مقامات الصوفية 4

باب الحرية
قال الله عز وجل: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
قال: إنما آثروا على أنفسهم لتجردهم عما خرجوا منه، وآثروا به.
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا ابن أبي قماش قال: حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال: حدثنا نعيم بن مورع بن توبة، عن إسماعيل المكي، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما يكفي أحدكم: ما قنعت به نفسه، قال: وإنما يصير إلى أربعة أذرع وشبر، وإنما يرجع الأمر إلى آخر " .
قال: الحرية: أن لايكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة صحته: سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء، فيتساوى عنده أخطار الأعراض.
قال حارثة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عزفت نفسي عن الدنيا؛ فاستوى عندي حجرها وذهبها.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من دخل الدنيا وهو عنها حر ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حُر.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا محمد المراغي يحكي عن الرقي، عن الدقاق: يقول: من كان في الدنيا حراً منها كان في الآخرة حراً منها.
واعلم أن حقيقة الحرية في كمال العبودية؛ فإذا صدقت لله تعالى عبوديته خلصت عن رق الأغيار حريته.

فأما من توهم أن العبد يسلم له أن يخلع وقتاً عذار العبودية، ويحيد بلحظه عن حد المر والنهي وهو مميز، في دار التكليف، فذلك انسلاخ من الدين.
قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " يعني: الأجل، وعليه أجمع المفسرون.
وأن الذي أشار إليه القوم من الحرية هو: أن لايكون العبد تحت رق شيء من المخلوقات لا من أعراض الدنيا، ولا من أعراض الآخرة؛ فرداً لفرد لم يسترقه عاجل دنيا، ولا حاصل هوى، ولا أجل مني، ولا سؤال، ولا تصد ولا أرب، ولاحظ.
وقيل للشبلي: ألم تعلم أنه تعالى رحمن؟ فقال: بلى ولكن منذ عرفت رحمته ما سألته أن يرحمني.
ومقام الحرية عزيز.
سمعت الشيخ أبا عليُّ، رحمه الله، يقول. كان أبو العباس السياري يقول: لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت:
أنمى على الزمان محالاً ... أن ترىُ مقلتي طلعةَ حُرّ
وأما أقاويل المشايخ في الحرية؛ فقال الحسين بن منصور: من أراد الحرية فليصل العبودية.
وسئل الجنيد عمن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة، فقال: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: إنك لا تصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية.
وقال بشر الحافي: ما أراد أن يذوق طعم الحرية، يستريح من العبودية فليطهر السريرة بينه وبين الله تعالى.
وقال الحسن بن منصور: إذا استوفة العبد مقامات العبودية كلها يصير حُراً من تعب العبودية، فيترسم بالعبودية بلا عناء ولا كلفة، وذلك ما قام الأنبياء والصديقين، يعني يصير محمولاً، لا يلحقه بقلبه مشقة وإن كان متحليا بها شرعاً، أنشدنا الشيخ أبو عبد الرحمن قال: أنشدنا أبو بكر الرازي قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه:
ما بقي في الإنس حر ... لا، ولا في الجن حرُّ
قد مضى حر الفريقين ... فحلو العيش مرُّ
واعلم أن معظم الحرية في خدمة الفقراء.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً.
وقال صلى الله عليه وسلم: " سيد القوم خادمهم " .
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت محمد بن إبراهيم بن الفضل يقول: سمعت محمد بن الرومي يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: أبناء الدنيا تخدمهم الإماء والعبيد، وأبناء الآخرة تخدمهم الأحرار والأبرار.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن عثمان بن يحيى يقول: سمعت علي بن محمد المصري يقول: سمعت يوسف بن موسى يقول: سمعت بن خبيق يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: إن الحر الكريم يخرج من الدنيا قبل أن يُخرج منها.
وقال إبراهيم بن أدهم: لا تصحب إلا حراً كريماً؛ يسمع ولا يتكلم.
باب الذكر
قال الله تعالى: " ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشر ببغداد، قال أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البرذعي قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدثنا هارون بن معروف قال: حدثنا أنس بن عياض قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي بحرية، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأربعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضبوا أعناقكم؟ قالوا: ما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله تعالى: أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر: عن الزهري، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقوم الساعة على أحد يقول: الله.. الله " .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا معاذ قال: حدثنا أبي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله.. الله " .

قال الأستاذ: والذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطريق، ولا يصل أحد إلى الله إلا بدوام الذكر.
والذكر على ضربين: ذكر اللسان، وذكر القلب. فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب. والتأثير لذكر القلب؛ فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه وقلبه، فهو الكامل في وصفه في حل سلوكه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الذكر منشور الولاية؛ فمن وُفق للذكر فقد أعطى المنشور، ومن سلب الذكر فقد عزل.
وقيل: إن الشبلي كان في ابتداء أمره ينزل كل يوم سرباً ويحمل مع نفسه حزمة من القضبان، فكان إذا دخل قلبه غفلة ضرب نفسه بتلك الخشب حتى يكسرها على نفسه، فربما كانت الحزمة تفني قبل أن يمسى، فكان يضرب بيده ورجليه على الحائط.
وقيل: ذكر الله بالقلب سيف المريدين، به يقاتلون أعداءهم، وبه يدفعون الآفات التي تقصدهم، وإن البلاء إذا إذا أظل العبد؛ فإذا فزع بقلبه إلى الله تعالى يجيد عنه في الحال كلُّ ما يكرهه.
وسئل الواسطي عن الذكر فقال: الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف،وشدة الحب له.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن الحسين يقول: سمعت أبا محمد البلاذري يقول: سمعت عبد الرحمن بن بكر يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: من ذكر الله تعالى ذكراً على الحقيقة نسي في جنب ذكره كلَّ شيء، وحفظ الله تعالى عليه كل شيء، وكان له عوضاً عن كل شيء.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت أحمد المسجدي يقول: سئل أبو عثمان؛ فقيل له: نحن نذكر الله تعالى، ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: أحمدو الله عالى، عن أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته.
وفي الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها. فقيل له: وما رياض الجنة؟ فقال: خلق الذكر " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن بشر ببغداد قال: حدثنا أبو علي بن صفوان قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: دثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا إسماعيل ابن عياش، عن عمر بن عبد الله: أن خالد بن عبد الله بن صفوان أخبره عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا أيها الناس؛ ارتعوا في رياض الجنة. قلنا يا رسول الله، ما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر؟ اغدوا، وروحوا، واذكروا، من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلةُ الله عنده؟ فإن الله سبحانه، ينزل العبد منه حيث أنزله عن نفسه.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمداً الفراء يقول: سمعت الشبلي يقول: أليس الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرني؟ ما الذي استفدتم من مجالسة الحق سبحانه؟ وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت الشبلي ينشد في مجلسه:
ذكرتك، لا أني نسيتك لمحةً ... وأيس ما في الذكر ذكرٌ لساني
وكدت بلا وجود أموت من اله ... وى وهام على القلب بالخفقان
فلما رآني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بغير تكلم ... ولاحظت معلوماً بغير عيان
ومن خصائص الذكر: أنه غير مؤقت، بل ما من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بذكر الله: إما فرضاً، وإما ندباً. والصلاة، وإن كانت أشرف العبادات، فقد لا تجوز في بعض الأوقات. والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات.
قال الله تعالى: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.. " .
سمعت الإمام أبا بكر بن فورك، رحمه الله، يقول: قيماً: بحق الذكر، وقعوداً: عن الدعوى فيه.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يسأل الأستاذ أبا علي الدقاق، فقال: الذكر أتم أم الفكر؟ فقال الأستاذ أبو علي: ما الذي يقول الشيخ فيه؟ قال الشيخ أبو عبد الرحمن: عندي الذكر أتم من الفكر؛ لأن الحق، سبحانه، يوصف بالذكر، ولا يوصف بالفكر، وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق. فاستحسنه الأستاذ أبو علي، رحمه الله.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت الكناني يقول: لولا أن ذكره فرض عليّ لما ذكرته إجلاله، مثلي يذكُرهّ!! ولم يغسل فمه بألف توبة منقبلة عن ذكره.
وسمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمهالله، ينشد لبعضهم:

ما إن ذكرتك إلا هم يزجرني ... قلبي وسري وروحي عند ذكراكا
حتى كأن رقيباً منك يهتف بي ... إياك، ويحك والتذكار إياكا
ومن خصائص الذكر: أنه جعل في مقابلته الذكر. قال الله تعالى: " فأذكروني أذكركم " .
وفي خبر: " أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول: أعطيت أمتك ما لم أعط أمة من الأمم، فقال: وما ذاك يا جبريل؟ فقال: قوله تعالى: " فاذكروني أذكركم " ؛ لم يقل هذا لأحد غير هذه الأمة " .
وقيل: إن الملك يستأمر الذاكر في قبض روحه.
وفي بعض الكتب: أن موسى، عليه السلام، قال يارب: أين تسكن؟ فأوحى الله تعالى إليه، في قلب عبدي المؤمن. ومعناه: سكون الذكر في القلب فإن الحق سبحانه وتعالى منزه عن كل سكون وحلول، وإنما هو: إثبات ذكر وتحصيل.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت فارساً يقول: سمعت الثوري يقول: سمعت ذا النون، وقد سألته عن الذكر فقال: هو غيبة الذاكر عن الذكر، ثم أنشأ يقول:
لا لأني أنساك أكثِرث ذكرا ... كَ، ولكن بذاك يجري لساني
وقال سهل بن عبد الله: ما من يوم إلا والجليل سبحانه ينادي: يا عبدي، ما أنصفتني؛ أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ وتذهب إلى غيري، وأذهب عنك البلايا وأنت معتكف الخطايا، يا بن آدم، ما تقول غداً إذا جئتني؟! وقال أبو سليمان الداراني: إن في الجنة قيعاناً، فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فيها، فربما يقف بعض الملائكة، فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: فَستر صاحبي.
وقال الحسن: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
وقال حامد الأسود. كنت مع إبراهيم الخواص في سفر، فجئنا إلى موضع فيه حيات كثيرة.. فوضع ركوته وجلس، فلما كان برد الليل وبرد الهواء خرجت الحيات، فصحت بالشيخ، فقال: اذكر الله.. فذكرت فرجعت، ثم عادت، فصحت به، فقال مثل ذلك. فلم أزل إلى الصباح في مثل تلك الحالة.. فلما أصبحنا قام، ومشى، ومشيت معه، فسقطت من وطائه حية عظيمة وقد تطوقت به. فقلت: ما أحسست بها؟ فقال: لا، منذ زمان ما بت ليلة أطيب من البارحة.
قال أبو عثمان: من لم يذق وحشة الغفلة لم يجد طعم أنس الذكر.
سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبدالرحمن بن عبد الله الذبياني يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: مكتوب في بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى: " إذا كان الغالب علي عبدي ذكري عشقي وعشقته " .
وبإسناده: أنه أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " بي فافرحوا، ويذكري فتنعموا " .
وقال الثوري: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف بالله انقطاعه عن الذكر.
وفي الإنجيل ذاكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، وارض بنصرتي لك؛ فإن نصرتي لك خير لك من نصرتك لنفسك.
وقيل لراهب: أأنت صائم؟ فقال: صائم بذكره، فإذا ذكرت غيره أفطرت.
وقيل: إذا تمكن الذكرُ من القلب، فن دنا منه الشيطان صرع، ما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فتجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسَّه الإنس.
وقال سهل: ما أعرف معصية أقبح من نسين الربّ تعالى.
وقيل الذكر الخفي لا يرفعه الملك، لأنه لا اطلاع له عليه، فهو سر بين العبد وبين الله عز وجل.
وقال بعضهم: وصف لي ذاكر في أجمه، فأتيته، فبينما هو جالس إذا سبع عظيم ضربه ضربة، واستلب منه قطعة، فغشي عليه وعلي، فلما أفاق، قلت: ما هذا؟ فقال: قيض الله هذا السبع عليَّ، فكلما دخلتني فترة عضني عضة، كما رأيت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجريري يقول: كان من بين أصحابنا رجل يكثر أن يقول: الله.. الله.. فوقع يوماً على رأسه جذع فانشج رأسه وسقط الدم، فاكتُتب على الأرض: الله.. الله.
باب الفتوة
قال الله تعالى: " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " .
قال الأستاذ: أصل الفتوة أن يكون العبد ساعياً أبداً في أمر غيره.
قال صلى الله عليه وسلم: " لايزال الله تعالى في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه المسلم " .

أخبرنا به علي بن أحمدبن عبدان، قال: أخبرنا به أحمد بن عبيد قال: حدثنا به إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا به يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدثنا به ابن أبي حازم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عبد الرحمن بن حومز الأعرج، عن أبي هريرة، عنزيد بن ثابت رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الله تعالى في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه المسلم " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: هذا الخُلق، لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فن كل أحد في القيامة يقول: نفسي.. نفسي، وهو صلى الله عليه وسلم، يقول: أمَّتي.. أمتي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا جعفر الفرغاني يقول: سمت الجنيد يقول: الفتوة بالشام، واللسان بالعراق، والصدق بخراسان.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر ابن منصور الصائغ يقول: سمعت محمد بن مردويه الصائغ يقول: سمعت الفضيل يقول: الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوان.
وقيل: الفتوة: أن لا ترى لنفسك فضلاً عن غيرك.
وقال أبو بكر الوراق: الفتى من لا خصم له.
وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة: أن تكون خصماً لرِّبك على نفسك ويقال: الفتى: من لا يكون خصماً لأحد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: سُمي أصحاب الكهف فتية؛ لأنهم آمنوا بربهم بلا واسطة.
وقيل: الفتى: من كسر الصنم: قال الله تعالى: " سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " وقال تعالى: " فجعلهم جذاذاً " وصنم كل إنسان نفسه؛ فمن خالف هواه فهو فتى علي الحقيقة.
وقال الحارث المحاسبي: الفتوة: أن تنصِفَ ولا تنتصف.
وقال عمر بن عثمان المكيِّ: الفتوة: حسن الخلق.
وسئل الجنيد عن الفتوة، فقال: أن لا تنافر فقيراً، ولا تعارض غنياً.
وقال النصبراباذي: المروءة شعبة من الفتوة، وهو الإعراض عن الكونين، والأنفة منها.
وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة أن يسوي عندك المقيم والطارىء.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت علي بن عمر الحافظ يقول: سمعت أبا سهل بن زياد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سئل أبي: ما الفتوة؟ فقال: تركُ ما تهوى لما تخشى.
وقيل لبعضهم: مال الفتوة؟ فقال: أن لا يُميزّ بين أن يأكل عنده ولي أو كافر.
سمعت بعض العلماء يقول: استضاف مجوسي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: بشرط أن تًسلم، فمر المجوسي، فأوحى الله تعالى إليه: منذ خمسين سنة نطعمه علي كفره، فلو ناولته لقمة من غير أن تطالبه بتغيير دينه؟! فمضى إبراهيم عليه السلام، على أثره، حتى أدركه.. واعتذر إليه، فسأله عن السبب، فذكر له ذلك؛ فأسلم المجوسي.
وقال الجنيد: الفتوة: كفّ الأذى، وبذل الندى.
وقال سهل بن عبد الله: الفتوة: اتباع السنَّة.
وقيل: الفتوة: الوفاء والحفاظ.
وقيل: الفتوة: فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها.
وقيل: الفتوة: أن لاتهرب إذا أقبل السائل.
وقيل: أن لا تحتجب من القاصدين.
وقيل: أن لا تدخر ولا تعتذر.
وقيل: إظهار النعمة، وإسرار المحنة.
وقيل: أن تدعو عشرة أنفس فلا تتغير إن جاء تسعة أو أحد عشر.
وقيل: الفتوة: ترك التمييز.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: قال أحمد بن خضرويه لامرأته أم عليّ: أريد أن أتخذ دعوة أدعو فيها عياراً شاطراً كان في بلدهم رأس الفتيان.
فقالت: امرأته: إنك لا تهتدي إلى دعوة الفتيان. فقال: لابد.
فقلت: إن فعلت فاذبح الأغنام والبقر والحُمُر، وألقها من باب دار الرجل إلى باب دارك.
فقال: أما الأغنام والبقر فأعلمُ. فما بال الحُمُر؟ فقالت: تدعو فتى إلى دارك، فلا أقل من أن يكون لكلاب المحلة خير.
وقيل: اتخذ بعضهم دعوة، وفيهم شيخ شيرازي، فلما أكلوا وقع عليهم النوم في حال السماع.
فقال الشيخ الشيرازي لصاحب الدعوة: ما السبب في نومنا؟ فقال: لا أدري!! اجتهدت في جميع ما أطعمتكم إلا الباذنجان، فلم أسأل عليه.

فلما أصبحوا سألوا بائع الباذنجان، فقال: لم يكن لي شيء، فسرقت الباذنجان من الموضع الفلاني وبعته، فحملوه إلى صاحب الأرض ليجعله في حل، فقال الرجل: تسألون مني ألف باذنجانة؟ قد وهبته تلك الأرض ووهبته ثورين وحماراً، وآلة الحرث؛ لئلا يعود إلى مثل ما فعل.
وقيل: تزوج رجل بامرأة.. فقبل الدخول ظهر بالمرأة الجدري، فقال الرجل: اشتكت عيني، ثم قال: عميت، فزفت إليه المرأة.. ثم ماتت بعد عشرين سنة.. ففتح الرجل عينيه، فقيل له في ذلك فقال: لم أعم، ولكن تعاميت حذار أ، تحزن، فقيل له: سبقت الفتيان.
وقال ذو النون المصري: من أراد الظرف فعليه سقاة الماء ببغداد.
فقيل له: كيف هو؟ فقال: لما حُملت إلى الخلفية، فيما نُسب لى من الزندقة، رأيت سقاء عليه عمامة، وهو مترد بمنديل مصري، وبيده كيزان خزف رقاق، فقلت: هذا ساقي السلطان، فقالوا: لا، هذا ساقي العامة.
فأخذت الكوز وشربت. وقلت لمن معي: أعطه ديناراً. فلم يأخذه، وقال: أنت أسير، وليس من الفتوة أن آخذ مكن شيئاً.
وقيل: ليس من الفتوة أن تربح علي صديقك. قاله بعض أصدقائنا، رحمه الله تعالى.
وكان فتى يسمى أحمد بن سهل التاجر، وقد اشتريت منه خرقة بياض فأذ الثمن رأس ماله فقلت له: ألا تأخذ ربحاً؟ فقال: أما الثمن فآخذه، ولا أ؛ملك مِنَّةً؛ لأنه ليس له من الخطر ما أتحلق به معك، ولكن لا أخذ الربح؛ إذ ليس من الفتوة أن تربح علي صديقك.
وقيل: خرج إنسان يدعى الفتوة من نيسابور لى نسا فاستضافه رجل، ومعه جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم، فانقبض النيسابوري عن غسل اليد، وقال: ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال!! قال واحد منهم: أنا سنين أدخل هذه الدار لم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أم رجلاً.
سمعت منصوراً المغربي يقول: اراد واحد أن يمتحن نوحاً النيسابوري العيار.. فباع عنه جارية في زي غلام، وشرط أنه غلام، وكانت وضيئة الوجه، فاشتراها نوح علي أنها غلام،ولبثت عنده شهوراً كثيرة، فقيل الجارية: هل علم أنك جارية؟ فقالت: لا، إنه ما مسني، وتوهم أني غلام.
وقيل: إن بعض الشطار طلب منه تسليم غلام كان يخدمه إلى السلطان، فأبى. فضربه ألف سوط، فلم يُسَلم، فاتفق أ،ه احتلم تلك الليلة، وكان برداً شديداً، فلما أصبح اغتسل بالماء البارد، فقيل له: خاطرت بروحك، فقال: استحييت من الله تعالى أن أصبر على ضرب ألف سوط لأجل مخلوق، ولا أصبر على مقاساة يرد الاغتسال لأجله.
وقيل: قدم جماعة من الفتيان لزيارة واحد يدَّعي الفتوة، فقال الرجل: يا غلام قدم السفرة. فلم يقدم. فقال له الرجل ذلك ثانياً وثالثاً.. فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا!! فقال الرجل: لِمَ أبطأت يا سفر؟ فقال الغلام كان عليها نملٌ، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة إلقاء النم من السفرة، فلبثت حتى دب النمل. فقالوا له: دققت يا غلام، مثلك مَن يخدم الفتيان.
وقيل: إن رجلاً نام بالمدينة من الحاجّ. فتوهم أن هميانة سرق، فخرج، فرأى جعفراً الصادق.. فتعلق به، وقال له: أنت أخذت همياني؟ فقال له: ماذا كان فيه؟ فقال: ألف دينار.
فأدخله داره.. ووزن له ألف دينار، فرجع إلى منزله، ودخل بيته، فرأى هميانة في بيته وقد كان توهم أنه سرق؛ فخرج إلى جعفر معتذراً، وردّ عليه الدنانير، فأبى أن يقبلها، وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده.
فقال الرجل: من هذا؟! فقيل: جعفر الصادق.
وقيل: سأل شقيق البلخيّ جعفر بن محمد عن الفتوة، فقال: ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا، وإن منعنا صبرنا.
فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل!! فقال شقيق: يا إبن رسول الله، ما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: دعانا الشيخ أبو العباس بن مسروق ليلة إلى بيته، فاستقبلنا صديق لنا، فقلنا له: ارجع معنا، فنحن في ضيافة الشيخ، فقال: إنه لم يدعني!! فقلنا: نحن نستثني. كما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها.

فرددناه، فلما بلغ باب الشيخ أخبرناه بما قال، وقلنا، فقال: جعلت موضعي من قلبك أن تجيء إلى منزلي من غير دعوة، على كذا وكذا إن مشيت إلى الموضع الذي تقعد فيه منه إلا على خدي، وألح عليه. ووضع خده على الأرض، وحمل الرجل، فوضع قدمه على خده من غير ن يوجعه، وسحب الشيخ وجهه على الأرض إلى أن بلغ موضع جلوسه.
وأعلم أن من الفتوة الستر على عيوب الأصدقاء، لاسيما إذا كان لهم فيه شماتة الأعداء.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول للنصراباذي كثيراً: إن علياً القوال يشرب بالليل ويحضر مجلسك بالنهار، وكان لا يسمع فيه ما يقال، فانفق أنه كان يمشي يوماً ومعه واحد ممن يذكر علياً بذلك عنده فوجد علياً مطروحاً في موضع، وقدظهر عليه أثر السكر، وصار بحيث يغسل فمه، فقال الرجل: إلى كم نقول فيه للشيخ ولا يسمع؟! هذا عليُّ على الوصف الذي نقول. فنظر إليه النصراباذي وقال للعذول: احمله في رقبتك، وانقله إلى منزله. فلم يجد بدا من طاعته فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا عليَّ الفارسي يقول: سمعت المرتعش يقول: دخلنا مع أبي حفص على مريض نعوده، ونحن جماعة، فقال للمريض: أتحب أن تبرأ؟ فقال: نعم فقال لأصحابه: تحملوا عنه.. فقام العليل.. وخر معنا. وأصبحنا كلنا أصحاب فراشُ نعاد.
باب الفراسة
قال الله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " . قيل: للمتفرصين.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين الرازي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن السكن قال: حدثنا موسى بن داود قال: حدثنا محمد بن كثير الكوفي قال: حدثنا عمرو بن قيس: عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله عز وجل " .
والفراس: خاطر على القلب فينفي ما يضاده. وله على القلب حُكم اشتقاقاً من: فريسة السبع، وليس في مقابلة الفراسة مجوزات للنفس.
وهي علي حسب قوة الإيمان: فكل من كان أقوى إيماناً كان أد فراسة.
وقال أبو سعيد الخراز: من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق، وتكون مواد علمه من الحق بلا سهو ولا غفلة، بل حكم حق جرى على لسان عبد.
وقوله: " نظر بنور الحق " يعني: بنور خصه به الحق سبحانه.
وقال الواسطي: إن الفراسة: سواطع أنوار لمعت في القلوب، وتمكين معرفة حملت السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب، حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق، سبحانه، إياها؛ فيتكلم على ضمير الخلق.
ويحكى عن أبي الحسن الديلمي أنه قال: دخلت أنطاكية لأجل أسود قيل لي: إنه يتكلم على الأسرار فأقمت فيها إلى أن خرج من جبل لِكام ومعه شيء من المباح يبيعه، وكنت جائعاً منذ يومين لم آكل شيئاً فقلت له: بكم هذا؟ وأوهمته أني أشتري ما بين يديه فقال: اقعد ثمَّ؛ حتى إذا بعناه نعطيك ما تشتري به شيئاً.. فتركته وسرت إلى غيره؛ أوهمه أني أساومه. ثم رجعت إليه، وقلت له: إن كنتَ تبيع هذا فقل لي بكم؟ فقال: إنما جعت يومين، اقعد ثم، حتى إذا بعناه نعطيك ما تشتري به شيئاً.. فقعدت.. فلما باعه أعطاني شيئاً ومشى، فتبعته.. فالتفت إليَّ وقال لي: إذا عرضت لك حاجة، فأنزلها بالله تعالى، إلا أن يكون لنفسك فيها حظ فتحجب عن حاجتك.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول. سمعت الكتاني يقول: الفراسة: مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب، وهو من مقامات الإيمان.
وقيل: كان الشافعي، ومحمد بن الحسن، رحمهما الله تعالى، في المسجد الحرام فدخل رجل، فقال محمد بن الحسن: أتفرّس أنه نجار، وقال الشافعي: أتفرس أنه حداد، فسألاه، فقال: كنت قبل هذا حداداً، والساعة أنجرَّ.
وقال أبو سعيد الخراز: المستنبط: من يلاحظ الغيب أبداً، ولا يغيب عنه، ولا يخفى عليه شيء، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " .
والمتوسم: هو الذي يعرف الوسم، وهو العارف بما في سويداء القلوب بالاستدلال والعلامات، قال الله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " . أي للعارفين بالعلامات التي يبديها على الفريقين من أوليائه وأعدائه.

وللتفرس: ينظر بنور الله تعالى، وذلك: سواطع أنوار لمعت في قلبه فأدرك بها المعاني، وهو من خواص الإيمان، والذين هم أكبر منه حظاً الربانيون الحق نظراً وخلقاً، وهم فارغون عن الإخبار عن الخلق، والنظر إليهم، والاشتغال بهم.
وقيل: كان أبو القاسم المنادي مريضاً، وكان كبير الشأن، من مشايخ نيسابور فعاده أبو الحسن البوشنجي، والحسن الحداد، واشتريا بنصف درهم تفاحاً في الطريق نسيئة، وحملاه إليه، فلما قعدا قال أبو القاسم: ما هذه الظلمة؟ فخرا. وقالا: ماذا فعلنا؟. وتفكرا. فقالا: لعلنا لم نؤد ثمن التفاح، فأعطياه الثمن، وعادا إليه، فلما وقع بصره عليهما قال: هذا عجب، أيمكن الإنسان أن يخرج من الظلمة بهذه السرعة؟! أخبراني عن شأنكما.. فذكر له هذه القصة، فقال: نعم، كان يعتمد كل واحد منكما على صاحبه في إعطاء الثمن، والرجل يستحي منكما في التقاضي، فكان تبقى التبعة، وأنا السبب، إنما رأيتُ ذلك فيكما وكان أبو القاسم المنادي هذا يدخل السوق كل يوم يُنادي، فإذا وقع بيده ما فيه كفايته من دانق إلى نصف درهم خرج منه. وعاد إلى رأس وقته، ومراعاة قلبه.
وقال الحسين بن منصور: الحق إذا استولى على سر ملكه الأسرار؛ فيعاينها، ويخبر عنها.
وسئل بعضهم عن الفراسة، فقال: أرواح تتقلب في الملكوت، فتشرف على معاني الغيوب، فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة، لا نطق ظن وحسبان.
وقيل: كان بين زكريا الشختني وبين امرأة سبب قيل توبته، فكان يوماً واقفاً على رأس أبي عثمان الحيري، بعدما صار من خواص تلاميذه، فتفكر في شأنها، فرفع أبو عثمان رأسه إليه وقال: أما تستحي؟! قال الأستاذ الإمام، رحمه الله: كنت في ابتداء وصلتي بالأستاذ أبي علي الدقاق، رضي الله عنه، عقد لي المجلس في مسجو المطرز فاستأذنته وقتاً للخروج إلى نسا فأذن لي فيه، فسكنت أمشي معه يوماً في طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عني في مجالسي أيام غيبتي. فالتفت إليَّ، وقال لي: أنوبُ عنك أيام غيبتك في عقد المجالس.
فمشيت قليلاً.. فخطر ببالي أنه عليل يشق عليه أن ينوب عني في الأسبوع يومين، فليته يقتصر علي يوم واحد في الأسبوع؛ فالتفت إليَّ وقال: إن لم يمكني في الأسبوع يومان أنوب عنك في الأسبوع مرة واحدة، فمشيت معه قليلاً؛ فخطر ببالي شيء ثالث، فالتفت إليَّ وصرح بالإخبار عنه على القطع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: كان شاه الكرماني حاد الفراسة، لا يُخطىء، ويقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وتعود أكل الحلال؛ لم تخطىء فراسته.
وسئل أبو الحسن النوري: من أين تولدت فراسة المتفرسين؟ فقال: من قوله تعالى: " ونفخت فيه من روحي " ، فمن كان حظه من ذلك النور أتم، كانت مشاهدته أحكم، وحكمه بالفراسة أصدق، ألا ترى كيف أوجب نفخ الروح فيه السجود له بقوله تعالى: " فأذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
وهذا الكلام من أبي الحسن النوري فيه أدنى غموض وإيهام؛ بذكر نفخ الروح، لتصويب من يقول بقدم الأرواح، ولا كما يلوح لقلوب المستضعفين؛ فإن الذي يصح عليه النفخ والاتصال والانفصال فهو قابل للتأثير والتغيير، وذلك من سمات الحدوث، وأن الله، سبحانه وتعالى، خص المؤمنين ببصائر وأنوار بها يتفرسون، وهي في الحقيقة معارف، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه ينظر بنور الله " أي بعلم وبصيرة يخصه الله تعالى به ويفرده به من دون أشكاله. وتسمية العلوم والبصائر أنواراً: غير مستبدع، ولا يبعد وصف ذلك بالنفخ، والمراد منه: الخلق.
وقال الحسين بن منصور: المتفرس هو المصيب بأول مرماه إلى مقصده، ولا يعرج على تأويل وظن وحسبان.
وقيل: فراسة المريدين تكون ظناً يوجب تحقيقاً، وفراسة العارفين تحقيق يوجب حقيقة.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جلستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق؛ فإنهم جواسيس القلوب؛ يدخلون في قلوبكم ويخرجون منها من حيث لا تحسون.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الخلدي يقول: سمعت أبا جعفر الحداد يقول: الفراسة أول خاطر بلا معارض؛ فإن عارض معارضٌ من جنسه فهو خاطر وحديث نفس.

ويُحكى عن أبي عبد الله الرازي نزيل نيسابور قال: كساني ابن الأنباري صوفاً، ورأيت على رأس الشبلي قلنسوة ظريفة تليق بذلك الصوف، فتمنيت في نفسي أن يكونا جميعاً لي.. فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إلي.. فتبعته، وكان عادته إذا أراد أن أتبعه يلتفت إليَّ، فلما دخل داره دخلت؛ فقال لي: انزع الصوف. فنزعته.. فلفه وطرح القلنسوة عليه، ودعا بنار فأحرقهما.
وقال أبو حفص النيسابوري: ليس لأحد أن يدعي الفراسة، ولكن يتقي الفراسة من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا فراسة المؤمن " ولم يقل: تفرسوا فكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة؟! وقال أبو العباس بن مسروق: دخلت علي شيخ من اصحابنا أعوده.. فوجدته على حال رثة، فقلت في نفسي: من أين يرتزق هذا الشيخ؟ فقال لي: يا ابا العباس: دع عنك هذه الخواطر الدنيئة؛ فإن لله ألطافاً خفية.
ويحكى عن الزبيدي قال: كنت في مسجد ببغداد مع جماعة من الفقراء، فلم يفتح علينا بشيء أياماً فأتيت الخواص لأسأله شيئاً، فلما وقع بصره عليَّ قال: الحاجة التي جئت لأجلها يعلمها الله أم لا؟ فقلت: بلى؛ فقال: اسكت ولا تبدها لمخلوق، فرجعت ولم ألبث إلا قليلاً حتى فتح علينا بما فوق الكفاية. وقيل: كان سهل بن عبد الله يوماص في الجامع، فوقع حمام في المسجد من شدة ما لحقه من الحر والمشقة، فقال سهل: إن شاهاً الكرماني مات الساعة، إن شاء الله تعالى، فكتبوا ذلك.. فكان كما قال.
وقيل: خرج أبو عبد الله التروغندي - وكان كبير الوقت - إلى طوس فلما بلغ خر وقال لصاحبه: اشتر الخبز. فاشترى ما يكفيهما، فقال: اشتر أكثر من ذلك. فاشترى صاحبه ما يكفي عشرة أنفس تعمداً، فكأنه لم يجعل لقول ذلك الشيخ تحقيقاً قال: فلما صعدنا إلى الجبل إذا بجماعة قيدتهم اللصوص، لم يأكلوا منذ مدة، فسألونا الطعام، فقال: قدم إليهم السفرة.
وقال الأستاذ الإمام: كُنت بين يدي الأستاذ الإمام أبي علي رحمه الله يوماً فجرى حديث الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله، وأنه يقوم في السماع موافقة للفقراء، فقال الأستاذ أبو علي: مثله في حاله؛ لعل السكون أولى به. ثم قال: في ذلك المجلس أمض إليه فستجده وهو قاعد في بيت كتبه، وعلى وجه الكتُب مجلدة حمراء مربعة صغيرة فيها أشعار الحسين بن منصور. فاحمل تلك المجلدة ولا تقل له شيئاً وجئني بها. وكان وقت الهاجرة.. فدخلت عليه فإذا هو في بيت كتُبه والمجلدة موضوعة بحيث ذكرَ، فلما قعدت أخذ الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في الحديث وقال:كان بعض الناس ينكر علي أحد من العلماء حركته في السماع، فرؤى ذلك الإنسان يوماً خالياً في بيت وهو يدور كالمتواجد، فسئل عن حاله فقال: كانت مسألة مشكلة عليّ، فتبين لي معناها، فلم أتمالك من السرور حتى قمت أدور، فقيل له: مثل هذا يكون حالهم.
فلما رأيت ما أمرني به الأستاذ أبو علي، وما وصف لي على الوجه الذي قال وجرى على لسان الشيخ أبي عبد الرحمن ما كان ق ذكره به، تحيرت، وقلت: كيف أفعل بينهما؟ ثم فكرت في نفسي وقلت: لاوجه إلا الصدق، فقلت: إن الأستاذ أبا علي وصف لي هذه المجلدة وقال لي احملها من غير أن تستأذن الشيخ، وأنا هو ذا أخافك، وليس يمكنني مخالفته، فأي شيء تأمرني به؟.. فأخرج مسدساً من كلام الحسين، وفيه تصنيف له سماه: كتاب الصهيور في نقض الدهور وقال: أحمل هذا إليه، وقل له: إني أطالع تلك المجدلة وأنقل منها أبياتاً إلى مصنفاتي.. فخرجت.
ويحكى عن الحسن الحداد، رحمه الله، أنه قال: كنت عند أبي القاسم المنادي وعنده جماعة من الفقراء، فقال لي: أخرج وأتهم بشيء، فسررت: حيث أذن لي في التكلف للفقراء وأن آتيهم بشيء بعد ما علم فقري، قال: فأخذت مِكتلاً وخرجت.. فلماأتيت سكة سيار رأيت شيخاً بهياً فسلمت عليه وقلت: جماعة من الفقراء في موضع، فهل لك أن تتخلق معهم بشيء؟ فأمر.. حتى إذا أخرج إلى شيئاً من الخبز واللحم والعنب، فلما بلغت الباب نادى أبو القاسم المنادي من وراء الباب: رده إلى الموضع إلي أخذته منه. فرجعت واعتذرت إلى الشيخ، وقلت: لم أجدهم.. وعرضت بأنهم تفرقوا، ورددت السبب عليه ثم جئت إلى السوق ففتح عليَّ بشيء، فحملته، فقال: ادخل.

فقصصت عليه القصة، فقال: نعم، ذاك ابن سيار رجل سلطاني، إذا جئت للفقراء بشيء فأتهم بمثل هذا، لا بمثل ذاك.
قال أبو الحسين القرافي: زرت أبا الخير التناتي، فلما ودعته.. خرج معي إلى باب المسجد، وقال لي: يا أبا الحسين، أنا أعلم أنك لا تحمل معك معلوماً، ولكن أحمل معك هاتين التفاحتين.
فأخذتهما.. ووضعتهما في جيبي، وسرت، فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أيام، فاخرجت واحدة منهما، وأكلتها، ثم أردت أن أخرج الثانية، فإذا هما جميعاً في جيبي، فكنت آكل منهما ويعودان.. إلى باب الموصل، فقلت في نفسي. إنهما يفسدان على حال توكلي؛ إذ صارتا معلوماً لي!! فأخرجتهما من جيبي بمرة. فنظرت فإذا فقير ملفوف في عباءة يقول: أشتهى تفاحة!! فناولتهما إياه.. فلما عبرتُ وقع لي: أن الشيخ إنما بعثهما إليه. وكنت في رُفقه في الطريق.. فأنصرفت إلى الفقير، فلم أجده.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا عمر بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد.. وكان يتكلم علي خواطر الناس، فذكر للجنيد، فقال له الجنيد: ما هذا الذي ذكر عنك؟ فقال الجنيد: اعتقد شيئاً. فقال: اعتقدت!! فقال الشاب: اعتقدت كذا وكذا! فقال الجنيد: لا. فقال: اعتقد ثانياً، ففعل، فقال: اعتقدت كذا وكذا. فقال: لا فقال: ثالثاً. فقال: مثله. فقال الشاب هذا عجب، أنت صدوق، وأنا أعرف قلبي؟! فقال الجنيد: صدقت في الأول والثاني والثالث، ولكني أردت أن أمتحنك هل يتغير قلبك!! وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: أعتل ابن الرقي، فحل إليه دواء في قدح، فأخذه، ثم قال: وقع اليوم في المملكة حدث: لا آكل ولا أشرب حتى أعلم ما هور؟ فورد الخبر بعده بأيام: أن القرمطي دخل مكة ذلك اليوم، وقتل بها تلك للقتلة العظيمة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: ذكر الكاتب هذه الحكاية، فقال: هذا عجبّ!! فقلت له: هذا ليس بعدب، فقال لي أبو علي بن الكاتب: ما خبر مكة اليوم؟ فقلت: هو ذا: تحاربَ الطلحيون وبنو الحسن، ومقدم الطلحيين أسودُ عليه عمامة حمراء، وعلى مكة اليوم غيم على مقدار الحرم، فكتب أبو علي إلى مكة، فكان كما ذكرت له.
ويروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكنت رأيت في الطريق امرأة تأملت محاسنها، فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل على أحدكم وآثار ظاهرة عل عينيه، فقلت له: أوحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: لا، ولكن تبصرة، وبرهان، وفراسة صادقة.
وقال أبو سعيد الخراز: دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان يسأل الناس شيئاً، فقلت في نفسي: مثل هذا كل على الناس!! فنظر إليّ وقال: " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " .
قال: فاستغفرت في سري، فناداني، وقال: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " .
وحكى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت ببغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل علينا شاب ظريف، طيب الرائحة، حسن الحرمة، حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي!! فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت، وخرج الشاب، ثم رجع إليهم وقال: ماذا قال الشيخ فيَّ؟! فاحتشموه. فألح عليهم، فقالوا: قال إنك يهودي. قال: فجاءني وأكب على يدي، وأسلم. فقيل له: ما السبب؟ قال: نجد في كتبنا أن الصديق لا يخطىء فراسته. فقلت: أمتحن المسلمين؛ فتأملتهم، وقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة: لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فليست عليكم.. فلما اطلع هذا الشيخ عليّ، وتفرس فيّ علمت أنه صديق، وصار الشاب من كبار الصوفية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله، يقول سمعت عبد الله بن إبراهيم بن العلاء، يقول: سمعت محمد بن داود يقول: كنا عند الجريري فقال: هل فيكم من إذا أراد الحق، سبحانه، أن يحدث في المملكة حدثاً أعلمه قبل أن يُبديه؟ قلنا: لا. فقال: أبكوا على قلوب لم تجد من الله تعالى شيئاً.

وقال أبو موسى الديلمي: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل، فقال: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى بلغ الرسغ لا تخاف مع الله تعال شيئاً غيره. قال: فخرجت إلى أبي يزيد لأسأله عن التوكل، فدققت عليه الباب، فقال: أليس لك في قول عبد الرحمن كفاية؟! فقلت: افتح الباب. فقال: مازرتني، أتاك الجواب من وراء الباب. ولم يفتح لي الباب؛ فمضيت، ولبثت سنة، ثم قصدته، فقال: مرحباً، جئتني زائراً. فكنت عنده شهراً، فكان لا يخطر بقلبي شيء إلا حدثني عنه. فعند وداعه لي قلت: أفدني فائدة. فقال: حدثتني أمي: أنها كانت حاملاً بي، فكانت إذا قدم لها طعام من حلال امتدت يدها إليه، وإذا كان فيه شبهة انقبضت يدها عنه.
وقال إبراهيم الخواص: دخلت البادية، فأصابتني شدة، فلما بلغت مكة، داخلني شيء من الإعجاب، فنادتني عجوز: يا إبراهيم، كنت معك في البادية فلم أكلمك؛ لأني لم أرد أن أشغل سرك أخرج عنك هذا الوسواس!! وحكى أن الفرغاني كان يخرج كل سنة إلى الحج، ويمر بنيسابور، ولا يدخل علي أبي عثمانالحيري قال: فدخلت عليه مرة، وسلمت، فلم يرد علي السلام، فقلت في نفسي: مُسلم يدخل عليه ويسلم عليه فلا يرد سلامه؟ فقال أبو عثمان: مثل هذا يحج وَيَدع أمه لا يبرها؟! قال: فرجعت إلى فرغانة ولزمتها حتى ماتت. ثم قصدت أبا عثمان، فلما دخلت استقبلنين وأجلسني، ثم إن الفرغاني لازمه وسأله سياسة دابته، فولا ه ذلك حتى مات أبو عثمان.
وقال خير النساج: كنت جالساً في بيتي، فوقع لي: أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي، فوقع لي ثانياً، وثالثاً، فخرجت فإذا بالجنيد، فقال: لِمَ لم تخرج مع الخاطر الأول؟! وقال محمد بن الحسين البسطامي: دخلت على أبي عثمان المغربي، فقلت في نفسي: لعله يتشهى عليَّ شيئاً؟ فقال أبو عثمان: لا يكفي الناس أن آخذ منهم حتى يريدوا مسألتي إياهم.
وقال بعض الفقراء: كنت ببغداد، فوقع لي: أن المرتعش يأتيني بخمسة عشر درهماً؛ لأشتري بها الركوة، والحبل، والنعل، وأدخل البادية: قال: فدق عليّّ الباب، ففتحت، فإذا أنا بالمرتعش معه خريقة، فقال: خذها. فقلت: يا سيدي، لا أريدها!! فقال: فلم تؤذينا؟! كم أردتَ؟ فقلت: خمسة عشر درهما. فقال: هي همسة عشر درهماً.
وقال بعضهم في قوله تعالى: " أو من كان ميتاً فأحببناه " أي: ميت الذهن فأحياه الله تعالى بنور الفراسة، وجعل له نور التجلي والمشاهدة، لايكون كمن يمشي بين أهل الغفلة غافلاً.
وقيل: إذا صحت الفراسة أرتقى صاحبها إلى المشاهدة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمدبن الحسين البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: قدم علينا شيخ، فكان يتكلم علينا في هذا الشأن بكلام حسن، وكان عذب اللسان، جيد الخاطر، فقال لنا في بعض كلامه: كل ما وقع لكم في خاطركم فقولوه لي. فوقع في قلبي أنه يهودي، وكان الخاطر يقوى ولا يزال. فذكرت ذلك للجريري، فكبر عليه ذلك، فقلت: لا بد لي أن أخبر الرجل بذلك؛ فقلت له: تقول لنا ما وقع لكم في خاطركم فقولوه لي؛ إنه يقع: إنك يهودي!! فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وقال: قد مارست جميع المذاهب وكنت أقول: إن كان مع قوم منهم شيء فمع هؤلاء؛ فداخلتكم لأختبركم، فأنتم على الحق. وحسن إسلامه.
ويحكي عن الجنيد: أنه كان يقول له السري: تكلم على الناس.
فقال الجنيد: وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس؛ فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك. فرأيت ليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وكانت ليلة جمعة، فقال لي: تكلم علي الناس. فانتهت.. واتيت باب السريِّ قبل أن أصبح؛ فدققت عليه الباب، فقيل: لم تصدقنا حتى قيل لك؟ فقعد للناس في الجامع بالغد، فانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس؛ فوقف عليه غلام نصراني متنكراً، وقال له: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن، فإن المؤمن ينظر بنور الله تعالى؟ " .
قال: فأطرق الجنيد... ثم رفع رأسه وقال: أسلم؛ فقد حان وقت إسلامك. فأسلم الغلام.
باب الخلق
قال الله تعالى: " وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم " .

أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار البصري: قال: حدثنا هشام بن محمد بن غالب قال: حدثنا معلي بن مهدي قال: حدثنا بشار بن إبراهيم النميري، قال: حدثنا غيلان بن جرير عن أنس قال: " قيل يا رسول الله: أيُّ المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال: أحسنهم خُلُقاً " .
إذ الخُلق الحسن أفضل مناقب العبد، وبه يظهر جواهر الرجال، والإنسان مستور بخلقه مشهود بخُلقه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: إن الله تعالى، خص نبيه صلى الله عليه وسلم بما خصه به، ثم لم يثن عليه بشيء من خصاله بمثل ما أثنى بخلقه؛ فقال عزَّ ن قائل: " وإنك لعلي خُلق عظيم " .
وقال الواسطي: وَصَفه بالخلق العظيم؛ لأنه جاد بالكونين، واكتفى بالله تعالى.
وقال الواسطي أيضاً: الخلق العظيم: أن لا يُخاصِم ولايُخاصِم، من شدِّة معرفته بالله تعالى.
وقال الحسين بن منصور: معناه: ولم يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك الحق..
وقال أبو سعيد الخراز: لم يكن لك همة غير الله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت الكتاني يقول: التصوف خُلق، من زاد عليك بالخلق، فقد زاد عليك في التصوف.
ويروي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه قال: إذا سمعتموني أقول لمملوك: أخزاه الله فأشهدوا أنه حر.
وقال الفضيل: لو أن العبد أحسن الإحسان كله، وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين.
وقيل: كان ابن عمر، رضي الله عنهما، إذا رأى واحداً من عبيده يُحسن الصلاة يعتقه. فعرفوا ذلك من خُلقه، فكانوا يحسنون الصلاة مراءاة له، وكان يعتقهم، فقيل له في ذلك. فقال: من خدعنا في الله انخدعنا له.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمت أبا محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث المحاسبي يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: الخلقي: استصغار ما منك إليه واستعظام ما منه إليك.
وقيل للأحنف: ممن تعلمت الخلق؟ فقال: ن قيس بن عاصم للنقري قيل: وما بلغ من خُلقه؟ قال: بينا هو جالس في داره إذ جاءت خادم له بنفود عليه شواء، فسقط من يدها، فوقع علي ابن له، فمات، فدهِشت الجارية، فقال: لا رَوْعَة عليك، أنت حرة لوجه الله تعالى.
وقال شاه الكرماني:علامة حسن الخلق: كف الأذى، واحتمال المؤن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وُحسن الخلق " .
وقيل لذي النون المصري: من كثر الناس هماً؟ قال: أسوأهم خلفاً.
وقال وهب: ما تخلق عبد يخلق أربعين صباحاً إلا جعله الله طبيعة فيه.
وقال الحسن البصري في قول الله تعالى: " وثيابك فطهر " أي: وخلفك فحسن..
وقيل: كان لبعض النساك شاة فرآها على ثلاثة قوائم. فقال: من فعل بها هذا؟ فقال غلام له: أنا. فقال: لِمَ؟ قال: لا غُمك بها!! فقال: لا، بلا لأغمن من أمرك بذلك. أذهب فأنت حر.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: هل فرحت في الدنيا قط؟. فقال: نعم، مرتين إحداهما: كنت قاعداً ذات يوم فجاء إنسان وبال عليَّ؛ والثانية: كنت قاعداً فجاء إنسان وصفعني.
وقيل: كان أويس القرني إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فيقول: إن كان ولا بد فارموني بالصغار: كيلا تدقوا ساقي فتمنعوني عن الصلاة.
وشتم رجل الأحنف بن قيس... وكان يتبعه... فلما قرب من الحي وقف، وقال: يا فتى، إن بقي شيء فقله؛ كيلا يسمعك بعض سفهاء الحي فيجيبوك.
وقيل لحاتم الأصم: أيحتمل الرجل من كل أحد؟.. فقال: نعم، إلا من نفسه.
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، دعا غلاماً له، فلم يجب، فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً، فقال: أما تسمع يا غلام؟ فقال: نعم. قال: فما حملك على ترك جوابي؟ فقال: أمِنتُ عقوبتك فتكاسلت. فقال: أمض؛ فأنتحر لوجه الله تعالى.
وقيل: نزل معروف الكرخي الدجلة ليتوضأ، ووضع مصحفه وملحفته، فجاءت امرأة وحملتهما، فتبعها معروف، وقال: يا أختي، أنا معروف ولا بأس عليك، ألك ابن يقرأ؟ قالت: لا. قال: فزوج؟ قالت: لا، قال: فهاتي المصحف وخذي الثوب.

ودخل اللصوص مرة دار الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي بالمكابرة، وحملوا وجدوا، فسمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: اجتزت بالسوق، فوجدت جبتي على من يزيد، فأعرضت، ولم ألتفت إليه.
سمعت الشيخ أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: سمعت الوجيهي يقول: قال الجريري: قدمت من مكة، حرسها الله تعالى، فبدأت بالجنيد، لكيلايتعنى أليَّ، فسلَمت عليه، ثم مضيت إلى المنزل فلما صليت الصبح في المسجد إذا أنا به خلفي في الصف، فقلت: إنما جئتك أمس لئلا تتعني، فقال: ذاك فضلك، وهذا حقك.
وسئل أبو حفص عن الخلق. فقال: هو ما اختار الله - عزَّ وجلَّ - لنبيه صلى الله عليه وسلم ي قوله تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف.. " الآية.
وقيل: الخلق: أن تكون من الناس قريباً، وفيما بينهم غريباً.
وقيل: الخلق قبول ما يردُ عليك من جفاء الخلق، وقضاء الحق بلا ضجر ولا قلق.
وقيل: كان أبو ذر على حوض يسقي إبلاً له، فأسرع بعض الناس إليه، فانكسر الحوض، فجلس، ثم اضطجع، فقيل له في ذلك فقال: إن رسول الله صلى الله عليهوسلم أمرنا إذا غضب الرجل أن يجلس فإن ذهب عنه. وإلا فليضطجع.
وقيل: مكتوب في الإنجيل: عبدي.. أذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب.
وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائيّ!! فقال: يا هذه، وجدت أسمي الذي أضله أهل البصرة.
وقال لقمان لابنه: لا تُعرف ثلاثة إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة إليه.
وقال موسى، عليه السلام: إلهي، أسألك أن لايقال ما ليس فيه؛ فأوحى الله سبحانه إليه: ما فعلت ذلك لنفسي، فكيف أفعله لك؟ وقيل ليحيى بن زياد الحارثي، وكان له غلام سوء: لمَ تمسك هذا الغلام؟ فقال: لأتعلم عليه الحلم.
وقيل في قوله تعالى: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " : الظاهرة: تسوية الخلق، والباطنة: تصفية الخُلُق.
وقال الفضيل: لأن يصحبني فأجر حسن الخلق أحب إليّ ن أن يصحبني عابد سيء الخلق.
وقيل: الخلق الحسن احتمال المكروه بحسن المداراة.
وحكي أن إبراهيم بن أدهم خرج إلى بعض البراري فاستقبله جنيدي، فقال: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فضرب رأسه وأوضحه، فلما جاوزه، قيل له: إنه إبراهيم بن أدهم زاهد خراسان فجاءه يتعذر إليه، قال: إنك لما ضربتني سألت الله تعالى لك الجنة. فقال: لم؟ فقال علمت أني أؤجر عليه، فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير، ونصيبك مني الشر.
وحكي أن أبا عثمان الحيري دعاه إنسان إلى ضيافة، فلما وافى باب داره قال: يا أستاذ، ليس الآن وقت دخولك، وقد ندمت، فانصرف، فرجع ابو عثمان، فلما وافى منزله عاد إليه الرجل، وقال: يا أستاذ، ندمت!! وأخذ يتعذر إليه، وقال أحضر الساعة.. فقام أبو عثمان ومضى، فلما وافى باب داره قال: مثل ما قال في الأولى، ثم كذلك فعل في الثالثة والرابعة، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، فلما كان يعد مرات قال: يا أستاذ، أردت اختبارك. وأخذ يعتذر ويمدحه، فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجد مثله مع الكلاب: الكلب إذا دعي حضر، وإذا زجر انزجر.
وقيل: إن أبا عثمان اجتاز بسكة وقت الهاجرة، فألقى عليه من سطح طشت رماد، فتغير أصحابه، وبسطوا ألسنتهم في الملقى، فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئاً، من استحق أن يصبّ عيه النار، فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب.
وقيل: نزل بعض الفقراء على جعفر بن حنظلة، فكان جعفر يخدمه جداً، والفقير يقول: نعم الرجل أنت لو لم تكن يهودياً!! فقال جعفر: عقيدتي لا تقدح فيما تحتاج إليه من الخدمة؛ فسل لنفسك الشفاء ولي الهداية.
وقيل: كان لعبد الله الخياط حرِّيف مجوسي، يخيط له ثياباً، ويدفع إليه دراهم زيوفاً، وكان عبد الله يأخذها.. فاتفق أنه قام من حانوته يوماً لشغل، فجاء بالدراهم الزيوف، فدفعها إلى تلميذه، فلم يقبلها، فدفع إليه الصحاح، فلما رجع عبد الله قال لتلميذه: أين قميص المجوسي؟ فذكر له القصة.. فقال: بئس ما عملت؟ إنه منذ مدة يعاملني بمثلها، وأنا أصبر عليه، وألقيها في بئر، لئلا يغر بها غيري.
وقيل: الخلق السيء يضيق قلب صاحبه؛ لأنه لا يسع فيه غير مراده، كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه.
وقيل حسن الخلق: أن لا تتغير ممن يقف في الصفّ بجنبك.
وقيل: من سوء خلقك: وقوع بصرك على سوء خلق غيرك.

وسئل رسول، الله صلى الله عليه وسلم، عن الشؤم، فقال: " سوء الخلق " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي، قال: حدثنا أبو الحسن الصغار البصري قال: حدّثنا معاذ بن المثني قال: حدّثنا يحيى بن معني قال: حدثنا مروان الفزاري قال: حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، ادع الله تعالى على المشركين.
فقال: " إنما بعثت رحمة، ولم أبعث عذاباً " .
باب الجود والسخاء
قال الله عزّ وجلّ: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا الحسن بن العباس قال: حدثنا سهل قال: حدثنا سعيد بن مسلم، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عائشة، رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السخسّ: قريب من الله تعالى، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار.
والبخيل: بعيد من الله تعالى، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار.
والجاهل السخيّ أحب إلى الله تعالى من العابد البخيل " .
قال الأستاذ: ولا فرق - على لسان القوم - بين الجود والسخاء، ولا يوصف الحق، سبحانه، بالسخاء والسماحة؛ لعدم التوقيف.
وحقية الجود: أن لا يصعب عليه البذل.
وعند القوم، السخاء: هو الرتبة الأولى، ثو الجود بعده، ثم الإيثار؛ فمن أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر، وأبقى لنفسه شيئاً، فهو صاحب إيثار، كذلك سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أرد أحداً عن حاجة طلبهامني؛ لأنه إن كان كريماً أصون عرضه، وإن كان لئيما أصون عنه عرضي.
وقيل: كان مورّق العجلي يتلطف في إدخال الرفق على إخوانه؛ يضع عندهم ألف درهم، فيقول: أمسكوها عندكم حتى أعود إليكم. ثم يرسل إليهم: أنتم منها في حلّ.
وقيل: لقي رجل من أهل منبج رجلا من أهل المدينة، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل المدينة، فقال له: لقد أتانا رجل منكم يقال له الحكم ابن عبد المطلب فأغنانا. فقال له المدني: وكيف؟ وما أتاكم إلا في جبة صوف! فقال: ما أغنانا بمال، ولكنه علمنا الكرم. فعاد بعضنا على بعض حتى استغنينا.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليغة أمر بضرب أعناقهم؛ فأما الجنيد فإنه تستر بالفقر، وكان بفتى علي مذهب أبي ثور ، وأما الشحام، والرقام، والنوري، وجماعة، فقبض عليهم؛ فبسط النِّطع لضرب أعناقهم.. فتقدم النوري فقال له السّياف: تدري الى ماذا تبادر؟. فقال: نعم فقال وما يعجلك؟ فقال أوثر عليِّ أصحابي بحياة ساعة.
فتحير السيَّاف، وأنهى الخبر إلىالخليفة، فردهم إلى القاضي؛ ليتعرف حالهم؛ فألقى القاضي على أبي الحسين النوري مسائل فقهية، فأجابه الكل، ثم أخذ يقول: وبعد؛ فإنه لله عباداً قاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظاً أبكى بها القاضي فأرسل القاضي إلى الخليفة، وقال: إن كان هؤلاء زنادقة: فما على وجه الأرض مسلم.
وقيل: كان عليّ بن الفضيل يشتري من باعة المحلة؛ فقيل له: لو دخلت السوق فاسترخصت.
فقال: هؤلاء نزلوا بقربنا رجاء منفعتنا.
وقيل: بعث رجل إلى جبلة يجارية، وكان بين أصحابه، فقال: قبيح أن اتخذها لنفسي وأنتم حضور؛ وأكره أن أخص بها واحداً، وكلكم له حق وحرمة. وهذه لا تحتمل القسمة، وكانوا ثمانين؛ فأمر لكل واحد بجارية أو وصيف.
وقيل: عطش عبيد الله بن أبي بكرة يوماً في طريقه، فاستسقى من منزل امرأة، فأخرجت له كوزاً، وقامت خلف الباب، وقالت: تنحوا عن الباب، وليأخذه بعض غلمانكم، فإني امرأة من العرب: مات خادمي منذ أيام، فشرب عبيد الله تسخر بي؟. فقال: احمل إليها عشرين ألف درهم. فقالت: اسأل الله تعالى العافية. فقال: يا غلام أحمل إليها ثلاثين ألف درهم، فردّت الباب وقالت: أف لك. فحمل إليها ثلاثين ألف درهم، فأخذتها فما أمست حتى كثر خطابها.
وقيل: الجود: إجابة الخاطر الأول:

سمعت بعض أصحاب أبي الحسن البوشنجي، رحمه الله، يقول: كان أبو الحسن البوشجني في الخلاء، فدعا تلميذاً له، وقال له: انزع عني هذا القميص، وادفعه إلى فلان؛ فقيل له: هلا صبرت حتى تخرج من الخلاء؟ فقال: لم آمن على نفسي أن يتغير على ما وقع لي من التخلف منه بذلك القميص.
وقيل لقيس بن سعد بن عبادة: هل رأيت أحداً أسخى منك؟ فقال له: نعم؛ نزلنا بالبادية على امرأة، فحضر زوجها، فقالت له: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة ونحرها، وقال: شأنكم بها..
فلما كان بالغد جاء بأخرى ونحرها، وقال: شأنكم بها، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت لنا البارحة إلا اليسير: فقال: إني لاأطعم أضيافي الغاب. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة، والسماء تمطر، وهو يفعل كذلك.
فلما أردنا الرحيل وضعنا له مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه.. ومضينا، فلما مَتَع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام: أعطيتموني ثمن قراي... ثم إنه لحقنا وقال: لنأخذنه، وإلا طعنتكم برمحي هذا. فأخذناه وانصرف، فأنشأ يقول:
وإذا أخذت ثواب ما أعطيته ... فكفى بذاك لنائلٍ تكديرا
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: دخل أبو عبد الله الروزباري دار بعض أصحابه، فوجده غائباً، وباب بيت له مقفل، فقال: صوفيَّ وله باب بيت مقفل!! كسروا القفل، فكسروا القفل وأمر بجميع ما وجد في الدار والبيت، وأنفذه إلى السوق، وباعوه، وأصلحوا وقتاً من الثمن، وقعدوا في الدار.. فدخل صاحب المنزل ولم يمكنه أن يقول شيئاً.
فدخلت امرأته بعدهم الدار، وعليها كساء، فدخلت بيتاً، ورمت الكساء، وقالت: يا أصحابنا، هذا أيضاً من جملة المتاع فبيعوه. فقال الزوج لها: لِمَ تكلفت هذا باختيارك؟ فقالت له: اسكت، مثل هذا الشيخ يباسطنا، ويحكم علينا، ويبقى لناشىء ندخره عنه؟ وقال بشر بن الحارث: النظر إلى البخيل يقسى القلب.
وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه. فسأل عنهم، فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين؛ فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة!! ثم أمر من ينادي مَن كان لقيس عليه دين فهو منه في حل، فكسرت عتبته بالعشى، لكثرة ما عاده.
وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك تبذل الكثير إذا سئلت، وتضنُّ في القليل إذا نُجزتَ.
فقال: إني أبذل مالي وأضنُّ بعقلي.
وقيل: خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له.. فنزل على نخيل قوم: وفيها غلام أسود يعمل فيها؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل كلب الخائط ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص، فأكله، ثم رمى إليه بالثاني، والثالث، فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إليه فقال له: يا غلام، كم قُوتك كلَّ يوم؟ قال: ما رأيت: قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب، نه جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت رده.
قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال له: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر: أأَلام على السخاء؟! إنَّ هذا الأسخى مني، فاشتري الحائط والغلام وما فيها من آلات، فأعتق الغلام ووهبها له.
وقيل: أتى رجل صديقاً له، ودق عليه الباب، فلما خرج إليه قال: لماذا جئتني؟ قال لأربعمائة درهم دين ركبتني، فدخل الدار، ووزن له أربعمائة درهم وأخرجها إليه، ودخل الدار باكياً، فقالت له امرأته: هلا تعللت حين شق عليك الإجابة؟! فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى أحتاج إلى مفاتحتي به.
وقال مطرف بن الشخير: ذا أراد أحدكم مني حاجة فليرفها في رقعة؟ فإني أكره أن أرى في وجهه ذلّ الحاجة.
وقيل: أراد رجل أن يضار عبد الله بن العباس، فأتى وجوه البلد وقال لهم: يقول لكم ابن العباس تغدوا عندي اليوم. فأتوه، فملئوا الدار، فقال: ما هذا؟ فأخبر الخبر فأمر بشراء الفواكه الوقت، وأمر بالخبز، والطبخ، وأصلح أمراً، فلما فرغوا قال لوكلائه: أموجوج لنا كل يوم هذا؟ فقالوا: نعم. فقال: فليتغد هؤلاء كلهم عندنا كل يوم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي يتوضأ يوما في صحن داره، فدخل إليه إنسان وسله شيئاً من الدنيا، ولم يحضر شيء، فقال: أصبر حتى أفرغ.

فصبر.. فلما فرغ قال له: خذ القمقمة واخرج. فأخذها، وخرج، ثم صبر حتى علم أنه بعُد، فصاح وقال: دخل إنسان وأخذ القمقمة. فمشوا خلفه، فلم يدركوه.
وإنما فعل ذلك: لأن أهل المنزل كانوا يلومونه على كثرة البذل.
وسمعته يقول: وَهبَ الأستاذ أبو سهل جبّته من إنسان في الشتاء، وكان يلبس جبة النساء حين يخرج إلى التدريس، إذ لم تكن له جبة أخرى، فقدم الوفد المعروفون من فارس، فيهم من كل نوع: إمام من الفقهاء، والمتكلمين، والنحويين، فأرسل أليه صاحب لجيش أبو الحسن وأمره بأن يركب للاستقبال فلبس دُراعةً فوق تلك الجبة التي للنساء، وركب، فقال صاحب لجيش: إنه يستخف بي أمام البلد؛ يركب في جبة النسا..!! ثم إنه ناظرهم أجمعين فظهر كلامه على كلام جميعهم في كل فن.
وسمعته يقول: لم يناول الأستاذ أبو سهل أحداً شيئاً بيده، وكان يطرحه على الأرض ليأخذه الآخذ من الأرض، وكان يقول: الدنيا أقل خطراً ن أن أرى لأجلها يدي فوق يد أحد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى " .
وقيل: كان أبو مرتد، رحمه الله، أحد الكرام، فمدحه بعض الشعراء، فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن قدمني إلى القاضي، وادع عليَّ عشرة آلاف درهم، حتى أقرّ لك بها، ثم أحبسني، فإن أهلي لا يتركوني مسجوناً. ففعل ذلك، فلم يُمس حتى دُفع إليه عشرة آلاف درهم، وخر من السجن.
وقيل: سأل رجل الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه شيئاً فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقيل: أئت بحمال يحمله لك. فأتى بحمال فأعطاه طيلسانه وقال: يكون كِراءُ الحمال من قِبلي.
وسألت امرأة الليث بن سعد سكرجة عسل، فأمر لها بزقٍ من عسل فقيل له في ذلك، فقال: إنها سألت علي قدر حاجتها، ونحن نعطيها على قدر نعمنا.
وقال بعضهم صليت في مسجد الأشعث بالكوفة الصبح أطلب غريماً لي، فلما سلمت وَضِع بين يدي كلِّ واحد حلة ونعلين. وكذلك وضع بين يدي، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: إن الأشعث قدم من مكة، فأمر بهذا لأهل جماعة مسجده.
فقلت: إنما جئت أطلب غريماً لي، ولست من جماعته.
فقالوا: و لكلِّ من حضر.
وقيل: لما قربت وفاة الشافعي، رضي الله تعالى عنه، قال: مُروا فلاناً يغسِّلني.
وكان الرجل غائباً.. فلما قدم أخبر بذلك، فدعا بتذكرته. فوجد عليه سبعين ألف درهم ديناً، فقضها، وقال: هذا غسلي إياه.
وقيل: لما قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة كان معه عشرة آلاف دينار، فقيل له: تشتري بها قنية فضرب خيمته خارج مكة، وصبَّ الدنانير، فكل من دخل عليه كان يعطيه قبضة قبضة، فلما جاء وقت الظهر قام ونفض الثوب ولم يبق شيء.
وقيل: خرج السريّ يوم عيد، فاستقبله رجل كبير الشأن، فسلم السري عليه سلاماً ناقصاً. فقيل له: هذا رجل كبير الشأن. فقال: قد عرفته، ولكن روي مسنداً: أنه إذا التقى المسلمان قُسمت بينهما مائة رحمة: تسعون لأبشهما، فأردت أن يكون معه الأكثر.
وقيل: بكرى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، وأخاف أن يكون الله تعالى قد أهانني.
وروي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه قال: زكاةُ الدّار أن يتخذ فيها بيت للضيافة.
وقيل في قوله تعالى: " هل أتاك حديث ضيف إبرهيم المكرمين.. " . قيل قيامه عليهم بنفسه، وقيل: لأن ضيف الكريم كريم.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربعة لاينبغي للشريف أن ينف منهن، وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته لعالم يتعلم منه، والسؤال عما لم يعلم.
وقال أبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً " : إنهم كانوا يتحرجون في أن يأكل أحدهم وحده؛ فرخص لهم في ذلك.
وقيل: أضاف عبد الله بن عامر بن كريز رجلاً، فأحسن قراه، فلما أراد الرجل أن يرتحل عنه لم يُعنه غلمانه، فقيل له في ذلك. فقال عبد الله: إنهم لايعينون من يرتحل عنا.
أنشد عبد الله بن باكوية الصوفي قال: أنشدنا المتني في معناه:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا يفارقهم فالراحلون همُ
وقال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل.

وقال بعضهم: دخلت على بشر بن الحارث في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب وهو ينتفض، فقلت: يا أبا نصر، الناس يزيدون في الثياب في مثل هذا اليوم وأنت قد نقصت؟!! فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه، ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أرافقم بنفسي في مقاساة البرد.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الدقاق يقول: ليس السخاء أن يعطي الواجدُ المعدم، إنما السخاء أن يُعطى المعدمُ الواجد.
باب الغيرة
قال الله تعالى: " قل إنما حرَّمَ ربيِّ الفواحش ما ظهر منها وما بطن " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزكي قال: أخبرنا أبو أحمد حمزة ابن العباس البزاز ببغداد قال: حدثنا محمد بن غالب بن حرب قال: حدثنا عبد الله أبن مسلم، قال: حدثنا محمد بن الفرات، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أحدٌ أغير من الله تعالى، ومن غيرته حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " .
أخبرنا عليَّ بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثنا علي بن الحسن بن بنان قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أخبرنا حرب بن شداد قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة: أن أبا هريرة، رضي الله عنه، حدَّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله تعالى: أن يتي العبد المؤمن ما حرَّم الله عليه " .
والغيرة: كراهية مشاركة الغير، وإذا وُصف الله سبحانه بالغيرة، فمعناه: أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له تعالى من طاعة عبده له.
حكى عن السريّ السقطي: أنه قرىء بين يديه: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً " . فقال السريّ لأصحابه: أتدرون ما هذا الحجاب؟! هذا حجاب الغيرة، ولا أحد أغير من الله تعالى.
ومعنى قوله: " هذا حجاب الغيرة " يعني: أنه لم يجعل الكافرين أهلاً لمعرفة صدق الدين.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق، رحمه الله: يقول: إن أصحاب الكل عن عبادته تعالى هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخلالان. فأختار لهم البعد عنه، وأخرهم عن محل القرب؛ ولذلك تأخروا.
وأنشدوا:
أنا صبٌ لمن هويتُ ولكن ... ما احتيالي لسوء رأي الموالي
وفي معناه أيضاً قالوا: سقيم ليس يُعادُ ومريد ولا يُراد.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: سمعت العباس الزوزني يقول: كان لي بداية حسنة.. وكنت أعرف كم بقي بيني وبين الوصول إلى مقصودي من الظفر بمرادي، فرأيت ليلة من الليالي في المنام: كأني أتدهده من خالق الجبل، فأردت الوصول إلى ذروته. قال: فحزنت، فأخذني النوم فرأيت قائلاً يقول: ياعباس، الحق لم يُرد منك أن تصل إلى ما كنت تطلب، ولكنه فتح على لسانك الحكمة، قال: فأصبحت وقد ألهمت كلمات الحكمة.
وسمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمه الله، يقول: كان شيخ من الشيوخ له حال ووقت مع الله، فخفي مدَّة لم يُر بين الفقراء، ثم إنه ظهر بعد ذلك لا على ما كان عليه من الوقت. فسئل عنه فقال: آه. وقع حجاب.
وكان الأستاذ أبو علي، رحمه الله تعالى، إذا وقع شيء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول: هذا من غيرة الحق سبحانه، يريد أن لا يجري عليهم ما يجري من صفاء هذا الوقت.
وأنشدوا في معناه:
همت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المرآة نهاها وجهها الحسن
وقيل لبعضهم: تريد أن تراه؟ فقال: لا، فقيل: لِمَ؟ فقال: أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي.
وفي معناه أنشدوا:
إني لأحسدُ ناظري عليكا ... حتى أغض إذا نظرت إليكا
وأراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا
وسئل الشبلي: مى تستريح؟ فقال: إذا لم أر له ذاكراً.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله. يقول: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في مبايعته فرساً من أعرابي، وأنه استقاله فأقاله،فقال الأعرابي: عمرُك الله تعالى، ممن أنت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمرؤ من قريش.
فقال بعض أصحابه من الحاضرين للأعرابي: كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك!..

وكان رحمه الله يقول: إنما قال امرؤ من قريش غيرة، وإلا كان واجباً عليه التعرف إلى كل أحد: أنه من هو؟.. ثم إن الله؛ سبحانه، أجرى علي لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي يقول: كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك..!! من الناس من قال: إن الغيرة من صفات أهل البداية، وإن الموحد لا يشهد الغيرة، ولا يتصف بالاختيار، وليس له فيما يجري في المملكة تحكم، بل الحق سبحانه، أولى بالأشياء فيما يقضي على ما يقضي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان الغربي يقول: الغيرة عمل المريدين، فأما أهل الحقائق فلا.
وسمعته يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت الشبلي يقول: الغيرة غيرتان: غيرة البشرية على النفوس، وغيرة الإلهية على القلوب.
وقال الشبلي أيضا: غيرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله تعالى، والواجب أن يقال: الغيرة غيرتان: غيرة الحق، سبحانه، على العبد: وهو أن لا يجعله للخلق، فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق، وهو أن لايجعل شيئاً من أحواله وأنفاسه لغير الحق تعالى فلا يقال: أنا أغار على الله تعالى، ولكن يقال: أنا أغار لله، فإذن الغيرة على الله تعالى جهل، وربما تؤدي إلى ترك الدين؛ والغيرة لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال له.
واعلموا أنًّ من سنة الحق، تعالى، مع أوليائه: أنهم إذا ساكنوا غيراً، أو لاحظوا شيئاً، أو ضاجعوا بقلوبهم شيئاً، شوَّش عليهم ذلك، فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه، فارغة عما ساكنوه أو لاحظوه أو ضاجعوه، كآدم، عليه السلام، لمَّا وطن نفسه على الخلود في الجنة أخرجه منها.
وإبراهيم، عليه السلام، لما أعجبه إسماعيل، عليه السلام، أمره بذبحه حتى أخرجه من قلبه فلما أسلما وتله للجبين وصفا سره منه أمره بالفداء عنه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا زيدد المروزي، رحمه الله، يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: سمعت محمد بن حسان يقول: بينا أنا أدور في جبل لبنان، إذ خرج علينا رجل شاب قد أحرقته السموم والرياح؛ فلما نظر إليّ ولى هارباً، فتبعه، وقلت له تعظني بكلمة؟ فقال لي: احذر، فإنه غيور، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن، رحمه الله، يقول: قال النصراباذي: الحق تعالى غيور، ومن غيرته: أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه.
وقيل: أوحى الله، سبحانه، إلى بعض أنبيائه: أنَّ لفلان إلى حاجة، ولي أيضاَ إليه حاجة، فإن قضى حاجتي قضيت حاجته؛ فقال ذلك النبي، عليه السلام في مناجاته: إلهي؛كيف يكون ذلك حاجة؟ فقال: إنه ساكن بقلبه غيري فليفرغ قلبه عنه أقض حاجته.
وقيل: ن أبا يزيج البسطامي رأى جماعة من الحور العين في منامه.. فنظر إليهن، فسلب وقته أياماً، ثم إنه رأى في منامه جماعة منهن، فلم يلتفت إليهن وقال: إنكنَّ شواغل.
وقيل: مرضت رابعة العدوية، فقيل لها: ما سبب علنك؟ فقالت: نظرت بقلبي إلى الجنة فأدبني، فله العتبي، لا أعود ويحكى عن السري أنه قال: كنت أطلب رجلاً صديقاً لي مدة من الأوقات فمررت في بعض الجبال: فإذا أنا بجماعة زمني وعميان ومرضي، فسألت عن حالهم، فقالوا: هاهنا يخرج في السنة مرة يدعو لهم فيجدون الشفاء، فصبرت حتى خرج.. ودعا لهم فوجدوا الشفاء، فقفوت أثره وتعلقت به، وقلت له بي علة باطنة!!ن فما دواؤها؟ فقال: يا سري، خلِّ عني، فإنه - تعالى - غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه.
قال الأستاذ: ومنهم من غيرته، حين يرى الناس يذكرونه، تعالى بالغفلة فلا يمكنه رؤية ذلك وتشق عليه.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: لما دخل الأعرابي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبال فيه، وتبادر إليه الصحابة لإخراجه، قال، رحمه الله، إنما أساء الأعرابي الأدب، ولكن الخجل وقع على أصحابه، والمشقة حصلت لهم حين رأوا من وضع خشمته، كذلك العبد إذا عرف جلال قدره، سبحانه يشقُّ عليه سماع ذكر من يذكره بالغفلة، وطاعة من لا يعبده بالحرمة.
حكى أنا أبا بكر الشبلي مات له ابن كان أسمه أبا الحسن فجزعت أمه عليه، وقطعت شعر رأسها. فدخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته، فكل من أتاه معزياً قال: ما هذا يا أبا بكر؟ فكان يقول: موافقة لأهلي.
فقال له بعضهم: أخبرني يا أبا بكر لِمَ فعلت هذا؟

فقال: علمت أنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله تعالى، ففديت ذكرهم لله تعالى بالغفلة بلحيتي.
وسمع النوري رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، وسمع كلباً ينبح فقال: لبيك وسعديك. فقيل له:إن هذا تركٌ للدين.. فنه يقول للمؤمن في تشهده طعنة وسم الموت، ويلبي عند نباح الكلاب، فسئل عن ذلك فقال أما ذلك فكان ذكره لله على رأس الغفلة، وأما الكلب فقال تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " .
وأذن الشبلي مرة، فلما انتهى إلى الشهادتين قال: لولا أنك أمرتني ما ذكرتُ معك غيرك.
وسمع رجلٌ رحلاً يقول: جلَّ الله. فقال له: أحبُّ أن تله عن هذا.
سمعت بعض الفقراء يقول: سمعت أبا الحسن الخزفاني رحمه الله يقول: لا إلهَ إلا الله من داخل القلب. محمد رسول الله من القرط ومن نظر إلى ظهر هذا اللفظ توهم أنه استصغر الشرع. ولا كما يخضر بالبال، إذ الإخطار للأغيار بالإضافة إلى قدر الحق سبحانه متصاغرة في التحقيق.
باب الولاية
قال الله تعالى: " ألا إنَّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي، رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن عدي الحافظ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن هارون بن حميد، قال: حدثنا محمد بن هارون المقري قال: حدثنا حماد الخياط، عن عبد الواحد بن ميمون مولى عروة، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: من آذى ولياً فقد استحل محاربتي، وما تقرب إلى العبد بمثل أداء ما افترضت عليه، ومايزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، وما ترددت في شيء أنا فاعلة كترددي في قبض روح عبدي المؤمن؛ لأنه يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه.
الواليّ: له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره؛ قال الله تعالى: " وهو يتولى الصالحين " فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق، سبحانه، رعايته.
والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتوالى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي، من غير أن يتخللها عصيان.
وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليَّا: يجب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله تعالى إياه في السراء والضراء.
ومن شرط الولي: أن يكون محفوظاً، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق رحمه الله، قصد أبو يزيد البسطامي بعض من وصف بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه، فخرج الرجل، وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه. وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة، فكيف يكون أميناً على أسرار الحق؟! واختلفوا في أن الولي: هل يجوز أن يعلم أنه وليّ، أم لا؟ فمنهم من قال: لايجوز ذلك؛ وقال: إن الولي يلاحظ نفسه بعين التصغير، وإن ظهر عليه شيء من الكرامات خاف أن يكون مكراً، وهو يستشعر الخوف دائماً أبداً؛ لخوف سقوطه عما هو فيه، وأن تكون عاقبته بخلاف حاله، وهؤلاء يجعلون من شرط الولاية: وفاء المآل.
وقد ورد في هذا الباب حكايات كثيرة عن الشيوخ، وإليه ذهب من شيوخ هذه الطائفة جماعة لا يحصون، ولو اشتغلنا بذكر ما قالوا لخرجنا عن حد الاختصار، وإلى هذا كان يذب من شيوخنا الذين لقيناهم الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله.
ومنهم من قال: يجوز أني علم الولي أنه وليّ، وليس من شرط تحقيق الولاية في الحال الوفاءُ في المآل.
ثم إن كان ذلك من شرطه أيضاً فيجوز أن يكون هذا الوليُّ خُصَ بكرامة هي: تعريف الحق إياه أنه مأمون العاقبة؛ إذ القول بجواز كرامات الأولياء واجب، وهو وإن قارفه خوف العقابة، فما هو عليه من الهيبة والتعظيم والإجلال في الحال أتم وأشدّ؛ فإن اليسير من التعظيم والهيبة أهدأ للقلوب من كثير من الخوف.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: " عشرة في الجنة من أصحابي " ، فالعشرة - لا محالة - صدَّقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا سلامة عاقبتهم، ثم لم يقدح ذلك في حالهم.

ولأن من شرط صحة المعرفة بالنبوة: الوقوف على حدِّ المعجزة، ويدخل في جملته العلمُ بحقيقة الكرامات، فإذا رأى الكرامات ظاهرة عليه لا يمكنه أن لا يميز بينها وبين غيرها، فإذا رأى شيئاً من ذلك علم أنه في الحال على الحق. ثم يجوز أن يعرف أنه في المآل يبقى على هذه الحالة، ويكون هذا التعريف كرامة له. والقول بكرامات الأولياء صحيح.
وكثير من حكايات القوم يدل على ذلك كما نذكر طرفاً من ذلك في باب كرامات الأولياء إن شاء الله تعالى.
وإلى هذا القول كان يذهب من شيوخنا الذين لقيناهم، الأستاذ أبو علي الدقاق، رحمه الله.
وقيل: إن إبراهيم بن أدهم قال لرجل: أتحبُّ أن تكون لله ولياً؟ فقال: نعم، فقال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة؛ وفرغ نفسك لله تعالى، وأقبل بوجهك عليه ليُقبل عليك ويواليك.
وقال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء: هم عباد تسربلوا بالأنس بالله تعالى بعد المكابدة، واعتنقوا الروح بعد المجاهدة، بوصولهم إلى مقام الولاية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: أولياء الله تعالى عرائس الله.. ولا يرى العرائس إلا المحرومون. وهم مخدرون عنده في حجاف الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة.
سمعت أبا بكر الصيدلاني - كان رجلاً صالحاً - قال: كنت أصلح اللوح في قبر أبي بكر الطمستاني أنقر فيه اسمه في مقبرة الحيرة كثيراً، وكان يقلع ذلك اللوح ويُسرق!! ولم يقع مثله في غيره من القبور، فكنت أتعجب منه، فسألت أبا علي الدقاق، رحمه الله، يوماً عن ذلك فقال: إن ذلك الشيخ آثر الخلفاء في الدنيا، وأنت تريد أن تشهر قبره باللوح الذي تصلحه فيه، وإن الحق سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره، كما آثر هو ستر نفسه.
وقال أبو عثمان المغربي: الوليُّ قد يكون مشهوراً، ولكن لا يكون مفتوناً..
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: ليس للأولياء سؤال؛ إنما هو الذبول والخمول.
قال: وسمعته يقول: نهايات الأولياء بدايات الأنبياء.
وقال سهل بن عبد الله: الوليّ: هو الذي توالت افعال علي الموافقة.
وكان يحيى بن معاذ: الولي لا يرائي، ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه!! وقال أبو علي الجوزجاني: الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق سبحانه، تولى الله سياسته فتوالت عليه أنوار التولي، لم يكن له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.
وقال أبو يزيد: حظوظ الأولياء مع تباينها من أربعة أسماء، وقيام كل فريق منهم باسم؛ وهو: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، فمتى فني عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام، فمن كان حظه من اسمه تعالى الظاهر لاحظ عجائب قدرته ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره. ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره. ومن كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق، ومن كان حظه من اسمه الآخر كان مرتبطاً بما يستقبله، وكل كوشف علي قدر طاقته إلا من تولاه الحق، سبحانه ببره، وقام عنه بنفسه.
وهذا الذي قاله أبو يزيد يشير إلي أن الخواصّ من عباده ارتقوا عن هذه الأقسام، فلا العواقب هم في ذكرها، ولا السوابق هم في فكرها، ولا الطوارق هم في أسرها.. وكذا أصحاب الحقائق يكونون محواً عن نعوت الخلائق كما قال الله تعالى: " وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود " .
وقال يحيى بن معاذ: الوليّ ريحان الله، تعالى، في الأرض، يشمه الصديقون فتصل رائحته إلى قلوبهم فيشتاقون به إلى مولاهم، ويزدادون عبادة على تفاوت أخلاقهم.
وسئل الواسطي: كيف يُغَذى الولي في ولايته؟ فقال: في بدايته بعبادته وفي كهولته بستره بلطافته، ثم يجذبه إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم بذيقة طعم قيامه به في اوقاته.
وقيل: علامة الولي ثلاثة: شغلة بالله، وفراره إلى الله، وهمه إلى الله.
وقال الخراز: إذا أراد الله تعالى أن يوالي عبداً من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية.

وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو فحينئذ صار العبد زمناً فانياً، فوقع في حفظه سبحانه، وبرىء من دعاوى نفسه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروزباري يقول: قاب أبو تراب النخشبي: إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبته الوقيعة في أولياء الله تعالى.
وقالوا: من صفة الولي أن لا يكون له خوف؛ لأن الخوف ترقب مكروه يحل في المستقبل، أو انتظار محبوب يفوت في المستأنف، والولي ابن وقته، ليس له مستقبل فيخاف شيئاً.
وكما لا خوف له لا جراء له؛ لأن الرجاء انتظار محبوب يحصل أو مكروه يُكشف، وذلك في الثاني من الوقت.
وكذلك لاحزن له؛ لأن الحزن من حزونة القلب، ومن كان في ضياء الرضا وبَرَدَ الموافقة فأنى يكون له حزن؟! قال الله تعالى: " ألا إنَّ أولياءَ الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
باب الدعاء
قال الله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعاً وخفية " .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أبو الحسين الصفار البصري قال: حدثنا محمد بن أحمد العودي قال: حدثنا كامل، قال: حدثنا بن لهيعة قال حدثنا خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " .
والدعاء: مفتاح الحاجة، وهو مستروح أصحاب الفاقات، وملجأ المضطرين، ومتنفس ذوي المأرب، وقد ذم الله سبحانه وتعالى. قوماً تركوا الدعاء فقال: " ويقبضون أيديهم " قيل: لا يمدونها إلينا في السوائل.
وقال سهل بن عبد الله: خلق الله تعالى الخلق وقال ناجوني، فإن لم تفعلوا فانظروا إليّ، فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني، فإن لمتفعلوا فكونوا ببابي، فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: قال سهل بن عبد الله: أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الحال.
ودعاءاً لحال: أن يكون صاحبه مضطراً لابد له مما يدعو لأجله.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي، رحمه الله، قال سمعت أبا عبد الله المكانسي يقول: كنت عند الجنيد؛ فأتت امرأة إليه وقالت: ادع الله أني رد عليّ ابني: فإن ابناً لي ضاع فقال لها: اذهبي واصبري، فمضت، ثم عادة فقالت له مثل ذلك، فقال لها الجنيد: اذهبي واصبري، فمضت ثم عادت، ففعلت مثل ذلك مرات والجنيد يقول لها: اصبري، فقالت له: عيل صبري، ولمي بق لي طاقة عليه، فادع لي. فقال لها الجنيد: إن كان الأمر كما قلت فاذهبي، فقد رجع ابنك، فمضت، فوجدته، ثم عادت تشكر له فقيل للجني: بم عرفت ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " .
وقد اختلف الناس في أن: الأفضل الدعاء، أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال: الدعاء في نفسه عبادة، قال صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخُّ العبادة " والإتيان بما هو عبادة أولى من تركه، ثم هو حق الله تعالى فإن لم يستجب للعبد، ولم يصل إلى حظ نفسه فلقد قام بحق ربه؛ لأن الدعاء إظهار فاقة العبودية: وقد قال أبو حازم الأعرج: لئن أحرم الدعاة أشدُّ علي من أن أحرم الإجابة. وطائفة قالوا: السكوت والخمول تحت جريان الحكم أتم، والرضا بما سبق من اختيار الحق أولى، ولهذا قال الواسطي: اختيار ما جرى لك في الأزل خير لك من معارضة الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم خبراً عن الله تعالى.
" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " وقال قوم: يجب أن يكون العبد صاحب داء بلسانه وصاحب رضا بقلبه: ليأتي بالأمرين جميعاً.
والأولى أن يقال: إن الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت، وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء، وهو الأدب، وإنما يعرف ذلك في الوقت، لأن علم الوقت إنما يحصل في الوقت فإذا وجد بقلبه إشارة إلى الدعاء فالدعاء له أولى. وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت له أولى.

ويصح أن يقال: ينبغي للعبد أن لا يكون ساهياً عن شهود ربه تعالى في حال دعائه. ثم يجب عليه أن يراعي حاله، فإن وجد من الدعاء زيادة بسط في وقته فالدعاء له أولى.. وإن عاد إلى قلبه في وقت الدعاء شبه زجر ومثل قبض، فالأولى له ترك الدعاء في هذا الوقت، وإن لم يجد في قلبه زيادة بسط ول حصول زجر فالدعاء وتركه هاهنا سيان، فإن كان الغالب عليه في هذا الوقت العلمُ، فالدعاء أولى؛ لكونه عبادة، وإن كان الغالب عليه في هذا الوقت المعرفة والحال والسكوت، فالسكوت أولى، ويصح أن يقال: ما كان للمسلمين فيه تصيب، أو للحق سبحانه فيه حقّ، فالدعاء أولى وما كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتمُّ. وفي الخبر المروي " أن العبد يعو الله سبحانه وهو يحبه، فيقول: ياجبريل أخِّر حاجة عبدي، فإني أحبُّ أن أسمع صوته، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه فيقول: يا جبريل، إقض لعبدي حاجته، فإني أكره أن أسمع صوته " .
ويحكى عن يحيى بن سعيد القطان، رحمه الله تعالى، أنه رأى الحقَّ، سبحانه في المنام، فقال: آلهي: كم أدعوك فلا تجيبني!! فقال يا يحيى؛ لني أحبُّ أن أسمع صوتك.
وقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، إنّ العبد ليدعو الله تعالى وهو عليه غضبان، فيعرض عنه، ثم يدعوه، فيعرض عنه، ثم يدعوه، فيعرض عنه ثم يدعوه، فيقول الله تعالى لملائكته: أبي عبدي أن يدعو غيري فقد استجبت له " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد قال: حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بأبن السماك قال: أخبرنا محمد بن عبد ربه الحضرمي قال: أخبرنا بشر بن عبد الملك قال: حدثنا موسى بن الحجاج قال: قال مالك بن دينار: حدثنا الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّجر من بلاد الشام إلى المدينة، ومن المدينة إلى بلاد الشام، ولا يصحب القوافل توكلاً منه على الله، عز وجل، قال: بينما هو جاء من الشام يريد المدينة إذ عرض له لصٌ على فرس.. فصاح بالتاجر: قف. قف!! فوقف له التاجر، وقال له: شأنك بمالي وخلّ سبيل. فقال له اللص: المال مالي، وإنما أريد نفسك. فقال له التاجر: ما تريد بنفسي؟! شأنك والمال وخلِّ سبيلي. قال: فرد عليه اللص مثل المقالة الأولى، قال له التاجر: أنظرني حتى أتوضأ وأصلي وأدعو ربي عزَّ وجلِّ.
قال أفعل ما بدالك. قال فقام التاحر، وتوضأ، وصلى أربع ركعات، ثم رفع يديه إلى السماء، فكان من دعائه أ، قال: يا ودود.. يا ودود.. ياذا العرش المجيد، يا مبدىء يا معيد، يا فعَّال لما يدري أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، لا إله إلا أنت، يا مغيث أغثني ثلاث مرات. فلما فرغ من دعائه إذا بفارس على فرس أشهب.. عليه ثياب خضر، بيده حربة من نور، فلما نظر اللص إلى الفارس ترك التاجر ومر نحو الفارس. فلما دنا منه شد الفارس على اللص، فطعنه طعنة أدراه عن فرسه.. ثمجاء إلى التاجر فقال له: قم فاقتله، فقال له التاجر: من أنت؟ فما قتلت أحداً قد ولا تطيب نفس بقتله!! قال، فرجع الفارس إلى اللص وقتله، ثم جاء إلى التاجر، وقال: أعلم أنيملك من السماء الثالثة، حين دعوت الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعة، فقلنا أمرٌ حدث!! ثم دعوت الثانية ففتحت أبواب السماء ولها شرر كشرر النار، ثم دعوت الثالثة فهبط جبريل عليه السلام علينا من قبل السماء وهو ينادي: من لهذا المكروب؟ فدعوت ربي أن يوليني قتله، واعلم - يا عبد الله - أنه من دعا بدعائك هذا في كل كربة، وكل شدة، وكل نازلة فرج الله تعالى عنه، وأعانه. قال وجاء التاجر سالماً غانماً حتى دخل المدينة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالقصة وأخبره بالدعاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد لقنك الله عزَّ وجلَّ، اسماؤه الحسنى التي إذا دُعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى " .
ومن أداب الدعاء: حضور القلب، وأن لا يكون ساهياً؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى، لا يستجيب دعاء عبد من قلب لاهٍ " .
ومن شرائطه: أن يكون مطعمه حلالاً؛ فلقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد: " اطب كسبك تُستجب دعوتك " .
وقد قيل: الدعاء: مفتاح الحاجة، وأسنانها: لقم الحلال.

وكان يحيى بن معاذ يقول: إلهي، كيف أدعوك وأنا عاص؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟! وقيل: مر موسى، عليه السلام، برجل يدعو ويتضرع، فقال موسى عليه السلام: إلهي، لو كانت حاجته بيدي قضيتها؛ فأوحى الله، تعالى إليه: أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني، وله غنم وقلبه عند غنمه، وإني لا أستجيب لعبد يدعوني وقلبه عند غيري. فذكر موسى عليه السلام للرجل ذلك، فانقطع إلى الله تعالى بقلبه فقضيت حاجته.
وقيل لجعفر الصادق: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: ظهر بيعقوب بن الليث علة أعيت الأطباء، فقالوا له: في ولايتك رجل صالح يسمىَّ سهل بن عبد الله لو دعا لك لعل الله سبحانه يستجيب له؛ فاستحضر سهلاً وقال: ادع الله عزَّ وجل لي. فقال سهل: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي محبسك مظلومون؟ فأطلق كل من كان في حبسه، فقال سهل: اللهمَّ كما رأيته ذلَّ المعصية فأره عزّ الطاعة وفرج عنه. فعوفي، فعرض مالاً على سهل فأبى أن يقبله، فقيل له: لو قبلته ودفعته إلى الفقراء.
فنظر إلى الحصباء في الصحراء فإذا هي جواهر، فقال لأصحابه: من يُعطى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟!! وقيل: كان صالح المري يقول كثيراً: من أدمن قرع باب يوشك أن يفتح له. فقالت له رابعة: إلى متى تقول هذا؟ متى أغلق هذا الباب حتى يستفتح؟ فقال صالح: شيخ جهل وامرأة علمت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت السريّ يقول: حضرت مجلس معروف الكرخي. فقال إليه رجل فقال: يا أبا محفوظ، ادع الله تعالى أن يردَّ عليَّ كيسي؛ فإنه سرق وفيه ألف دينار. فسكت، فأعاد، فقال معروف: ماذا أقول؟ أقول ما زويته عن أنبيائك وأصفيائك. فرده عليه. فقال الرجل: فادع الله تعالى لي. فقال: اللهم خر له.
وحكي عن الليث أنه قال: رأيت عقبة بن نافع ضريراً، ثم رأيته بصيراً، فقلت له: بم رد عليك بصرك؟ فقال: أتيت في منامي، فقيل قل: يا قريب، يا مجيب، يا سميع الدعاء، يا لطيفاً لما يشاء، رد علي بصري. فقلتها، فرد الله عزَّ وجل علي بصري.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: كان بي وجع العين ابتداء ما رجعت إلى نيسابور من مرو، وكنت مدة أيام لم أجد النوم، فتناعست صباحاً، فسمعت قائلاً يقول لي: أليس الله بكاف عبده؟ فانتبهت، وقد فارقني الرمد، وزال في الوقت الوجع، ولم يصبني بعد ذلك وجع العين.
وحكى عن محمد بن خزيمة، أنه قال: لما مات أحمد بن حنبل كنت في الإسكندرية، فاغتممت.. فرأيت في المنام أحمد بن حنبل وهو يتبختر، فقلت: يا أبا عبد الله، أي مشية هذه؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله عزَّ وجل بك؟ فقال: غفر لي، وتوجني، وألبسني نعلين من ذهب، وقال: يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي. ثم قال: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري وكنت تدعو بها في دار الدنيا. فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء، اغفر لي كل شيء، ولا تسألني عن شيء. فقال: يا أحمد هذه الجنة، فادخلها، فدخلتها.
وقيل: تعلق شاب بأستار الكعبة، وقال: إلهي، لا شريك له فيؤتى، ولا وزير لك فيرشى، ن أطعتك فبفضلك ولك الحمد، وإن عصيتك فبجهلي ولك الحجةُ عليَّ، فبإثبات حجتك عليَّ وانقطاع حجتي لديك إلا غفرت لي. فسمع هاتفاً يقول: الفتى عتيق من النار.
وقيل: فائدة الدُعاء: إظهار الفاقة بين يديه تعالى، إلا فالرب يفعل ما يشاء.
وقيل: دعاء العامة بالأقوال، ودعاء الزهاد بالأفعال، ودعاء العارفين بالأحوال.
وقيل: خير الدعاء: ما هيجته الأحزان.
وقال بعضهم: إذا سالت الله تعالى حاجة فتسهلت، فاسأل الله عقب ذلك الجنة؛ فلعل ذلك يوم إجابتك.
وقيل ألسنة المبتدئين منطلقة بالدعاء، وألسنة المتحققين خرست عن ذلك.
وسئل الواسطي أن يدعو، فقال: أخشى أني إن دعوت أن يُقال لي: إن سألتنا مالك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيت أجرينا لك من الأمور ما قضينا لك به في الدهور.
وروي عن عبد الله بن منازل أنه قال: ما دعوت منذ خمسين سنة، ولا أريد أن يدعو لي أحد.
وقيل: الدعاء سلم المذنبين.

وقيل: الدعاء: المراسلة، وما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد.
وقيل لسان المذنبين دعاؤهم.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: إذا بكى المذنب فقد راسل الله عزَّ وجلَّ.
وفي معناه أنشدوا:
دموع الفتى عما يجنُّ تترجم ... وأنفاسه يبدين ما القلب يكتم
وقال بعضهم: الدعاء ترك الذنوب.
وقيل: الدعاء لسان الاشتياق إلى الحبيب.
وقيل: الإذن في الدعاء خير للعبد من العطاء.
وقال الكتاني لم يفتح الله تعالى لسان المؤمن بالمعذرة إلا لفتح باب المغفرة.
وقيل: الدعاء يوجب الحضور، والعطاء يوجب الصرف، والمقام علي الباب أتمُّ من الانصراف بالمثاب.
وقيل: الدعاء مواجهة الحق، تعالى، بلسان الحياء.
وقيل: شرط الدعاء الوقوف مع القضا بوصف الرضا.
وقيل: كيف تنتظر إجابة الدعوة وقد سَدَدْتَ طريقها بالهفوة؟! وقيل لبعضهم: ادع لي. فقال: كفاك من الأجنبية أن تجعل بينك وبينه واسطة.
سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: سمعت أبا الفتح نصر بن أحمد بن عبد الملك يقول: سمعت عبد الرحمن بن أحمد يقول:سمعت أبي يقول: جاءت امرأة إلى تقيِّ بن مخلد، فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر علىمال أكثر من دويرة، ولا أقدر علي بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار!! فقال لها: نعم، أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله تعالى.
قال: فأطرق الشيخ وحرك شفتيه، قال: فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، وأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به. فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم. فكان يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا علينا قيودنا. فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب مع صاحبه الذي كان يحفظنا انفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض، وصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت فيه المرأة، ودعا الشيخ، قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني وصاح عليّ وقال لي: كسرتً القيد!! قلت: لا، إنه سقط من رجلي قال: فتحير.. وأحضر أصحابه، وأحضروا الحداد، وقيدوني.. فملا مشيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري!! فدعوا رهبانهم، فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة. وقد أطلقك الله عز وجل، فلا يمكننا تقييدك.
فزودوني، وأصحبوني بمن أوصلني إلى ناحية المسلمين.
باب الفقراء
قال الله تعالى: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فن الله به عليم " .
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع بن الحسين بن موسى البزاز ببغداد، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن الهيثم الأنباري قال: حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان، عن محمد ابن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسائة عام: نصف يوم " .
وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس الحيري ببغداد، قال: حدثنا أبو أحمد حمزة بن العباس البزاز ببغداد، قال: حدثنا محمد بن غالب ابن حرب قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن أبي الفرات. عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المسكين ليس بالطواف الذي تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان " ، قال: قيل: مَن المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه ويستحي أن يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه " .
قال الأستاذ: معنى قوله: يستحي أن يسال الناس: أي يستحي من الله، تعالى. أن يسأل الناس، لا أن يستحي من الناس.
والفقرِ شعار الأولياء؛ وحلية الأصفياء؛ واختيار الحق، سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء.
والفقراء: صفوة الله عزَّ وجلَّ من عباده، ومواضع أسراره بين خلقه، بهم يصون الحقُّ الخلق، وببركاتهم يبسط عليهم الرزق.
والفقراء الصبر جلساء الله تعالى، يوم القيامة؛ بذلك ورد الخبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن محمد ابن رجاء الفزاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن أحمد بن خشيش البغدادي قال: حدثنا عثمان بن معبد قال: حدثنا عمر بن راشد. عن مالك، عن نافع، عن أبي عمر، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" لكل شيء مفتاحُ ومفتاح الجنة: حبُّ المساكين، والفقراء الصبر: هم جلساء الله تعالى يوم القيامة " .
وقيل: ن رجلاً أتى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها منه وقال له: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم: لا أفعل!! وقال معاذ النسفي: ما أهلك الله، تعالى، قوماً ون عملوا ما عملوا حتى أهانوا الفقراء وأذلوهم.
وقيل: لو لم يكن للفقراء إلى الله فضيلة غير إرادته وتمنيه سعة أرزاق المسلمين ورخص أسعارهم لكفاه ذلك؛ لأنه يحتاج إلى شرائها والغني يحتاج إلى بيعها. هذا لعوام الفقراء، فكيف حال خواصهم؟ سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي. يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت أبا بكر بن سمعان يقول: سمعت أبا بكر بن مسعود يقول: سئل يحيى بن معاذ عن الفقر، فقال: حقيقته: أن لا يستغنى العبد إلا بالله، ورسمه عدم الأسباب كلها.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت إبراهيم القصار يقول: الفقر لباس يورث الرضا إذا تحقق العبد فيه.
وقدم على الأستاذ أبي علي الدقاق فقير في سنة: خمس، أو أربع وتسعين وثلاثمائة من زوزن وعليه مسح وقلنوسة مسح، فقال له بعض أصحابه: بكم اشتريت هذا المسح؟ على وجه المطايبة.
فقال: اشتريته بالدنيا وطلب مني بالآخرة فلم أبعه بها!! سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: قام فقير في مجلس يطلب شيئاً، فقال: إني جائع منذ ثلاث: وكان هناك بعض المشايخ فصاح عليه وقال: كذبت!! إن الفقر سر الله وهو لا يضع سره عند من يحمله إلى من يريد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الفراء يقول سمعت زكريا النخشبي يقول: سمعت حمدون القصار يقول: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: رجل مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن عطا. يقول: سمعت أبا جعفر الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: يا معشر الفقراء: إنكم تعرفون بالله، وتكرمون الله، فانظروا كيف تكونون مع الله إذا خلوتم به؟.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي. يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد، وقد سئل عن الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى: أو أتمُّ أم الاستغناء بالله تعالى؟ فقال: إذا صحَّ الافتقار إلى الله عز وجل، فقد صح الاستغناء بالله تعالى، وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغني به، فلا يقال: أيهما أتم الافتقار أم الغنى!! لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت رويما يقول وقد سئل عن نعت الفقير، فقال.
" إرسال النفس في أحكام الله تعالى " .
وقيل: نعت الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سره، وأداء فرضه، وصيانة فقره.
وقيل لأبي سعيد الخزاز: لمَ تأخر عن الفقراء رفقُ الأغنياء؟ فقال لثلاث خصال: لأن ما في أيديهم غير طيب، ولأنهم غير موفقين، ولأن الفقراء مرادون بالبلاء.
وقيل: أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى موسى، عليه السلام: إذا رأيت الفقراء فسائلهم، كما تسائل الأغنياء، فإن لم تفعل فاجمل كل شيء علمتك تحت التراب.
وروي عن أبي الدرداء، أنه قال: لأن أقع من فوق قصر فأتحطم أحبُّ إليَّ من مجالسة الغنيّ؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " إياكم ومجالسة الموتى!! قيل: يا رسول الله، ومن الموتى؟ قال: الأغنياء؟.
وقيل للربيع بن خيثم: قد غلا السعر!! فقال: نحن أهون على الله من أن يجيعنا، إنما يجيع أولياءه.
وقال إبراهيم بن أدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن عليّ يقول: سمعت الحسن ابن علوية يقول: قيل ليحيى بن معاذ: ما الفقر؟ قال: خوف الفقر.
قيل: ما الغنى؟ قال: الأمن بالله تعالى.

وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيّ يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت ابن الكريني يقول: إن الفقير الصادق، ليحترز من الغني حذراً أن يدخله الغنى فيفسد عليه فقره، كما أن الغنيّ يحترز من الفقر حذراً أن يدخل عليه فيفسد عليه غناه.
وسئل أبو حفص: بماذا يقدم الفقير على ربه عز وجل؟ فقال: وما للفقير أن يقدم به على ربه تعالى سوى فقره.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتريد أن يكون لك يوم القيامة مثل حسنات الناس اجمع؟.
قال: نعم.
قال عد المريض، وكن لثياب الفقراء فالياً، فجعل موسى، عليه السلام، على نفسه في كلّ شهر سبعة أيام يطوف على الفقراء يفلي ثيابهم ويعود المرضى.
وقال سهل بن عبد الله: خمسة أشياء من جوهر النفس: فقير يظهر الغنى، وجائع يظهر الشبع، ومحزون يظهر الفح؛ ورجل بينه وبين رجل عداوة يظهر المحبة، ورجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يظهر ضعفاً.
وقال بشر بن الحارث: أفضل المقامات: اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر.
وقال ذو النون: علامة سخط الله على العبد: خوفه من الفقر.
وقال الشبلي: أدنى علامات الفقر: أن لو كانت الدنيا بأسرها لأحد فأنفقها في يوم ثم خطر بباله، أن لو أمسك منها قوت يوم ما صدق في فقره.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا محمد بن ياسين يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: وقد سألته عن الفقر، فسكت، حتى خلا، ثم ذهب ورجع عن قريب، ثم قال: كان عندي أربعة دوانيق فاستحييت من الله عز وجل، أن أتكلم في الفقر وأخرجتها ثم قعد وتكلم في الفقر.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي، يقول: سمعت إبراهيم ابن المولد يقول: سألت ابن الجلاّء: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه.
فقلت: كيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له.
وقيل: صحة الفقر: أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره.
وقال عبد الله بن المبارك: إظهار الغنى في الفقر أحسن من الفقر.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، يقول: سمعت هلال بن محمد يقول: سمعت النقاش يقول: سمعت بنانا المصري يقول: كنت بمكة قاعداً وشاب بين يدي، فجاءه إنسان وحمل إليه كيساً فيه دراهم ووضعه بين يديه، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: فرّقه على المساكين، فلما كان العشاء رأيته في الوادي يطلب شيئاً لنفسه.
فقلت لو تركت لنفسك مما كان معك شيئاً؟.
قال: لم أعلم أني أعيش إلى هذا الوقت!! سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عليّ بن بندار الصيرفي، يقول: سمعت محفوظا يقول: سمعت أبا حفص يقول: أحسن ما يتوسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال.
وسمعته يقول: سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت فاطمة أخت أبي علي الروذباري تقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: كان أربعة في زمانهم: واحد: كان لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان شيئاً، وهو: يوسف ابن أسباط، ورث من أبيه سبعين ألف درهم ولم يأخذ منها شيئاً وكان يعمل الخوص بيده.
وآخر: كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعاً، وهو: أبو إسحاق الفرازي فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستة رين الذي لا يتحركون، والذي يأخذه من السلطان كان يخرجه إلى مستحقيه من أهل طرسوس .
والثلث كان يأخذ من الإخوان ولا يأخذ من السلطان وهو عبد الله ابن المبارك، وكان يأخذ من الإخوان ويكافىء عليه.
والرابع: كان يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان وهو: مخلد بن الحسين كان يقول: السلطان لا يمنّ والإخوان يمنون.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: جاء في الخبر: " من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه " .
إنما كان ذلك؛ لأن المرء بقلبه ولسانه ونفسه؛ فإذا تواضع لغني بنفسه ولسانه ذهب ثلثا دينه، فلوا اعتقد فضله بقلبه كما تواضع له بلسانه ونفسه ذهب دينه كله.
وقيل: أقلّ ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء: علم يسوسه؛ وورع يحجزه؛ ويقين يحمله؛ وذكر يؤنسه.
وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيراً؛ ومن أراد الفقر لئلا يشتغل عن الله تعالى مات غنياً.

وقال المزيّن: كانت الطرق الموصلة إلى الله أكثر من نجوم السماء، فما بقي منها طريق إلا طريق الفقر وهو أصحّ الطرق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن يوسف القزويني يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول: سمعت الحسن بن علي يقول: سمعت النوري يقول: نعت الفقير: السكون عند العدم، والإيثار عند الوجود.
سئل الشبلي عن حقيقة الفقر فقال: ألا يستغني العبد بشيء دون الله عز وجلّ.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: قال لي أبو سهل الخشاب الكبير: الفقر: فقر وذلّ، فقلت: لا بل فقر وعزّ، فقال فقر وثرى، فقلت: لا، بل فقر وعرش.
سعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: سئلت عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الفقر أن يكون كفرا " .
قال: فقلت: آفة الشيء وضده على حسب فضيلته وقدره؛ فكلما كان في نفسه أفضل فضده وآفته أنقص: كالإيمان، لما كان أشرف الخصال كان ضده الكفر، فلما كان الخطر على الفقر الكفر بالله دلّ على أنه أشرف الأوصاف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا نصر المروي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق، ولا تلقه بالعلم؛ فإن الرفق يؤنسه، والعلم يوحشه، فقلت له: يا أبا القاسم وهل يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إذا كان صادقا في فقره فطرحت عليه علمك ذاب كما ذوب الرصاص على النار.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي، يقول: سمعت مظفر القرمسيني يقول: الفقير: هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا اللفظ فيه غموض لمن سمعه على وجه الغفلة عن مرمى القوم، وإنما شار قائله إلى سقوط المطالبات وانتقاء الإختيار، والرضا بما يجريه الحق سبحانه.
وقال ابن خفيف: الفقر: عدم الإملاك والخروج من أحكام الصفات.
وقال أبو حفص: لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاء أحب إليه من الأخذ، وليس السخاء أن يعطي الواحد المعدم: إنما السخاء أن يعطي المعدم الواحد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت الدقي يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: لو لا شرف التواضع لله لكان حكم الفقير إذا مشى أن يتبختر.
وقال يوسف بن اسباط: منذ أربعين سنة ما ملكت قميصين.
وقال بعضهم: رأيت كأن القيامة قد قامت، وقيل: أدخلوا مالك بن دينار، ومحمد بن واسع الجنة، فنظرت أيهما يتقدم: فتقدم محمد بن واسع، فسألت عن سبب تقدمه، فقيل لي: إنه كان له قميص واحد ولمالك قميصان.
وقال محمد المسوحي: الفقير: الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأسباب.
وسئل سهل بن عبد الله متى يستريح الفقير؟ فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه.
وتذاكروا عند يحيى بن معاذ الفقر والغنى، فقال: لا يوزن غداً لا الفقير ولا الغني، وإنما يوزن الصبر والشكر؛ فيقال: يشكر ويصبر.
وقيل: أوحى الله تعالى، إلى بعض الأنبياء عليهم السلام؛ إن أردت أن تعرف رضاي عنك فانظر كيف رضا الفقراء عنك؟ وقال أبو بكر الزقاق: من لم يصحبه التقي في فقره أكل الحرام المحض.
وقيل: كان الفقراء في مجلس سفيان النوري: كأنهم الأمراء.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت أبا بكر بن طاهر يقول: من حكم الفقير أن لا يكون له رغبة في الدنيا، فإن كان ولا بد فلا تجاوز رغبته كفايته.
وأنشد الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أنشدني عبد الله بن إبراهيم ابن العلاء قال: أنشدني أحمد بن عطاء لبعضهم؛ قال:
قالوا: غداً العيد ماذا أنت لا بسه؟ ... فقلت: خلقة سلق حبه جرعا
فقر وصبر، هما ثوباي تحتهما ... قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس ا، تلقى الحبيب به ... يوم التزاور في الوثب الذي خلعا
الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا
وقيل: إن هذه الأبيات لأبي علي الروذباري.
وقال أبو بكر المصري، وقد سئل عن الفقير الصادق، فقال: الذي لا يملك ولا يميل.
وقال ذو النون المصري: دوام الفقر إلى الله تعالى، من التخليط أحب إلى من دوام الصفاسء مع العجب.

سمعت أبا عبد الله الشيرازي، يقول: سمعت عبد الواحد بن أ؛مد، يقول: سمعت أبا بكر الجوال، يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري، يقول: مكثر أبو جعفر الحداد عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار، وينفقه على الفقراء، ويصوم ويخرج بين المسلمين فيتصدق عليه من الأبواب.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا علي الحسين بن يوسف الفزويني. يقول: سمعت إبراهيم بن المولد، يقول: سمعت الحسن بن علي، يقول: سمعت النوري، يقول: نعت الفقير السكون عند العدم، والبذل والإيثار عند الوجود.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت محمد بن علي الكناني، يقول: كان عندنا بمكة فتى عليه أطمار رثة، وكان لا يداخلنا ولا يجالسنا، فوقعت محبته في قلبي، ففتح لي بمائتي درهم من وجه حلال، فحملتها إليه، ووضعتها على طرف سجادته وقلت له.إنه فتح لي ذلك م وجه حلال، تصرفه في بعض أمورك، فنظر إلى شزراً، ثم كشف عما هو مستور غني، وقال: اشتريت هذه الجلسة مع الله تعالى، على الفراغ بسبعين ألف دينار غير الضياع. والمنتغلات، تريد أن تخدعني عنها بهذه!! وقام وبددها وقعدت التقطها فما رأيت كعزه حين مرَّ، ولا كذليِّ حين كنت ألتقطها.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: ما وجبت على زكاة الفطر أربعين سنة ولي قبولٌ عظيم بين الخاص والعام.
سمعت الشيخ أبا عبد الله بن باكويه الصوفي، يقول: سمعت أبا عبد الله. أبن خفيف يقول ذلك.
وسمعته يقول: سمعت أبا أحمد الصغير، يقول: سألت أبا عبد الله بن خفيف عن فقير يجوع ثلاثة أيام وبعد ثلاثة أيام. يخرج ويسأل مقدار كفايته: إيش يقال فيه؟! فقال: يقال فيه: مُكدٌ.. كلوا واسكتوا، فلو دخل فقير من هذا الباب لفضحكم كلكم.
سمت محمد بن الحسين، يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي، يقول: سمعت الدقي يقول - وقد سئل عن سوء أدب الفقراء مع الله تعالى، في أحوالهم - فقال: هو انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الطبري، يقول: سمعت خيراً النساج يقول: دخلت بعض المساجد وإذا فيه فقير، فلما رآني تعلق بي..
وقال: أيها الشيخ تعطف عليّ؛ فإن محنتي عظيمة!! فقلت: وما هي؟ فقال: فقدت البلاء وقويت بالعافية. فنظرت فإذا قد فتح عليه بشيء من الدنيا.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا بكر الوراق، يقول: طوبى للفقير في الدنيا والآخرة.
فسألوه عنه، فقال: لا يطلب للسلطانُ منه في الدنيا: الخراج، ولا الجبار في الآخرة: الحساب.
باب التصوف
الصفاء محمود بكل لسان، وضدّه: الكدورة؛ وهي مذمومة.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا عبد الله بن يحيى الطلحي قال: حدثنا الحسين بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن نوفل قال: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال: " ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم " .
ثم هذه التسمية غلبت علي هذه الطائفة؛ فيقال: رجلٌ صوفي، وللجماعة صوفيَّة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة.
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب، فأما قول من قال: إنه من الصوف، ولهذا يقال: تَصوَّف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه. ولكن القوم لم يختصوا بلبس: الصوف!! ومن قال: إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيدٌ في مقتضى الله.
وقول من قال: إنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق.
وتكلم الناس في التصوف: ما معناه؟ وفي الصوفي: من هو؟ فكلُّ عبر بما وقع له. واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه على حدِّ التلويح، إن شاء الله تعالى.
سمعت محمد بن أحمد بن يحيى الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سئل أبو محمد الجريري عن التصوف، فقال: الدخول في كل خلق مني والخروج من كل خلق دنيّ.

سمعت عبد الرحمن بن يسوف الأصبهاني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عمار الهمداني يقول: سمعت أبا محمد المرعشي يقول: سئل شيخي عن التصوف، فقال: سمت الجنيد وقد سئل عنه فقال: هو أن يميتك الحق عنك، ويحييك به.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الرحمن بن محمد الفارسي يقول: سمعت أبا الفانك يقول: سمعت الحسين بن منصور، وقد سئل عن الصوفي، فقال: وحداني الذات لا يقبله أحد، ولا يقبل أحداً.
وسمعته يقول: سمت عبد الله بن محمد يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت أبا علي الوراق يقول: سمعت أبا حمزة البغدادي يقول: علامة الصوفي الصادق: أن يفتقر بعد الغني، ويذلّ بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب: أن يستغني بالدنيا بعد الفقر، ويعز بعد الذلّ، ويشتهر بعد الخلفاء.
وسُئل عمرو بن عثمان المكيّ عن التصوفَّ، فقال: أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت.
وقال محمد بن علي القصاب: التصوّف: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام.
وسئل سمنون عن التصوف فقال: أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء.
وسئل رويمٌ عن التصوف فقال: استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.
وسئل الجنيد عن التصوف فقال: هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السَّرَّاج الطوسي يقول: أخبرني محمد بن الفضل قال: سمعت عليّ بن عبد الرحيم الواسطي يقول: سمعت رويم بن أحمد البغدادي يقولُ: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار إلى الله، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
وقال معروف الكرخي: التصوف: الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق.
قال حمدون القصار: اصحب الصوفية؛ فإن للقبيح عندهم وجوهاً من المعاذير.
وسُئل الخراز عن أهل التصوف فقال: قوم أعطوا حتى بسطوا، ومنعوا حتى فقدوا، ثم نودوا من أسرار قريبة ألا فابكوا علينا.
وقال الجنيد: التصوف: عنوة لا صلح فيها.
وقال أيضاً: هم أهل بيت واحد، لايدخل فيهم غيرهمُ.
وقال أيضا: التصوف: ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع.
وقال أيضاً: الصوفيَّ كالأرض، يُطرح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كلُّ مليح.
وقال أيضاً: إله كالأرض؛ يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء وكالقطر يسقى كل شيء.
وقال: إذا رأيت الصوفي يعني بظاهره، فاعلم أن باطنه خراب.
وقال سهل بن عبد الله: الصوفي: من يرى دمه هدراً، وملكه مباحاً.
وقال النوري: نعت الصوفي السكون عند العدم، والإيثار عند الوجود.
وقال الكناني: التصوف خُلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء.
وقال أبو علي الروذباري التصوف: الإناخة على باب الحبيب ون طرد عنه.
وقال أيضاً: صفوة القرب بعد كدورة البعد.
وقيل أقبح من كل قبيح صوفي شحسح.
وقيل: التصوف: كف فارغ، وقلب طيب.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلاهم.
وقال أبو منصور: الصوفي: هو المشير عن الله تعالى؛ فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلاهم.
وقال أبو منصور: الصوفي:هو المشير عن الله تعالى؛ فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى.
وقال الشبلي: الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق؛ كقوله تعالى: " واصطنعتك لنفسي " قطعه عن كل غير، ثم قال له: " لن تراني " .
وقال: الصوفية أطفالٌ في حجر الحق.
وقال أيضاً: التصوف برقة محرقةٌ.
وقال أيضاً: هو العصمة عن رؤية الكون.
وقال رويم: ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم.
وقال الجريري: التصوف مراقبة الأحوال، ورومُ الأدب.
وقال المزين: التصوف: الانقياد للحق.
وقال أبو تراب النخشبي: الصوفي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء.
وقيل: الصوفي لا يتعبه طلب، ولا يزعجه سبب.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ذو النون المصري عن أهل التصوف فقال: هم قوم آثروا الله، عز وجل، على كل شيء فآثرهم الله، عز وجل، على كل شيء.
وقال الواسطي رحمه الله: كان للقوم إشارات.. ثم صارت حركات.. ثم لم يبق إلا حسرات!! وسئل النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع وآثر الأسباب.

سمعت أبا حاتم السجستاني، رحمه الله، يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: قلت للحصري: من الصوفي عندك؟ فقال: الذي لا نقله الأرض، ولا تظله السماء.
قال الأستاذ أبو القاسم: إنما أشار إلى حل المحو.
وقيل: الصوفي من إذا استقبله حالان، أو خُلقان كلاهما حسن، كان مع الأحسن منهما.
وسئل الشبلي: لم سميت الصوفية بهذه التسمية؟.
فقال: لبقية بقيت عليهم من نفوسهم؛ ولولا ذلك لما تعلقت بهم تسمية.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ابن الجلاء: ما معنى قولهم صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيراً مجرداً من الأسباب، وكان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان يسمى صوفيَّاً.
وقال بعضهم: التصوف: إسقاط الجاهِ، وسوادِ الوجه في الدنيا والآخرة.
وقال أبو يعقوب المزايلي: التصوف: حال تضمحل فيها معالم الإنسانية.
وقال أبو الحسن السبرواني: الصوفي: من يكون مع الواردات لا مع الأوراد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: أحسن ما قيل في هذا باب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم مزابل؛ ولهذا قال رحمه الله يوماً: لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها على كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها.
وقال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: التصوف: الإعراض عن الاعتراض.
وقال الحصري: الصوفي لا يود بعد علمه؛ ولا يُعدَم بعد وجوده.
قال الأستاذ القشيري: وهذا فيه إشكال. ومعنى قوله: لا يوجد بعد عدمه أي إذا فنيت آفاته لا نعود تلك الأفات. وقوله: ولايعدم بعد وجوده، معنى:إذا اشتغل بالحق لم يسقط بسقوط الخلق، فالحادثات لا تؤثر فيه.
ويقال: الصوفي: المصطلم عنه بما لاح له من الحق.
ويقال: الصوفي: مقهور بتصريف الربوبية. مستور بتصرف العبودية.
ويقال: الصوفي لا يتغير، فإن تغير لا يتكدر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا بكر المصري يقول: سمعت الخرَّاز يقول: كنت في جامع قيروان يوم الجمعة، فرأيت رجلاً يدور في الصف ويقول.
تصدَّقوا عليَّ؛ فقد كنت صوفياً فضعنت..

فرفقته بشيء. فقال لي. مر، ويلك!! ليس هذا من ذلك!!. ولم يقبل الرفق.

تعليقات

المشاركات الشائعة