل قطع الخوف كبده.
ثم جاء وجسَّ عِرقه، ثم قال: ما علمت أنَّ في الحنيفية مثله.
وسئل الشبلي: لم تصفر الشمس عند الغروب؟ فقال: لأنها عُزلت عن مكان التمام: فاصغَّرت لخوف المقام.
وكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه، لأنه بعث من خرج ووجهه يشرق.
ويحكى عن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، أنه قال: سألت ربي، عز وجلَّ، أن يفتح علي باباً من الخوف، ففتح، فخفت على عقلي، فقلت، يا ربِّ، أعطني على قدر ما أطيق، فسكنَّ ذلك عني.
باب الرجاء
قال الله تعالى: " من كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثن عمرو بن مسلم الثقفي قال: حدثنا الحسن بن خالد قال: حدثنا العلاء بن زيد، قال: دخلت على مالك بن دينار، فرأيت عنده شهر بن حوشب فلما خرجنا من عنده، قلت لشهر: يرحمك الله تعالى، زوِّدني، زودك الله تعالى.

فقال: نعم، حدثتني عمتي أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، قال: " قال ربكم عزوجل: عبيد، ما عبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك، ولو استقبلتني بملء الأرض خطايا وذنوباً، استقبلتك بمثلها مغفرة، فأغفر لك ولا أبالي " .
أخبرنا علي بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا خلف بن الوليد، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثنا أبو سفيان طريف، عن عبد الله بن الحارث، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة شعير من إيمان ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم يقول: وعزتي وجلالي لا أجعل من آمن بي ساعة من ليل أو نهار كمن لم يؤمن بي " .
الرَّجاء: تعلق القلب بمحبوب سيحصل في المستقبل.
وكما أن الخوف يقع في مستقبل الزمان، فكذلك الرجاء يحصل لما يؤمل في الاستقبال والرجاء عيش القلوب، واستقلالها.
والفرق بين الرجاء، وبين التمني، أن التمني: يورث صاحبه الكسل، ولا يسلك طريق الجهد والجد، وبعكسه صاحب الرجاء، فالرجاء محمود، والنمن معلول.
وتكلموا في الرجاء، فقال شاه الكرماني: علامة الرجاء: حسن الطاعة.
وقال ابن خبيق: الرجاء ثلاثة: وقال ابن خبيق: الرجاء ثلاثة: رجل عمل حسنة: فهو يرجو قبولها.
ورجل عمل سيئة: ثم تاب: فهو يرجو المغفرة.
والثالث الرجل الكاذب: يتمادى في الذنوب: ويقول أرجو المغفرة.
ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالباً على رجائه.
وقيل الرجاء: ثقة الجود من الكريم الودود.
وقيل: الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال.
وقيل: هو قرب القلب من ملاطفة الرب.
وقيل: سرور الفؤاد بحسن المعاد.
وقيل: هو النظر إلى سعة رحمة الله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي: رحمه الله: يقول: سمعت منصور ابن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: الخوف، والرجاء، هما كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقض أحدهما وقع فيه النقص: وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت ابن أبي حاتم يقول سمعت علي بن شهمرذان يقول: قال أحمد بن عاصم الانطاكي، وسئل ما علامة الرجاء في العبد؟ قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر، راجياً لتمام النعمة من الله تعالى في الدنيا، وتمام عفوه في الآخرة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الرجاء: استبشار بوجود فضله.
وقال ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو المحبوب.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من حمل نفسه على الرجاء تعطل، ومن حمل نفسه على الخوف قنط ولكن من هذه مرة، ومن هذه مرة.
وسمعته يقول: حدثنا أبو العباس البغدادي قال: حدثنا الحسن بن صفوان قال: حدثنا ابن ابي الدنيا، قال: حدثت عن بكر بن سليم الصواف، قال: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها، فقلنا. يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ فقال: ما أدري ما أقول لكم؛ غير أنكم ستعاينون من عفو الله تعالى، ما لم يكن في حساب، ثم ما برحنا حتى أغمضناه.
وقال يحيى بن معاذ: يكاد رجائي لك مع الذنوب، يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف!! وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.
وكلموا ذا النون المصري، وهو في النزع، فقال لا تشغلوني؟ فقد تعجبت من كثرة لطف الله تعالى معي.
وقال يحيى بن معاذ: إلهي، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحبُّ الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك.
وفي بعض التفاسير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أصحابه، من باب بني شيبة، فرآهم يضحكون فقال: أتضحكون؟ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " ثم مرَّ، ثم رجع القهقرى، وقال: نزل عليَّ جبريل، عليه السلام، وأتى بقوله تعالى: " نبىء عبادي ني أنا الغفور الرحيم " .

أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي قال: حدثنا أبو الحسن الصفار قال: حدثنا عباس بن تميم قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا مسلم بن سالم قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى ليضحك من يأس العباد وقنوطهم وقرب الرحمة منهم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، أويضحك ربنا عز وجل؟ فقال: " والذي نفسي بيده إنه ليضحك، فقالت: لا يعدمنا خيراً إذا ضحك " .
وأعلم أن الضحك في وصفه من صفات فعله، وهو إظهار فضله، كما يقال: ضحكت الأرض بالنَّبات وضحكه من قنوطهم إظهار تحقيق فضله الذي هو ضعف انتظارهم له.
وقيل: ن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل، عليه السلام، فقال له: إن أسلمت أضفتك فقال المجوسي: إذا أسلمت فأي مِنَّة تكون لك عليَّ؟ فمرَّ المجوسي، فأوحى الله تعالى إلى إبراهيم، عليه السلام: يا إبراهيم، لم تطعمه إلا بتغييره دينه؟! ونحن منذ سبعين سنة نطعمه على كفره، فلوأضفته ليلة ماذا عليك؟ فمرَّ إبراهيم، عليه السلام، خلف المجوسيِّ، وأضافه، فقال له المجوسيُّ: أي شيء كان السبب في الذي بدالك؟ فذكر له ذلك، فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني؟ ثم قال: أعْرض عليَّ الإسلام فأسلم: سمعت الشيخ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: رى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي، رحمه الله، أبا سهل الزَّجاج في النوم، وكان يقول بوعيد الأبد، فقال له: كيف حالك؟ فقال وجدنا الأمر أسهل مما توهمنا.
سمعت أبا بكر بن أشكيب يقول: رأيت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف، فقلت له. يا أستاذ، بم نلت هذا؟، فقال: بحسن ظنيِّ برِّبي.
ورؤى مالك بن دينار في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك.
قال: قدمت على ربي، عزَّ وجلَّ، بذنوب كثيرة محاها عنّي عن حسن ظني به تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " يقول الله عز وجل، أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ هو خير منه، وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إليَّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
أخبرنا بذلك أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأسفرايني قال: أخبرنا يعقوب بن إسحق قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا أبو معاوية ومحمد أبن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك.
وقيل: كان ابن المبارك يقاتل علْجاً مرة فدخل وقت صلاة العلاج، فاستمهله، فأمهله.
فلما سجد للشمس: أراد ابن المبارك أن يضربه بسيفه، فسمع من الهواء قائلا يقول: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " ، فأمسك. فلما سلم المجوسي، قال له: لِمَ أمسكت عما هممت َبه؟ فذكر له ما سمع، فقال له المجوسي: نعم الرب رب يعاتب وليه في عدوِّه. فأسلم وحسن إسلامه.
وقيل: إنما أوقعهم في الذنب حين سمى نفسه عفواً.
وقيل: لو قال لا أغفر الذنوب، لُم يذنب مسلم قط، - كما أنه لم قال: " إن الله لا يغفر أن يشرك به " " لم يُشرك مسلم قطّ " ، ولكن لما قال: " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " طمعوا في مغفرته.
ويحكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال: كنت أنتظر مدة من الزمن أن يخلو المطاف لي، فكانت ليلة ظلماء، فيها مطر شديد، فخلا المطاب؛ فدخلت للطواف، وكنت أقول فيه: اللهم أعصمني، اللهم أعصمني، فسمعت هاتفاً يقول لي: يا ابن أدهم، أنت تسألني العصمة، وكل الناس يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم فمن أرحم.
وقيل: رأى أبو العباس بن شربح، في منامه في مرض موته، كأن القيامة قد قامت، وإذا الجبار، سبحانه، يقول: أين العلماء؟. قال: فجاءوه. ثم قال: ماذا عملتم فيما علمتم؟ قال فقلنا: يا رب، قصرنا، وأسأنا.
قال: فأعاد السؤال، كأنه لم يرض به، وأراد جواباً آخر.
فقلت: أما أنا، فليس في صحيفتي الشرك، وقد وعدت أن تغفر ما دون.
فقال: إذهبوا فقد غفرت لكم، ومات بعد ذلك بثلاث ليال.

وقيل: كان رجل شرِّيب، جمع قوماً من ندمائه، ودفع إلى غلام أربعة دراهم، وأمره أن يشتري بها شيئاً من الفواكه للمجلس، فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمَّار وهو يسأل لفقير شيئاً، ويقول: من دفع أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات.
قال: فدفع له الغلام الدراهم، فقال منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك به؟ فقال: لي سيد أريد أن أتخلص منه! فدعا لي منصور بذلك، وقال: ما الأخرى، فقال: أن يخلف الله، تعالى: عليَّ دراهمي.
فدعا لي بذلك. ثم قال: وما الأخرى: فقال: أن يتوب الله على سيدي فدعاقال: وما الأخرى؟ فقال: أن يغفر الله لي ولسيدي، ولك، وللقوم فدعا، منصور بذلك.
فرجع الغلام إلى سيده، فقال له: لم أبطأت؟ فقصَّ عليه القصة فقال له: وبم دعا؟ فقال: سالت لنفسي العتق فقال: اذهب، فأنت حر وما الثاني؟ فقال: أن يخلف الله عليَّ الدراهم، فقال: لك أربعة آلاف درهم. فقال: وما الثالث؟ فقال: أن يتوب الله عليك فقال: تبت إلى الله تعالى، فقال: وما الرابع؟فقال: أن يغفر الله تعالى لك ولي وللقوم وللذكر، فقال: هذا الواحد ليس إلي، فلما بات، رأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أنت فعلت ما كان إليك تراني لاأفعل ما إلي!! قد غفرت لك، وللغلام ولمنصور بن عمار، وللقوم الحاضرين.
وقيل: حج رباح القيسي حجات كثيرة، فقال يوماً - وقد وقف تحت الميزاب.
إلهي وهبت من حجاتي كذا وكذا للرسول صلى الله عليه وسلم وعشرة منها لأصحابه العشرة، وثنتين لوالدي، والباقي للمسلمين.
ولم يحبس منها شيئاً لنفسه: فسمع هاتفاً يقول: هوذا يتسخى علينا؛ لأغفرن لك. ولأبويك، ولمن شهد شهادة الحق.
وروي عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي أنه قال: رأيت جنازة يحملها ثلاثة من الرجال وامرأة، قال فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة، فصلينا عليها، ودفناها، فقلت للمرأة، من كان هذا منك؟ فقالت: ابني قلت: أو لم يكن لك جيران؟ قالت: نعم، ولكنهم سغروا أمره.
فقلت: وإيش كان هذا؟ فقالت: مخنثاً؟ قال: فرحمتها: وذهبت بها إلى منزلي، وأعطيتها دراهم، وحنطة، وثياباً.
ونمت تلك الليلة، فرأيت كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر، وعليه ثياب بيض فجعل يتشكر لي، فقلت من أنت؟ فقال: المخنث، الذي دفنتموني اليوم، رحمني ربي باحتقار الناس إياي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: مر أبو عمر البيكندي يوماً بسكة، فرأى قوماً أرادوا إخراج شاب من المحلة، لفساده، وامرأة تبكي، قيل إنها أمه، فرحمها أبو عمر فتشفع له إليهم وقال: هبوه مني هذه المرة، فإن عاد إلى فساده فشأنكم فوهبوه منه، فمضى أبوعمرو، فلما كان بعد أيام، اجتاز بتلك السكة، فسمع بكاء العجوز من وراء ذلك الباب، فقال في نفسه: لعل الشاب عاد إلى فساده، فنفي من المحلة.
فدق عليها الباب، وسألها عن حال الشاب؛ فخرجت العجوز وقالت له: إنه مات.
فسألها عن حاله، فقالت، لما قرب أجل، قال: لا تخبري الجيران بموتي، فلقد آذيتهم، وإنهم يشتمون في، ولا يحضرون جنازتي، وإذا دفنتني، فهذا خاتم لي مكتوب عليه " بسم الله " فادفنيه معي، فإذا فرغت من دفني فتشفعي لي إلى ربي عزَّ وجل.
قالت: ففعلت وصيته. فلما انصرفت عن رأس قبره، سمعت صوته يقول: انصرفي يا أماه؛ قدمت على رب كريم.
وقيل: أوحى الله، تعالى، إلى داود، عليه السلام: قل لهم: " إني لم أخلقهم لأربح عليهم، وإنما خلقتهم، ليربحوا علي " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت إبراهيم الأطروش يقول: كنا قعوداً ببغداد، مع معروف الكرخي؛ على الدجلة، إذ مر بنا قوم أحداث في زورق، يضربون بالدف ويشربون، ويلعبون، فقلنا لمروف: أما تراهم كيف يعصون الله تعالى؟ أدع الله عليهم: فرفع يده وقال: إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة.
فقالوا: إنما سألناك أن تدعو عليهم!! فقال: إذا فرحهم في الآخرة فقد تاب عليهم.
سمعت أبا الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد المزكي؛ قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الاديب، قال: حدثنا الفضل بن صدقة قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد، قال:

كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي، وكان بودني ووده، فمات معي، فكنت أشتهي أن أراه في المنام، فأقول له: ما فعل الله تعالى بك، فرأيته ليلة في المنام فقلت ما فعل الله تعالى بك؟ قال: غفر لي، إلا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى، خلطت علي في دار الدنيا.
فقلت: أي ربي، إتكلت على حديث حدثنيه أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك قلت، " إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار " فقال: قد عفوت عنك يا يحيى وصدق نبيي، إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا.
باب الحزن
قال الله تعالى: " وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا علي بن جيش قال: حدثنا أحمد بن عيسى قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت عطاء بن يسار قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من شيء يصيب العبد المؤمن، من وصب، أو نصب، أو حزن، أو ألم يهمه إلا كفر الله تعالى عنه من سيئاته " .
الحزن: حال يقبض القلب عن التفرق في أودية الغفلة.
والحزن من أوصاف أهل السلوك.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر مالا يقطعه من فقد حزنه سنين، وفي الخبر: " إن الله يحبُّ كل قلب حزين " .
وفي التوراة: " إذا أحب الله عبداً جعل في قلبه نائحة، وإذا بغض عبداً جعل في قلبه مزماراً " .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متواصل الأحزان دائم الفكر.
وقال بشر بن الحارث.
الحزن ملك، فإذا سكن في موضع لم يرض أن يساكنه أحد.
وقيل: القلب إذا لم يكن فيه حُزن خرب، كما أنَّ الدار إذا لم يكن فيها ساكن تخرب.
وقال أبو سعيد القرشي: بكاء الحزن يعمى، وبكاء الشوق يعشي البصر ولا يعمي: قال الله تعالى: " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " .
وقال ابن خفيف: الحزن: حصر النفس عن النهوض في الطرب.
وسمعت رابعة العدوية رجلاً يقول: واحزناه! فقالت: قل: واقلة حزناه، لو كنت محزوناً لم يتهيأ لكن أن تتنفس.
وقال سفيان بن عيينه: لو أن محزوناً بكى في أمَّة لرحم الله تعالى تلك الأمَّة ببكائه.
وكان داود الطائي الغالب عليه الحزن، وكان يقول بالليل: إلهي، همك عطل على الهموم، وحال بيني وبين الرقاد.
وكان يقول: " كيف يتسلى من الحزن من تتجدد عليه المصائب في كل وقت؟ " .
وقيل: الحزن: يمنع من الطعام، والخوف: يمنع من الذنوب.
وسئل بعضهم: بم يستدل على حزن الرجل؟ فقال: بكثرة أنينه.
وقال سري السقطي: وددت أن حزن كل الناس ألقي علي.
وتكلم الناس في الحزن، فكلهم قالوا: إنما يحمد حزن الآخرة، وأما حزن الدنيا فغير محمود، إلا أبا عثمان الحيري، فإنه قال: الحزن بكل وجه فضيلة، وزيادة للمؤمن، ما لم يكن بسبب معصية، لأنه إن لم يوجب تخصيصاً فإنه يوجب تمحيصاً.
وعن بعض المشايخ أنه كان إذا سافر واحد من أصحابه يقول له: إن رأيت محزوناً، فاقرئه مني السلام.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدقاق يقول: كان بعضهم يقول للمشس عند غروبها، هل طلعت اليوم على محزون؟ وكان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة.
وقال وكيع لما مات الفضيل، ذهب الحزن اليوم من الأرض.
قال بعض السلف، أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات لهم. الحزن.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت علي بن بكران يقول: سمعت محمد بن علي المروزي يقول، سمعت أحمد بن أبي روح يقول: سمعت أبي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كان السلف يقولون: إن على كل شيء زكاة وزكاة العقل طول الحزن.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الوراق يقول، سألت أبا عثمان الحيري يوماص عن الحزن فقال: الحزين لا يتفرغ إلى سؤال الحزن، فاجتهد في طلب الحزن، ثم سل.
؟باب الجوع وترك الشهوة قال الله تعالى: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " .
ثم قال في اخر الآية: " وبشر الصابرين " فبشرهم بجميل الثواب على الصبر على مقاساة الجوع.
وقال تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة " .

أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمج بن عبيد الصفَّار قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدثنا أبو هاشم صاحب الزعفراني قال: حدثنا محمد بن عبد الله، عن أنس بنمالك أنه حدثه قال: " جاءت فاطمة، رضي الله عنها، بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ " .
قالت: قرص خبزته، ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة.
فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام.
وفي بعض الروايات: جاءت فاطمة، رضي الله عنها، بقرص شعير.
ولهذا كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة، فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك.
سمعت محمد بن أحمد بن الصوفيَّ يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت ابن سالم يقول: أدب الجوع أن لا ينقص من عادته إلا مثل أذن السنور.
وقيل: كان سهل بن عبد الله لا يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يوماً؛ فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح.
وقال يحيى بن معاذ: لو أن لجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبيد الله قال: حدثنا علي بن الحسين الأرجاني قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الأصطخري بمكة - حرسها الله تعالى - قال: قال سهل بن عبد الله: لما خلق الله تعالى الدنيا جعل في الشبع: المعصية والجهل، وجعل في الجوع: العلم والحكمة.
وقال يحيى بن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرُمة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: دخل بعضهم على بعض الشيوخ، فرآه يبكي، فقال له: مالك تبكي؟ فقال: إني جائع.
فقال: ومثل يكبي من الجوع؟! فقال: أسكت، أما علمت أن مراده من جوعي أن أبكي.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: حدَّثنا محمد بن بشر قال: حدَّثنا الحسين بن منصور قال: حدَّثنا دود بن معاذ قال: سمعت مخلداً يقول: كان الحجاج بن فرافصة معنا بالشام، فمكث خمسين ليلة لا يشرب الماء، ولا يشبع من شيء يأكله.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الغزالي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء يقول: دخل أو تراب النخشي من بادية البصرة مكة - حرسها الله تعالى - فسألناه عن أكله، فقال: خرجت من البصرة.. وأكلت بنباج. ثم بذات عرق.. ومن ذات عرق إليكم فقطع البادية بأكلتين.
وسمعته يقول: حدثنا علي بن النحاس المصري قال: حدثنا هارون بن محمد الدقاق قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن الدرقش قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: نجوَّع صنف من الطير أربعين صباحاً، ثم طاروا في الهواء، فرجعوا بعد أيام، فكان يفوح منهم رائحة المسك.
وكان سهل بن عبد الله إذا جاع قوي، وإذا أكل شيئاً ضعف.
وقال أبو عثمان المغربي: الرَّباني لا يأكل في أربعين يوماً، والصمداني في ثمانين يوماً.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت محمد ابن العلوي يقول: سمعت علي بن إبراهيم القاضي بدمشق، يقول سمعت محمد بن علي بن خلف يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت علي بن الحسين الأرجاني يقول: سمعت أبا محمد الإصطخري يقول: سمعت سهل بن عبد الله، وقيل له: الرجل يأكل في اليوم أكلة، فقال أكل الصديقين. قال: فأكلتين. قال: أكل المؤمنين. قال: فثلاثة: قال: قل لأهلك يبنون لك معلفاً.
وسمعته يقول: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا أبو بكر السائح قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الجوع نور، والشبع نار، والشهوة مثل الحطب يتولد منه الاحتراق، ولا تطفأ ناره حتى يحرق صاحبه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج العلومي يقول: دخل يوماً رجل من الصوفية على شيخ، فقدم إليه طعاماً.. ثم قال له: منذ كم يوم لم تأكل؟.
فقال: منذ خمسة ايام. فقال جوعك جوع بخل!! عليك ثياب وأنت تجوع؟! ليس هذا جوع فقر!.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: قال أبو سليمان الداراني: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره.
وسمعته يقول سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد الرازي يقول: اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين، ثم ظهر له ذلك من موضع حلال، فلما مد يده إليه ليأكل أخذت شوكة من عظامه أصبعه، فذهبت في ذلك يده، فقال: يا رب، هذا لمن مد يده بشهوة لى حلال، فكيف بمن مد يده بشهوة إلى حرام؟ سمعت الأستاذ أبا بكر بن فورك يقول: شغل العيال نتيجة متابعة الشهوة بالحلال. فما ظنك بقضية شهوة الحرام؟.
سمعت رستم الشيرازي الصوفي يقول: كان أبو عبدالله بن خفيف في دعوة فمدَّ واحد من أصحابه يده إلى الطعام قبل الشيخ، هذا كان به من فأراد بعض أصحاب الشيخ أن ينكروا عليه لسوء أدبه، حيث مدَّ يده إلى الطعام قبل الشيخ، فوضع شيئاً بين يدي هذا الفقير، فعلم الفقير أنه أنكر عليه لسوء أدبه، فاعتقد أن لا يأكل خمسة عشر يوماً، عقوبة لنفسه، وتأديباً لها، وإظهاراً لتوبته من سوء أدبه وكان قد أصابته فاقة قبل ذلك.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: حدثنا أبو الفرج الورثاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك ابن دينار يقول: من غلب شهوات الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فالزموه السوق، وأمروه بالكسب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول، حاكياً عن بعض المشايخ أنه قال: ن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم، فلذلك افتضحوا.
وسمعته يقول: قيل لبعضهم: ألا تشتهي؟ فقال: أشتهي ولكن أحتمي.
قال: وقيل لبعضهم: ألا تشتهي؟ فقال: اشتهي أن لا أشتهي وهذا تم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: أخبرنا أحمد بن منصور قال: أخبرنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو الحسين الحسن بن عمرو بن الجهم قال: سمعت أبا نصر التمار، يقول: أتاتي بشر ليلة، فقلت: الحمد الله الذي جاء بك: جاءنا قطن من خراسان فغزلته البنت، وباعته، واشترت لنا لحماً، فتفطر عندنا.
فقال: لو أكلت عند أحد أكلت عندكم ثم قال: إني لأشتهي الباذنجان منذ سنين، ولم يتفق لي أكله!! فقلت: إن فيها الباذنجان من الحلال. فقال: حتى يصفو لي حب الباذنجان.
سمعت عبد الله بن باكويه الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أ؛مد الصغير يقول: أمرني أبو عبد الله بن خفيف أن أقدم إليه كل ليلة عشر حبات زبيب، لإفطاره، فليلة اشفقت عليه، فحملت إليه خمس عشرة حبة، فنظر إلي وقال: من أمرك بهذا؟ وأكل عشر حبات، وترك الباقي.
سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن الفرغاني يقول: سمعت أبا الحسين الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنعت نفسي من الشهوات، إلا مرة واحدة، تمنت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلتُ إلى قرية، فقام واحد وتعلق بي وقال: هذا كان مع اللصوص. فضربوني سبعين درة. ثم عرفني رجل منهم، فقال: هذا أبو تراب النخشبي!! فاعتذروا إلي، فحملني رجل إلى منزله، إكراماً لي، وشفقة علي.. وقدم لي خبزاً وبيضاَ، فقلت لنفسي: كلي بعد سبعين درة!

تعليقات

المشاركات الشائعة