مقامات الصوفية 2

باب الخشوع والتواضع
قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال: أخبرنا أبو الفضل سفيان بن محمد الجوهري، قال حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا يحيى بن حماد قال: حدثنا شعبة، عن أبان بن ثعلب، عن فضل الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من قلبه مثقال ذرَّة من إيمان، فقال رجل يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبة حسناً. فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق، وغمص الناس " .

وأخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن جابر قال حدثنا أبو إبراهيم قال: حدثنا علي ابن مسهر، عن مسلم الأعور، عن أنس بن مالك، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشيع الجنائز، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة ولانضير على حمار مخطوم بحبل من ليف. عليهإكاف من ليف " .
الخشوع: الانقياد للحق.
والتواضع: هو الاستسلام للحق، وترك الاعتراض على الحكم.
وقال حذيفة: أول ما تفقدون من دينكم: الخشوع.
وسئل بعضم عن الخشوع، فقال: الخشوع: قيام القلب بين يدي الحق، سبحانه، بهم مجموع.
وقال: من علامات الخشوع للعبد: أنه إذا أغضب أو خولف، أو رد عليه أن يستقبل ذلك بالقبول.
وقال بعضهم: خشوع القلب: قيد العيون عن النظر.
وقال محمد بن علي الترمذي: الخاشع من خمدت نيران شهوته، وسكن دخان صدره، وأشرق نور التعظيم في قلبه، فماتت شهوته، وحيي قلبه؛ فخشعت جوارحه.
وقال الحسن البصري: الخشوع: الخوف الدائم اللازم للقلب.
وسئل الجنيد عن الخشوع، فقال: تذلل القلوب لعلام الغيوب.
قال الله تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً " سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول ما معناه: متواضعين، متخاشعين.
وسمعته يقول: هم الذين لا يستحسنون شِسع نعالهم إذا مشوا.
واتفقوا على أن الخشوع محله القلب.
ورأى بعضهم رجلاً منقبض الظاهر، منكسر الشاهد، قد زوى منكبيه، فقال له: يا فلان، الخشوع هاهنا، وأشار إلى صدره، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يعبث في صلاته بلحيه، فقال: " لو خشع قلب هذه لخشعت جوارحه " .
وقيل، شرط الخشوع، في الصلاة أن لا يعرف من على يمينه ومن على شماله.
قال الأستاذ الإمام: ويحتمل أن يقال: الخشوع، إطراق السريرة بشرط الأدب بمشهد الحق سبحانه وتعالى.
ويقال: الخشوع، ذبول يرد على القلب عنداطلاع الرب.
ويقال: الخشوع، ذوبان القلب وانخناسه عند سلطان الحقيقة.
ويقال: الخشوع، مقدمات غلبات الهيبة.
ويقال: الخشوع: قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة.
وقال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يرى على الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه.
وقال أبو سليمان الداراني: لو أجتمع الناس على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي لما قدروا عليه.
وقيل: من لم يتضع عند نفسه لم يتضع عند غيره.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسجد إلى على التراب.
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن يزيد الفرائض، قال: حدثنا محمد بن كثير، وهو المصيصي، عن هارون بن حيان، عن حصيف، عن سعيد بن جبير، عن أبن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر " .
وقال مجاهد، رحمه الله: لما أغرف الله سبحانه، قوم نوح شمخت الجبال، وتواضع الجودي، فجعله الله سبحانه، قراراً لسفينة نوح عليه السلام.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يسرع في المشي، ويقول: إنه أسرع للحاجة، وأبعد من الزهو.
وكان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، يكتب ليلة شيئاً، وعند ضيف، فكاد السراج. ينطفىء، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه، فقال: لا: ليس من الكرم استخدام الضيف.
قال: فأنبِّه الغلام.
قال: لا، هي أول نومة نامها.
فقالم إلى البطة، وجعل الدهن في المصباح، فقال الضيف: قمت بنفسك يا أمير المؤمنين!! فقال له عمر: ذهبتُ وأنا عمر، ورجعت وأناعمر.

وروي أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يعلف البغير، ويقم البيت، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويحلب الشاة، ويأكل مع الخادم، ويطحن معه إذا أعيا، وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى أهله، وكان يصافح الغني والفقير، ويسَّلم مبتدئاً، ولا يحتقر ما دعي إليه، ولو إلى حشف التمر، وكان هين المؤنة، لين الخلق؛ كريم الطبيعة جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة؛ متواضعاً من غير مذلة؛ جواداً من غير سرف، رقيق القلب؛ رحيماً بكل مسلم، لم يتجشأ قط من شبع؛ ولم يمد يده إلى طمع " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي؛ رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر الصائغ يقول: سمعت مردويه الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: قراء الرحمن، عز وجل، أصحاب خشوع وتوضاع، وقراء القضاة أصحاب عجب وتكبر.
وقال الفضيل بنعياض: من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
وسئل الفضيل عن التواضع، فقال: تخضع للحق، وتنقاد له وتقبله ممن قاله.
وقال الفضيل: أوحى الله؛ سبحانه وتعالى؛ إلى الجبال: أني مكلم على واحد منكم نبياً. فتطاولت الجبال؛ وتواضع طورسينا؛ فكلم الله سبحانه علية موسى، عليه السلام، لتواضعه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر، يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك، يقول: سئل الجنيد عن التواضع؛ فقال: خفض الجناح للخلق؛ ولين الجانب لهم.
وقال وهب: مكتوب في بعض ما أنزل الله تعالى من الكتب: " إني أخرجت الذر من صلب آدم، فلم أجد قلباً أشدَّ تواضعاً من قلب موسى عليه السلام، فلذلك اصطفيته وكلمَّته " .
وقال ابن المبارك: التكبير على الأغنياء، والتواضع للفقراء من التواضع.
وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعاً؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً؛ ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه.
وقيل: التواضع نعمة لا يحسد عليها، والكبر محنة لا يرْحم عليها، والعزُّ في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: الشرف في التواضع، والعزُّ في التقوى، والحرية في القناعة.
وسمعته أياَ يقول: سمعت الحسن الساوي يقول: سمعت ابن الأعرابي يقول: بلغني أنَّ سفيان الثوري قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سُنى.
وقال يحيى بن معاذ: التواضع حسن في كلِّ أحد لكنه في الآغنياء أحسن، والتكبر سمج في كل أحد لكنه في الفقراء أسمج!! وقال ابن عطاء: التواضع: قبول الحقِّ ممن كان.
وقيل: ركب زيد بن ثابت، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال ل مَه يا ابن عمِّ رسول الله. فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا!! فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلتْ في نفسي نخوة فأحببتُ أن أكسرها. ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: رؤي أبو هريرة، وهو أمير المدينة، وعلى ظهره حزمة حطب، وهو يقول: طرقوا للأمير.
وقال عبد الله الرازي: التواضع ترك التمييز في الخدمة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن أحمد بن هارون يقول: سمت محمد بن العباس الدمشقي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وقال يحيى بن معاذ: التكبر على من تكبر عليك بمالة تواضع.
وقال الشبلي رحمه الله: دلي عطِّل ذل اليهود.
وجاءه رجل، فقال له الشبلي: ما أنت؟ فقال: يا سيدي النقطة التي تحت الباء.
فقال له: أنت شاهدي، ما لم تجعل لنفسك مقاماً.
وقال ابن عباس، رشي الله عنهما، من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه.
وقال بشر: سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم.

وقال شعيب بن حرب: بينا أنا في الطواف إذ لكزني إنسان بمرفقه، فالتفت إليه، فإذا هو الفضيل بن عيضا، فقال: يا أبا صالح، إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر مني ومنك فبئس ما ظننت!! وقال بعضهم: رأيت في الطواف إنساناً بين يديه شاكريه يمنعون الناس لأجله عن الطواف.. ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل الناس شيئاً. فتعجبت منه، فقال لي: أنا تكبرت في موضع يتواضع الناس هناك، فابتلاني الله، سبحانه، بالتذلل في موضع يترفع فيه الناس.
وبلغ عمر بن عبد العزيز أن ابناً له اشترى فصاً بألف درهم فكتب إليه عمر: " بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم، فإذا أتاك كتابي هذا فبع الخاتم، وأشبع ألف بطن واتخِّذ خاتماً من درهمين، واجعل واكتب عليه " رحم الله أمرءاً عرف قدر نفسه " .
وقيل: عرض على بعض الأسراء مملوك بألف درهم، فلما أحضر الثمنَ استكثره فبدا له في شرائه فردَّ الثمن إلى الخزانة! فقال العبد: يا مولاي، اشترني، فإن فيَّ بكل درهم من هذه الدراهم خصلة تساوي أكثر من ألف درهم، فقال: وما هي؟ فقال: أقلها وأدناها مالو اشتريتني وقدمتني على جمع مماليكن لا أغلظ في نفسي، وأعلم أني أنا عبدك. فاشتراه.
وحكي عن رجاء بن حيوة أنه قال: قوَّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب بإثني عشر درهماً؛ وكانت: قباء، وعمامة، وقميصاً، وسرويل، وخفين، وقلنسوة.
وقيل: مشى عبد الله بن محمد بن واسع مشياً لا يحمد فقال له أبوه: وتدري بكم اشتريتُ أمك بثلاثمائة درهم، وأبوك لا أكثر الله في المسلمين مثله أباً، وأنت تمشي هذه المشية!! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن الفراء يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: سمعت حمدون القصار يقول: التواضع: أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة، لا في الدين، ولا في الدنيا.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: مرة كنت في سفينة، وفيها رجل مضحك كان يقول: كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي، ويهزني، فيسرني ذلك؛ لأنه لم يكن في السفينة أحدٌ أحقر في عينه مني.
والأخرى: كنت عليلاً في مسجد، فدخل المؤذن، وقال: أخرج. فلم أطق، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج المسجد.
والثالثة: كنت بالشام، وعليَّ فرو، فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل، لكثرته، فسرني ذلك.
وفي حكاية أخرى عنه قال: ما سررت بشيء كسروري أني كنت يوماً جالساً فجاء إنسان وبال علي.
وقيل: تشاجر أبو ذر وبلال، رضي الله عنهما، فعير أبو ذكر بلالاً بالسواد. فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابا ذر، إنه بقي في قلبك منكبر الجاهلية شيء.
فالقى أبو ذرِّ نفسه.. وحلف أن لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه. فلم يرفع حتى فعل بلال ذلك.
ومر الحسن بن علي، رضي الله عنهما، بصبيان معهم كسر خبز، فاستضافوه، فنزل، وأكل معهم. ثم حملهم إلى منزله، وأطعمهم، وكساهم، وقال: اليد لهم، لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني،ونحن نجد أكثر منه.
وقيل: قسم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الحلل بين الصحابة من غنيمة، فبعض إلى معاذ حلة يمانية، فباعها واشترى ستة أعبد، وأعتقهم. فبلغ عمر ذلك، فكان يقسم الحلل بعده؛ فبعث إليه حلة دون تلك، فعاتبه معاذ، فقال له عمر: لا معاتبة، لأنك بعت الأولى.
فقال معاذ: وما عليك. ادفع إلي نصيبي، وقد حلفت لأضربن بها رأسك.
فقال عمر: هذا رأسي بين يديك، وقد يرفُق الشيخ بالشيخ.
باب مخالفة النفس
وذكر عيوبها قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه وهى ونهى النفس عن الهوى؛ فإن الجنة هي المأوى " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد قال: أخبرنا تمام قال: حدثنا محمد بن معاوية النيسابوري قال: حدثنا علي بن أبي علي بن عتبة بن أبي لهب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أخوف ما أخاف علي أمتي: باع الهنى، وطول الأمل، فأما انباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة " .
ثم اعلم أن مخالفة النفس رأس العبادة. وقد سئل الشايخ عن الإسلام، قالوا: ذبح النفس بسيوف المخالفة.
واعلم أن من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه.

وقال ذو النون المصري: مفتاح العبادة:الفكرة، وعلامة الإصابة: مخالفة النفس والهوى، ومخالفتهما ترك شهواتهما.
وقال ذو النون المصري: مفتاح العبادة للفكر، وعلامة الإصابة: مخالفة النفس والهوى، ومخالفتهما ترك شهواتهما.
وقال ابن عطاء: النفس مجبلة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة، فمن أطلق عنانها فهو شريكها معها في فسادها.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عبد الحمن الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: النفس الأمارة بالسوء: هي الداعية إلى المهالك، المعينة للأعداء، المتبعة للهوى، المتهمة بأصناف الأسواء.
وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه كان مغروراً ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
وكيف يصح لعاقل: الرضا عن نفسه، والكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل، يقول: " وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت إبراهيم بن مقسم ببغداد يقول: سمعت ابن عطاء يقول: قال الجنيد: أوقت ليلة، فقمت إلى وردي، فلم أجد ما كنت أجده من الحلاوة والتلذذ بمناجاتي لربي، فتحير، فأردت القيام بما لم اقدر عليه، فقعدت، فلم أطق القعود، ففتحت الباب، وخرجت، فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق. فلما أحس بي، رفع رأسه، وقال: يا أبا القاسم، إلى الساعة فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ فقال: بلى قد سألت محرك القلوب أن يحرك إلى قلبك.
فقلت: فقد فعل فما حاجتك؟ فقال: متى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها.
فأقبل على نفسه، وقال: اسمعي، قد أجبتك بهذا الجواب سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد، فقد سمعت، وانصرفت عني ولم أعرفه. ولم أقف عليه بعد.
وقال أبو بكر الطمستاني: النعمة العظمى: الخروج من النفس؛ لأنه أعظم حجاب بينك وبين الله عز وجل.
وقال سهل بن عبد الله: ما عبد الله بشيء مثل مخالفة النفس والهوى.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا عمر الأنماطي يقول: سمعت ابن عطاء، وقد سئل عن أقرب شيء إلى مقت الله تعالى، فقال:رؤية النفس وأحوالها، وأشدُّ من مطالعة الأعواض على أفعالها.
وسمعته يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت إبراهيم الخوَّاص يقول: كنت في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته. فدنوت منه، فأخذت منه واحدة، فشققتها، فوجدتها حامضة، فمضيت، وتركت الرمان، فرأيت رجلا مطروحاً. قد اجتمع عليه الزنابير، فقلت:اللام عليك، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، فقلت له: وكيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله تعالى،لا يخفى عليه شيء. فقلت: أرى لك حالا مع الله تعالى، فلو سألته أن يحميك ويقيك الأذى من هذه الزنابير؟ فقال: وأنا أرى لك حالا مع الله تعالى، فلو سألته أن يقيك شهوة الرمان!! فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة، ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا. فتركته، ومضيت.
وحكي عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: ما بت تحت سقف، ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة، وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس، فلم، يتفق.. فكنت وقتاً بالشام، فحمل إلي غضارة فيها عدس، فتناولت منه، وخرجت... فرأيت قوارير معلقة فيها شيء شبه نموذجات .. فظننته خلا.. فقال لي بعض الناس: إيش تنظر هذه نموذجات الخمر؛ وهذه الدنان خمر.
فقلت في نفسي: لزمني فرض.، فدخلت حانوت الخمار، ولم أزل أصب تلك الدنان وهو يتوهم أني أصبها بأمر السلطان.. فلما علم، حملني إلى ابن طولون.. فأمر بضري مائتي خشبة.. وطرحني في السجن.. فبقيت فيه مدَّة، حتى دخل أبو عبد الله المغربي أستاذي ذلك البلد؛ فشفع لي، فلما وقع بصره علي، قال: إيش فعلت؟ فقلت: شعبة عدس ومائتي خشبة فقال لي: نجوت مجاناً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري السقطي يقول:

إن نفسي تطالبني، منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة، أن أغمس جزرة في دبس فما أطعتها.
وسمعته يقول: سمعت جدي يقول: رضاه من نفسه بما هو فيه.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الحسين ابن علي القرمسيني يقول: وجه عصام بن يوسف البلخي شيئاً إلى حاتم الأصمِّ، فقبله منه.
فقيل له: لم قبلته؟.
فقال: وجدت في أخذه ذليِّ وعزه، وفي رده عزي وذله؛ فاختر عزه على عزي وذلي على ذله.
وقيل لبعضهم: إني أريد ن أحج على التجريد.
فقال له: جرد أولاً قلبك عن السهو، ونفسك عن اللهو؛ ولسانك عن اللغو، ثم اسلك حيث شئت.
وقال أبو سليمان الداراني: من أ؛سن في ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفىء في ليله، ومن صدق في ترك شهوة كفى مؤنتها، والله أكرم من أن يعذب قلباً ترك شهوة لأجله.
وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: يا داود، حذر، وأنذر أصحابك أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة.
ورؤى رجل جالساً في الهواء، فقيل له: بم نلت هذا؟ فقال: تركت الهوى فسخر لي الهواء.
وقيل: لو عرض للمؤمن ألف شهوة لأخرجها بالخوف، ولو عرض للفاخر شهوة واحدة لأخرجته من الخوف.
وقيل: لا تضع زمامك في يد الهوى، فإنه يقودك إلى الظلمة.
وقال يوسف بن أسباط: لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.
وقال الخواص: من ترك شهوة، فلم يجد عوضها في قلبه، فهو كاذب في تركها.
وقال جعفر بن نصير: دفع إلى الجنيد درهماً وقال: اشتر لي به التين الوزيري، فاشتريته له، فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها في فمه، ثم ألقاها، وبكى، وقال: إحمله.
فقلت له في ذلك، فقال: هتف في قلبي أما تستحي؟ شهوة تركتها من أجلي ثم تعود إليها.
وأنشدوا:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريع كل هوى صريع هوان
واعلم ن للنفس أخلاقاً ذميمة، فمن ذلك: الحسد.
باب الحسد
قال الله تعالى: " قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق " .
ثم قال: " ومن شر حاسد إذا حسد " .
فختم السورة التي جعلها عوذة بذكر الحسد.
أخبرنا أبو الحسين الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا اسماعيل بن الفضل قال: حدثنا يحيى بن مخلد، قال: حدثنا معاً في ابن عمران، عن الحارث بن شهاب، عن معبد، عن ابن مسعود قال: ن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هنَّ أصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن: إياكم والكبر، فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم.
وإياكم والحرص، فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة.
وإياكم والحسد، فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسداً.
وقال بعضهم: الحاسد جاحد، لأنه لا يرضى بقضاء الواحد.
وقيل: الحسود لا يسود.
وقيل في قوله تعالى: " قل نما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " ، قيل ما بطن: الحسد. وفي بعض الكتب: الحاسد عدو نعمتي.
وقيل: أثر الحسد يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك.
فقال: تركتُ الحسد فبقيت.
وقال ابن المبارك: الحمد لله الذي لم يجعل في قلب أميري ما جعله في قلب حاسدي.
وفي بعض الآثار إن في السماء الخامسة ملسكاً يمر به عمل عبد، له ضوء كضوء الشمس، فيقول له الملك: قف فأنا ملك الحسد. اضرب به وجه صاحبه، فإنه حاسد.
وقال معاوية: كل إنسان أقدر على أن أرضيه، إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة.
ويقال: الحاسد ظالم غشوم، لا يبقي ولا يذر.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: غم دائم ونفس متتابع.
وقيل: من علامات الحاسد أن يتعلق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة إذا نزلت.
وقال معاوية: ليس في خلال الشرخلة أعدل من الحسد، تقتل الحاسد قبل المحسود.
وقيل: أوحي الله، سبحانه، إلى سليمان بن داود، عليهما السلام: أوصيك بسبعة أشياء: لا تغتابن صالح عبادي، ولا تحسدن أحداً من عبادي. فقال سليمان: يا رب، حسبي.
وقيل رأى موسى عليه السلام، رجلاً عند العرش فغبطه، فقال: ما صفته؟ فقيل: كان لا يحسد الناس على ما آناهم الله من فضله.
وقيل: الحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت.
وقيل: إذا أردتَ أن تسلم من الحاسد، فلبس عليه أمرك.

وقيل: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه.
وقيل: إياك أن تتعنى في مودة من يحسدك، فإنه لا يقبل إحسانك وقيل. إذا أراد الله تعالى أن يسلط على عبد عدواً لا يرحمه سلط عليه حاسده: وأنشدوا:
وحسبك من حادث بامري ... ترى حاسديه له راحمينا
وأنشدوا:
كلُّ العداوة قد ترجى إمانتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال ابن المعتز:
قل للحسود إذا تنفس: طعنة ... يا ظالماً وكأنه مظلوم
وأنشدوا:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
ومن الأخلاق المذمومة للنفس: اعتياد الغيبة.
باب الغيبة
قال الله سبحانه: " ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً " الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل، قال: حدثنا علي بن الحسن قال: حدثنا إسحق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند، قال حدثنا محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة: أن رجلاً قام، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك جالس، فقال بعض القوم: ما أعجز فلاناً، فقال صلى الله عليه وسلم: " أكلتم أخاكم واغتبتموه " .
وأوحى الله، سبحانه، إلى موسى عليه السلام: " من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار " .
وقال عوف: دخلت على ابن سيرين، فتناولت الحجاج، فقال ابن سيرين: إن الله، تعالى، حكم عدل؛ فكما يأخذ من الحجاج يأخذ للحجاج، وإنك إذا لقيت الله عز وجلَّ غداً كان أصغر ذنب أصبته أشدَّ عليك من أعظم ذبن أصابه الحجَّاج.
وقيل: دعى إبراهيم بن أدهم إلى دعوة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل؟؟ فقال إبراهيم: إنما فعل بي هذا نفسي، حيث حضرت موضعاً يغتاب فيه الناس، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام.
وقيل: مثل الذي يغتاب الناس، كمثل من نصب منجنيقاً، يرمي به حسناتِه شرقاً وغرباً؛ يغتاب واحداً خراسانياً، وآخر تركياً، فيفرق حسناته، ويقوم لا شيء معه؟؟ وقيل: يؤتى العبد يوم كتابه، فلا يرى فيه حسنة، فيقول: أين صلاتي، وصيامي، وطاعتي؟؟؟ فيقال: ذهب عملك كله.
وقيل: من اغتيب بغيبة غفر الله له نصف ذنوبه.
وقال سفيان بن الحسين: كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فنلت من إنسان.
فقال لي: هل غزوت في هذا العام الترك والروم؟ فقلت: لا.
فقال: سلم منك الترك والروم، وما سلم منك أخوك المسلم؟ وقيل: يعطى الرجل كتابه. فيرى فيه حسنات لم يعملها. فيقال له: ذا بما اغتابك الناس وأنت لم تشعر.
وسئل سفيان الثوري عن قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض أهل البيت اللحميين " . فقال: هم الذين يغتابون الناس: يأكلون لحومهم.
وذكرت الغيبة عند عبد الله بن المبارك، فقال: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق بحسناتي: وقال يحيى بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تسره فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه: وقيل للحسن البصري: إن فلاناً اغتابك: فبعث إليه طبق حلواء وقال: بلغني أنك أهديت إلى حسناتك، فكافأتك: أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: أخبرنا أحمد بن عمرو القطوني قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري قال: حدثنا الربيع بن بدر، عن أبان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له " .
سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: سمعت أبا طاهر محمد بن أسيد الرقي يقول، سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول، قال الجنيد: كنت جالساً في مسجد الشونزية أنتظر جنازة أصلي عليها، وأهل بغداد، على طبقاتهم، جلوس ينتظرون الجنازة، فرأيت فقيراً عليه أثر النسك يسأل الناس، فقلت في نفسي؛ لو عمل هذا عملاً يصون به نفسه كان أجمل به.
فلما انصرفت إلى منزلي، وكان لي شيء من الورد بالليل، حتى البكاء والصلاة وغير ذلك، فثقل على جميع أورادي. فسهرت وأنا قاعد، فغلبتني عيناني.. فرأيت ذلك الفقير.. جاءو به على خوان ممدود. وقالوا لي: كل لحمه؛ فقد اغتبته!. وكشف لي عن الحال، فقلت: ما اغتبته! إنما قلت في نفسي شيئاً، فقيل لي:

ماأنت ممن يرضى منك بمثله، إذهب فاستحله، فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته في موضع يلتقط من الماء، عند تزايد الماء، أورانا من البقل ما تساقط من غسل البقل، فسلمت عليه، فقال يا أبا القاسم، تعود؟ فقلت: لا.
فقال: غفر الله لنا ولك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا طاهر الإسفرايني يقول: سمعت أيا جعفر البلخي يقول: كان عندنا شابمن أهل بلخ، وكان يجتهد؛ ويتعبَّد؛ إلا أنه كان أبداً يغتاب الناس ويقول:فلان كذا، وفلان كذا، وفلان كذا،.. فرأيته يوماً عند المخنثين الغسالين، خرج من عندهم.
فقلت: يا فلان، ما حالك؟ فقال: تلك الوقيعة في الناس أوقعتني إلى هذا، ابتليتُ بمخنث من هؤلاء، وأنا أخدمهم من أجله، وتلك الأحوال كلها ذهبت، فادع الله أن يرحمني.
باب القناعة
قال الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدَّثنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، قال: حدثنا محمد بن موسى الحلواني، قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن المنكدر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القناعة كنزُ لا يفنى " .
أخبرنا أبو الحسن الأهوازي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب المقري قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني؛ قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن أبي رجاء؛ عن برد بن سنان، عن مكحول، عن وائلة بن الأسقع؛ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس؛ وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً وأحسن من جاورك تكن مسلماً، وأقل الضحك، فن كثرة الضحك تميت القلب " .
وقيل: الفقراء أموات، إلا من أحياه الله تعالى بعزَّ القناعة.
وقال بشر الحافي: القناعة: ملك لا يسكن إلا في قلب مؤمن.
سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد الشعراني يقول: سمعت اسحق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد، هذا أول الرضا وهذا أو الزُّهد.
وقيل القناعة: السكون عد عدم المألوفات.
وقال أبو بكر المراغي: العاقل من دبرَّ أمر الدنيا بالقناعة والتسويف وأمر الآخرة بالحرص والتعجيل، وأمر الدين بالعلم والاجتهاد.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: القناعة: ترك التشوف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود.
وقيل في معنى قوله تعالى: " ليرزقنهم الله رزقاً حسناً " يعني: القناعة.
وقال محمد بن علي الترمذي: القناعةُ: رضا النفس بما قسم لها من الرزق.
ويقال: القناعة: الاكتفاء بالموجوج، وزوال الطمع فيما ليس بحاصل.
وقال وهب: إن العزَّ والغنى خرجاً يجولان، يطلبان رفيقاً؛ فلقيا القناعة، فاستقرَّا.
وقيل: من كانت قناعته سمينة طابت له كل مَرقه ومن رجع إلى الله تعالى على كل حال رزق الله القناعة.
وقيل: مر أبو حازم بقصاب معه لحم سمين، فقال: خذ يا أبا حازم فإنه سمين. فقال: ليس معي درهم.
فقال: أنا أنظرك. فقال: نفسي أحسن نظرة لي منك.
وقيل لبعضهم: من أقناع الناس؟ فقال: أكثرهم لناس معونة، وأقلهم عليهم مؤونة.
وفي الزبور: القانع غنى وإن كان جائعاً.
وقيل: وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع: العز في الطاعة، والذل في المعصية، والهيبة في قيام الليل، والحكمة في البطن الخالي، والغنى في القناعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت نصر ابن محمد يقول: سمعت سليمان بن أبي سليمان يقول: سمعت أبا القاسم بن أبي نزار يقول: سمعت إبراهيم المارستاني يقول: انتقم من حرّصك بالقناعة، كما تنتقم من عدوِّك بالقصاص.
وقال ذو النون المصري: من قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرنه.
وقيل: من قنع استراح من الشغل. واستطال على الكل.
وقال الكتاني: من باع الحرص بالقناعة ظفر بالعزِّ والمروءة.
وقيل: من تبعت عيناه ما في أيدي الناس طال حزنه.
وأنشدوا:
وأحسنُ بالفتى من يوما عار ... ينال به الغني كرم وجوع
وقيل: رأى رجل حكيماً يأكل ما تساقط من البقال على راس ماء فقال:

لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا.
فقال الحكيم: وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.
وقيل: " العقاب عزيز في مطاره، لا يسمو إليه طرف صياج. ولا طعمه، فإذا طمع في جيفة علقت في حبالة، نزل من مطاره، فتعلق في حباله " .
وقيل: لما نطق موسى عليه السلام، بذكر الطمع فقال: " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
قال الخضر له: " هذا فراق بيني وبينك " .
وقيل: لما قال ذلك موسى عليه السلام وقف بين يدي موسى والخضر، عليهما السلام ظبي وكانا جائعين، الجانب الذي يلي موسى عليه السلام غير مشوي، والجانب الذي يلي الخضر مشوي.
وقيل في قوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم " : هو القناعة في الدنيا، " وإن الفجار لفي جحيم " ، هو: الحرص في الدنيا.
وقيل في قوله تعالى: " فكُّ رقبة " أي: فكرها من ذل الطمع.
وقيل في قوله تعالى: " إنما يردي الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " يعني: البخل، والطمع. " ويطهركم تطهيراً " يعني: بالسخاء والايثار.
وقيل في قوله تعالى: " هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " أي: مقاماً في القناعة انفرد به من أشكالي، وأكون راضياً فيه بقضائك.
وقيل في قوله تعالى: " لأعذبنه عذاباً شديداً " يعني: لآسلبنه القناعة، ولأبتلينه بالطمع، يعني: أسأل الله تعالى، أن يفعل به ذلك.
وقيل لأبي يريد: بم وصلت إلى ما وصلت؟ فقال: جمعت أسباب الدنيا، فربطتها بحبل القناعة، ووضعتها في منجنيق الصدق، ورميت بها في بحر اليأس فاسترحت.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان بسامرة يقول: سمعت خالي عبد الوهاب يقول: كنت جالساً عند الجنيد، أيام التبسم، وحوله جماعة كثيرون من العجم والمولدين.
فجاءه إنسان بخمسمائة دينار، ووضعها بين يديه، وقال: تفرِّقها على هؤلاء الفقراء.
فقال: ألك غيرها؟ فقال نعم، لي دنانير كثيرة. فقال: أتريد غير ما تملك؟ فقال: نعم: فقال له الجنيد، خذها، فإنك أحو إليها منَّا. ولم يقبلها.
باب التوكل
قال الله عز وجل: " ومن يتوكل على الله فهو حسيه " .
وقال: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
وقال: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " .
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: حدثنا يونسف بن حبيب بن عبد القاهر قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش؛ عن عبد الله بن مسعود؛ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت الأمم بالموسم، فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل لي: أرضيت؟ فقلت: نعم. قال: ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، لا يكتوون، ولا يتطيرون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن الأسدي، فقال: يا رسول الله، أدع أن يجعلني منهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ اجعله منهم.
فقال آخر، فقال: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " سبقك بها عكاشة " .
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت أبا بكر الوجيهي يقول: قال أبو علي الروذباري قلت: لعمرو بن سنان: أحك عن سهل بن عبد الله حكاية،فقال إنه قال: علامة المتوكل ثلاث لا يسأل، ولا يرد، ولا يحبس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت منصور ابن عبد الله يقول: سمعت أبا عبد الله الشرازي يقول: سمعت أبا موسى الديبلي يقول: قيل لأبي يزيد؛ ما التوكل؟ فقال لي: ما تقول أنت؟ فقلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك.
فقال أب يزيد: نعم؛ هذا قريب؛ ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة ينتعمون وأهل النار في النار يعذبون: ثم وقع لك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكل.
وقال سهل بن عبد الله: أول مقام في التوكل: نيكون العبد بين يدين الله عزَّ وجل كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف شاء؛ لا يكون له حركة ولا تدبير.
وقال حمدون: التوكل: هو الاعتصام بالله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول:سمعت أبا بكر محمد بن أحمد البلخي يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد خضرويه يقول: قال رجل لحاتم الأصمَّ: من أين تأكل؟

فقال: " ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون " .
واعلن أن التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب، بعدما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى؛ فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا غيلان بن عبد الصمد قال: حدثنا إسماعيل بن مسعود الجحدري قال: حدثنا خالد بن يحيى قال: حدثنا عمي المغيرة بن أبي قرة، عن أنس بن مالك قال: " جاء رجل على ناقة له، يا رسول الله، أدَعها وأتوكل؟. فقال: اعقلها وتوكلَّ " .
وقال إبراهيم الخواص:من صحَّ توكله في نفسه، صحَّ توكله في غيره.
وقال بشر الجافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، ويكذب على الله تعالى، لو توكلَّ على الله لرضي بما يفعله الله به.
وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله تعالى وكيلاً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن علي بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن الصامت يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: بينما أنا أسير في البادية، وإذا بهاتف يهتف، فالتفت إليه، فإذا أعرابي يسير فقال لي: يا إبراهيم: التوكل عندنا: أقم عندنا حتى يصح توكلك، ألم تعلم أن رجاءك لدخول بلد فيه أطعمة يحملك؟، إقطع رجاءك عن البلدان، وتوكل.
وسمعته يقول سمعت محمد بن أحمد الفلاسي يقول: سمعت ابن عطاء، وقد سئل عن حقيقة التوكل، فقال: أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: شرط التوكل ما قاله أبو تراب النخشبي، وهو: طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر وإن منع صبر.
وكما قال ذو النون: التوكل: ترك تدبير النفس، والإنخلاع منالحول والقوة، وإنما يقوي العبد على التوكل إذا علم أن الله سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت أحمد بن محمد القرمسيني يقول: سمعت الكتانيِّ يقول: سمعت أبا جعفر ابن أبيالفرج يقول: رأيت رجلاًُ يعرف بجمل عائشة مع الشطار يضرب بالسياط، فقلت له: أيّ وقت يكون ألم الضرب عليكم أسهل؟ فقال: إذا كان منُ ضربنا لأجله يرانا.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد يقول: قال الحسين بن منصور لإبراهيم الخواص: ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفوز؟ قال بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه.
فقال الحسين: أفنيت عُمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: التوكل: ما قاله أبو بكر الدقاق، وهو: رد العيش إلى يوم واحد، واسقاط همِّ غد.
قال: وهو: كما قال سهل بن عبد الله، التوكل: الاسترسال مع الله تعالى، على ما يريد.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن جعفر بن محمد يقول سمعت أبا بكر البرذعي يقول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: الوكل على الله تعالى بكمال الحقيقة، ما وقع لإبراهيم، عليه السلام، في الوقت الذي قال لجبريل، عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه بالله تعالى، فلم يرمع الله غير الله عزَّ وجلَّ.
وسمعت يقول: سمعت سعيد بن أحمد بن محمد يقول سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول، سمعت سعيد بن عثمان الخياط يقول، سمعت ذا النون المصري، وسال رجل فقال، ما التوكل. فقال: خلع الأرباب وقطع الأسباب.
فقال السائل: زدني.
فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد المعلم يقول. سمعت عبد الله ابن المبارك يقول: سمعت حمدون القصار، وسئل عن التوكل، فقال: إن كان لك عشرة آلاف درهم، وعليك دانق دين، لم تأمن أن تموت ويبقى ذلك في عنقك، ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين،ومن غير أن تترك لهاوفاء، لا تيأس من الله تعالى أن يقضيه عنك.
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال: التعلق بالله تعالى في كل حال.
فقال السائل: زدني. فقال: ترك كل سبب يوصّل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولىِّ لذلك.

وقال سهل بن عبد الله: التوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسبُّ سنته؛ فمن بقي على حاله، فلا يتركن سنتَّه: وقال أبو سعيد الخراز: التوكل: اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب.
وقيل: التوكل: أن يستوي عندك الإكثار والتقلل.
وقال ابن مسروق: التوكُّل: الاستسلام لجريان القضاء والأحكام.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله الرازيَّ يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: التوكل: الاكتفاء بالله، تعالى، مع الاعتماد عليه.
وسمعته: يقول: سمعت محمد بن غالب يحكي عن الحسين بن منصور قال: المتوكل المحق لا يأكل شيئاً وفي البلد من هو أحق به منه.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت منصور بن أحمد الحربي يقول حكي لنا ابن أبي شيخ قال: سمعت عمر بن سنان يقول: اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا له: حدثنا بأجب ما رأيته في أسفارك، فقال: لقيني الخضر عليه السلام، فسألني الصحبة، فخشيت أن يُفسد عليَّ توكلي بسكوني إليه. ففارقته.
وسئل سهل بن عبد الله عن التوكل، فقال: هو قلب عاش مع الله تعالى بلا علاقة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله، يقول: للمتوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض.
فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضي بحكمه.
وسمعته يقول: التوكل: بداية، والتسليم: واسطة، والتفويض نهاية.
وسئل الدقاق عن التوكل، فقال: الأكل بلا طمع.
وقال يحيى بن معاذ: لبس الصوف حانوت، والكلام في الزهد حرفة، وصحبة القوافل تعرض، وهذه كلها علاقات.
وجاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال، فقال: ارجع إلى بيتك، فمن ليس رزقه على الله، تعالى، فاطرده عنك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: قرأت على محمد بن الحسين؛ قال سهل بن عبد الله: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: قال إبراهيم الخواص: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصاً وحشياً.. فقلت: جنى أم نسي؟ فقال: جنى. فقلت إلى أين؟ فقال: إلى مكة. فقلت: بلازاد؟ فقال. فينا أيضاً من يسفر على التوكل فقلت: إيش الوكل؟ فقال: الأخذ من الله تعالى.
وسمته يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت الفرغاني يقول: كان إبراهيم الخواص مجرداً في التوكل، يدقق فيه، وكان لا يفارقه إبرة وخيوط وكورة. ومقراض فقيل له: يا أبا اسحاق، لم تحمل هذا وأنت تمتنع من كل شيء؟ فقال: مثل هذا لا ينقض التوكل، لأن الله، سبحانه، علينا فرائض، والفقير لا يكون عليه غلا ثوب واحد؛ فربَّما يتَّخرق ثوبه، فإن لم يكن معه إبرة وخيوط تبدو عورته، فتفسد عليه صلاته، وإذا لم يكن معه ركوة تفسد عليه طهارته، فإذا رأيتَ الفقير بلا ركوة ولا إبرة، ولا خيوط، فاتهمه في صلاته.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله؛ يقول: التوكل: صفة المؤمنين، والتسليم: صفة الأولياء، والتفويض: صفة الموحدِّين، فالتوكل: صفة العوامِّ، والتسليم: صفة الخواص: والتفويض صفة خواص الخواص.
وسمعته يقول؛ التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم عليه السلام، والتفويض: صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحدَّاد يقول: مكثت بضع عشرة سنة أعتقد التوكل وأنا أعمل في السوق، وآخذ كل يوم أجرتي؛ ولا أنتفع منها بشربة ماء، لا بدخلة حمام ولكن كنت أجيء بأجرتي إلى الفقراء في الشونزية وأكون مستمراً على حالي.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الخواصَّ يقول: سمعت الحسين أخا سنان يقول: حججت اربع عشرة حجة، حافياً، على التوكل، فكان يدخل في رجلي شوكة فأذكر أني قد اعتقدت على نفسي التوكل، فأحكها في الأرض وأمشي.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الواعظ يقول: سمعت خيراً لنساج يقول: سمعت أب حمزة يقول: إني لأستحي من الله تعالى أن أدخل مادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل، لئلا يكون سعي على الشبع زاداً أتزود به.. وسئل حمدون التوكل. فقال:

تلك درجة لم أبلغها بعد، وكيف يتكلم في التوكل من لم يصح له حال الإيمان؟ وقيل: المتوكل كالطفل، لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يهتدي إلى إلى ربه تعالى.
وعن بعضهم قال؟ كنت في البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدامي واحداً. فتسارعت حتى أدركته، فإذا هي امرأة بيدها عكاز، تمشي على التؤدة.. فظننت أنها أعيت، فأدخلت يدي في جيبي، فأخرجت عشرين درهما، فقلت: خذيها وامكثي حتى تلحقك القافلة فتكتري بها. ثم ائتيني الليلة حتى أصلح أمرك.
فقالت: بيدها هكذا في الهواء، فإذا في كفها دنانير، فقالت: أنت أخذت الدراهممن الجيب، وأنا أخذت الدنانير من الغيب.
ورأى أبو سليمان الداراني رجلاً بمكة، لا يتناول شيئاً إلا شربة من ماء زمزم، فمضى عليه أيام، فقال له سليمان يوماً: أرأيت لو غارت زمزم إيش كنت تشرب؟ فقام، وقبل رأسه، وقال: جزاك الله خيراً، حيث أرشدتني، فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام. ومضى.
وقال إبراهيم الخواص: رأيت في طريق الشام شاباً حدثاً، حسن المراعاة، فقال لي: هل لك في الصحبة؟ فقلت: إني أجوع. فقال: إن جعتَ جعت معك.
فبقينا أربعة أيام، ففتح علينا بشيء، فقلت: هلم. فقال: اعتقدت أني لا آخذ بواسطة فقلت: يا غلام دققت. فقال: يا إبراهيم، لا تتبهرج، فإن الناقد بصير، مالك والتوكل؟ ثم قال: أل التوكل: أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو نفسك إلا إلى من إليه الكفايات.
وقيل: التوكل: نفي الشكوك، والتفويض إلى ملك الملوك.
وقيل: دخل جماعة على الجنيد رحمه الله، فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال:إن علمتم في أي موضوع هو، فقالوا: ندخل البيت فنتوكل؟ فقال: التجربة شك.
قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة.
وقال أبو سليمان الداراني لأحمد بن الحواري: يا أحمد، إن طرق الآخرة كثيرة، وشيخك عارف بكثير منها إلا هذا التوكل المبارك، فإني ما شممت منه رائحة.
وقيل: التوكل: الثقة بما في يد الله تعالى، واليأس عما في أيدي الناس وقيل التوكل: فراغ السر عن التفكر في التقاضي في طلب الرزق.
وسئل الحارث المحاسبي، رحمه الله، عن المتوكل: هل يلحقه طمع؟ فقال: يلحقه من طريق الطباع خطرات، ولا تضره شيئاً، ويقويه على إسقاط الطمع اليأس مما في أيدي الناس.
وقيل: جاع النوري في البادية، فهتف به هاتف: أيما أحبُّ إليك: سبب أو كفاية.
فقال: الكفاية ليس فوقها نهاية، فبقي سبعة عشر يوماً لم يأكل.
وقال أبو علي الروذباري: إذا قال الفقير بعد خمسة أيام: أنا جائع، فالزموه السوق، ومروه بالعمل والكسب.
وقيل: نظر أبو تراب النخشبي إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام.
فقال له: لا يصلح لك التصوف إلزم السوق.
وقال أبو يعقوب الأقطع البصري: جعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً. فحدثتني نفسي، فخرجت إلى الوادي، لعلي أَجد شيئاً يسكن ضعفي.. فرأيت سلجمة مطروحة.. فأخذتها.. فوجدت في قلبي منها وحشة. وكأن قائلاً يقول لي: جعت عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة متغيرة. فرميت بها ودخلت المسجد فقعدت، فإذا أنا برجل أعجمي، جلس بين يدي ووضع قمطرة، وقال: هذه لك.
فقلت: كيف خصصتني بها؟ فقال: أعلم أنا كنا في البحر منذ عشر أيام. وأشرفت السفينة على الغرق:: فنذر كل واحد منا: إن خلصنا الله، تعالى، أن يتصدق بشيء، ونذرت أنا: إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على أول من يقع بصري عليه من المجاورين وأنت أولُ من لقيته.
فقلت: افتحها ففتحها، فإذا فيها: كعك سميد مصري، ولوز مقشور، وسكر كعاب فقبضت قبضته من ذا، وقبضة من ذا، وقبضة من ذا.
وقلت ردَّ الباقي إلى صبيانك، هو هدية مني لكم، وقد قبلتها.
ثم قلت في نفسي: رزقك يسير إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي..
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: كنت عند ممشاد الدينوري، فجرى حيث الدَّين، فقال: كان علي دين. فاشتغل قلبي. فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول: يا بخيل، أخذت علينا هذا المقدار، خذ؛ عليك الأخذ، وعلينا العطاء فما حاسبت بعد ذلك بقالاً، ولا قصاباً، ولا غيرهم.

ويحكى عن بنان الحمال، قال: كنت في طريق مكة حرسها الله أجيء من مصر، ومعي زاد، فجاءتني امرأة، وقالت لي: يا بنان، أنت حمال تحمل على ظهرك الزاد، وتتوهم أنه لا يرزقك؟؟. قال فرميت بزادي. ثم أتي على ثلاث لم آكل فوجدت خلخالا في الطريق.. فقلت في نفسي: أحمله حتى يجيء صاحبه، فربما يعطيني شيئاً فأرده عليه فإذا أنا بتلك المرأة، فقالت لي: أنت تاجر؟؟ تقول: حتى يجيء صاحبه فآخذ منه شيئاً؟ ثم رمت إليه شيئاً من الدراهم، وقالت: أنفقها فاكتفيت بها إلى قريب من مكة.
ويحكى عن بنان أنه أحتاج إلى جارية تخدمه، فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها، وقالوا: هو ذا، يجيء النفر فتشتري ما يوافقك.
فلما ورد النفر، اجتمع رأيهم على واحدة، وقالوا: إنها تصلح له.
فقالوا لصاحبها: بكم هذه؟ فقال: إنها ليست للبيع: فالحوا عليه، فقال: إنها لبنان الحمال، أهدتها إليه امرأة من سمرقند فحملت إلى بنان، وذكرت له القصة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسين المخزومي يقول: حدثنا أحمد بن محمد بن صالح قال: حدثنا محمد بن عبدون، قال: حدثنا الحسن الخياط قال: كنت عند بشر الحافيِّ، فجاء نفر فسلموا عليه، فقال: من أين أنتم.
قالوا: نحن من الشام جئنا لنسلم عليك، ونريد الحج.
فقال: شكر الله تعالى لكم فقالوا: تخرج معنا. فقال: بثلاث شرائط لا تحمل معنا شيئاً، ولا نسأل أحدً شيئاً، وإن أعطانا أحد شيئاً لا نقبله؟ قالوا: أما أن لا نحمل، فنعم. وأما أن لا نسأل، فنعم، وأما أن لا نقبل إن أعطينا، فهذا لا نستطيعه.
فقال: خرجتم متوكلين على زاد الحجيج: ثم قال: يا حسن، الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل، وإن أعطى لا يأخذ، فذاك من جملة الروحانيين.
وفقير لا يسأل، وإن أعطي قبل، فذاك مما يوضع له موائد في حظائر القدس.
وفقير يسأل، وإن أعطي قبل قدر الكفاية، فكفارته صدقة.
وقيل لحبيب العجمي: لم تركت التجارة؟ فقال: وجدت الكفيل ثقة.
وقيل: كان في الزمن الأول رجل في سفر ومعه قرص، فقال: إن أكلت مت.
فوكل الله تعالى به ملكاً، وقال: إن أكله فارزقه، وإن لم يأكله فلا تطه غيره، فلم يزل القرص معه حتى مات، ولم يأكل، وبقي عنده القرص.
وقيل: من وقع في ميدان التفويض يزف إليه المراد كما نزف العروس إلى أهلها، والفرق بين التضييع والتفويض: أن التضييع في حق الله تعالى، وذلك مذموم،والتفويض في حقك، وهو محمود.
وقال عبد الله بن المبارك: من أخذ فلساً من حرام. فليس بمتوكل.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول سمعت نصر بن أبي نصر العطار يقول: سمعت علياً بن محمد المصري يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: دخلت البادية مرة بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد، فسررت بأني وصلت. ثم فكرت في نفسي: أني سكنت واتكلت على غيره، فآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها فحفرت لنفسي في الرمل حفرة. وداريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعوا صوتاً في نصف الليل عالياً يقول: يا أهل المرحلة، إن الله تعالى ولياً، حبس نفسه في هذا الرمل؛ فألحقوه.
فجاءني جماعة فاخرجوني وحملوني إلى القرية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين المخزومي يقول: سمعت ابن المالكي يقول: قال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين، فبينما أنا أمشي في الطريق، إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت: لا والله، لا استغيث فما استتمت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان: فقال أحدهما للآخر: تعالي حتى نسد رأس هذه البئر، لئلا يقع فيها أحد.. فأتوا: بصب وباربة، وطمو رأس البئر، فهممت أن أصيح ثم قلت في نفسي: أصيح إلى من هو أقرب منهما!!. وسكنت، فبينما أنا بعد ساعة، إذ أنا بشيء جاء.. وكشف عن رأس البئر، وأدلى رجله، وكأنه يقول لي: تعلق بي، في همهمة له كنت أعرف ذلك منه، فتعلقت به.. فأخرجني، فإذا هو سبع، فمر. وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة، أليس هذا أحسن!! نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا أقول:
أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي ... وسري يبدي ما يقول له طرفي
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوي ... وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
وتلطف في أمري. فأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

تراءيت لي بالغيب، حتى كأنما ... تبشرني في الغيب أنك في الكف
اراك وبي من هيبتي لك وحشة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا سعدان التاهرتي يقول: سمعت حذيفة المرعشي يقول: وكان قد خدم إبراهيم بن أدهم، وصحبه، فقيل له: ما أعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد خراب، فنظر إلى إبراهيم بن أدهم، وقال: يا حذيفة، أرى بك أثر الجوع!! فقلت: هو ما رأة الشيخ. فقال عليَّ بدواة، وقرطاس.
فجئت به، فكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود إليه بكل حال " ، والمشار إليه بكل معنى:
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا نائع أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من دخول النار
والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لاتكلفني دخول النار
ثم دفع إلى الرقعة: قال: أخرج، ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك.
قال: فخرجت.. فأول من لقيني رجل كان على بغلة، فدفعتها إليه، فأخذها وبكى، وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني.
فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار.
ثم لقيت رجلاً آخر، فقلت له: من صاحب هذه البغلة؟ فقال لي: هو نصراني فجئت إلى إبراهيم بن أدهم، وأخبرته بالقصة، فقال: لا تمسها، فإنه يجيء الساعة.
فلما كان بعد ساعة، وافى النصراني؛ وأكب على رأس إبراهيم بن أدهم وأسلم.
باب الشكر
قال الله عز وجل: " لئن شكرتم لأزيدنكم " .
وحدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار، قال حدثنا الإسقاطي قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا يحيى ابن يعلى، عن أبي خباب، عن عطاء، قال: دخلت على عائشة، رضي الله عنها، مع عبيد بن عمير، فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فبكت، وقالت: وأي شأنه لم يكن عجباً؟..إنه أتاني في ليلة.. فدخل معى في فراشي، أو قالت: في لحافي: حتى مس جلدي، ثم قال: يا بنت أبي بكر، ذريني أتبعد لربيِّ.
قالت: قلت: إني أحب قربك فأذنت له فقام إلى قربة من ماء. فتوضأ وأكثر صب الماء.. ثم قام يصلي. فبكى، حتى سالت دموعه على صدره.. ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى. فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة.
فقلت له: يا رسول الله، ما يبكيك، وقدغفر الله لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ولم لا أفعل: وقد أنزل الله علي: " إن في خلق السموات والأرض. الآية " .
قال الأستاذ: حقيقة الشكر عند أهل التحقيق: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وعلى هذا القول: يوصف الحق سبحانه، بأنه: شكور، توسعاً ومعناه: أنه يجازي العباد على الشكر، فسمي جزاء الشكر شكراً؛ كما قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " .
وقيل: شكره تعالى: إعطاؤه الكثير من الثواب على العمل اليسير؛ من قولهم: دابة شكور: إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف.
ويحتمل أن يقال. حقيقة الشكر: الثناء على المحسن يذكر إحسانه فشكر العبد لله تعالى: ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق، سبحانه، للعبد: ثناؤه عليه بذكر إحسانه له، ثم إن إحسان العبد: طاعته لله تعالى، وإحسان الحق: إنعامه على العبد بالتوفيق للشكر له، وشكر نعبد على الحقيقة، إنما هو: نطق اللسن، وإقرار القلب بإنعام الرب، والشكر ينقسم إلى: شكر باللسان: وهو اعترافه بالنعم بنعت الاستكانة.
وشكر بالبدن والأركان: وهو اتصاف بالوفاء والخدمة.
وشكر بالقلب وهو اعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة.
ويقال: شكر هو شكر العالمين، يكون من جملة أقوالهم.
وشكر: هو شكر العارفين، يكون باستقامتهم له في عموم أحوالهم.
وقال أبو بكر الوراق: شكر النعمة مشاهدة المنة، وحفظ الحرمة.
قال حمدون القصار شكر النعمة: أ، ترى نفسك فيه طفيلياً.

وقال الجنيد: الشكر فيه علة، لأنه طالب لنفسه المزيد، فهو واقف مع الله، سبحانه، على حظ نفسه.
وقال أبو عثمان: الشكر: معرفة العجز عن الشكر.
ويقال: الشكر على الشكر أتم من الشكر، وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه، ويكون ذلك التوفيق من أجل النعم عليك، فتشكره على الشكر ثم تشكره على شكر الشكر، إلا ما لا يتناهي.
وقيل: الشكر: إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة.
وقال الجنيد: الشكر: أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة.
وقال رويم: الشكر: استفراغ الطاقة.
وقيل: الشاكر: الذي يشكر على الموجود، والشكور: الذي يشكر على المفقود.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر على الرفد، والشكور: الذي يشكر على الرد.
ويقال الشاكر: الذي يشكر على النفع، والشكور: الذي يشكر على المنع.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر على العطاء، والشكور: الذي يشكر على البلاء.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر عند البذل، والشكور: الذي يشكر عند المطل.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت الجنيد يقول: كنت بين يدي السريِّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا غلام، ما الشكر؟ فقلت: ألا تعصي الله بنعمة.
فقال: يوشك أن يكون حظك من الله لسانك.
قال الجنيد، رحمه الله، فلا أزال أبي على هذه الكلمة التي قالها السري.
وقال الشبلي: الشكر: رؤية المنعم، لا رؤية النعمة.
وقيل الشكر: قيد الموجود، وصيد المفقود.
وقال أبو عثمان: شكر العامة على المطعم والمبس، وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعاني.
وقيل: قال داود، عليه السلام، إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ وقيل: قال داود، عليه السلام، إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله إليه: الآن قد شكرتني.
وقيل: قال موسى عليه السلام في مناجاته: إلهي، خلقت آدم بيدك، وفعلت.. وفعلت. فكيف شكرك؟ فقال: علم أن ذلك مني، فكانت معرفته بذلك شكره لي.
وقيل: كان لبعضهم صديق، فحبسه السلطان، فأرسل إليه، فقال له صاحبه: أشكر الله تعالى؛ فضرب الرجل؛ فكتب إليه، فقال: اشكر الله تعالى، فجيء بمجوسي مبطون، وقيد، وجعلت حلقة من قيده على رجل هذا، وحلقة على رجل المجوسي، فكان يقوم المجوسي بالليل مرات وهذا يحتاج أن يقوم على رأسه حتى يفرغ، فكتب إلى صاحبه، فقال: أشكر الله تعالى، فقال: إلى متى تقول، وأي بلاء فوق هذا؟ فقال له صاحبه: لو وضع الزنار الذي في وسطه في وسطك، كما وُضع القيد الذي في رجله في رجلك، ماذا كنت تصنع؟ وقيل: دخل رجل على سهل بن عبد الله، فقال له: إن اللص دخل داري، وأخذ متاعي!! فقال له أشكر الله تعالى، لو دخل اللص قلبك - وهو الشيطان - وأفسد التوحيد، ماذا كنت تصنع! وقيل: شكر العينين: أن تستر عيباً تراه بصاحبك. وشكر الأذنين: أن تستر عيباً تسمعه فيه.
وقيل: الشكر: التلذذ بثنائه على ما لم يستوجبه عن عطائه.
سمعت السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسن بن يحيى يقول: سمعت جعفراً يقول سمعت الجنيد يقول: كان السري إذا أراد أن ينفعني يسألني؛ فقال لي يوماً: يا أبا القاسم، ما الشكر! فقلت له: أن لا يستعان بشيء من نعم الله، تعالى، على معاصية.
فقال: من أين لك هذا! فقلت: من مجالستك.
وقيل: التزم الحسن بن علي الركن وقال: إلهي. نعمتني فلم تجدني شاكراً.! وابتليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة بتركي الشكر ولا أدمت الشدة بتركي الصبر. إلهي ما يكون من الكريم إلا الكرم.
وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافة فليطل لسانك بالشكر.
وقيل: اربعة لا ثمرة لأعمالهم: مسارة الأصم، ووضاع النعمة عند من لا يشكر، والباذر في السبخة، والمسرج في الشمس.
وقيل: لما بُشر إدريس، عليه السلام؛ بالمغفرة سأل الحياة، فقيل له فيه، فقال لأشكره فإني كنت أعمل قبله للمغفرة، فبسط الملك جناحه وحمله عليه إلى السماء.

وقيل، مر بعض الأنبياء عليهم السلام بحجر صغير يخرج منه الماء الكثير، فتعجب منه، فانطقه الله معه، فقال: مذ سمعت الله، تعالى يقول، " ناراً وقودها الناس والحجارة " وأنا أبكي من خوفه قال؛ فدعا ذلك النبي أن يجير الله ذلك الحجر؛ فأوحي الله تعالى إليه أني قد أجرته من النار، فمر ذلك النبي، فلما عاد وجد الماء يتفجر منه مثل ذلك؛ فعجب منه فانطق الله ذلك الحجر معه، فقال له لم تبكي، وقد غفر الله لك؟ فقال: ذلك كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور.
وقيل: قدم وفد على عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وكان فيهم شاب. فأخذ يخطب، فقال عمر: الكبر. الكبر. فقال له الشاب: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسنِّ، لكان في المسلمين من هو أسنُّ منك!!. فقال: تكلمَّ فقال: لسنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة. أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما الرهبة فقد أمنتا منها عدلك. فقال له: فمن أنتم؟ فقال: وقد الشكر، جئناك نشكرك ونتصرف.
وأنشدوا:
ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق
أرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذن ليد الكريم لسارق
وقيل: أوحى الله تعالى لى موسى عليه السلام: أرحم عبادي: ألمبتلي، والمعافى.
فقال: ما بال المعافى؟ فقال: لقلة شكرهم على عافيتي إياهم.
وقيل: الحمد على الأنفاس، والشكر على نعم الحواس.
وقيل الحمد: ابتداء منه، والشكر: اقتداء منك.
وفي الخبر للصحيح: " لو من يدعى إلى الجنة الحامدون لله على كل حال " .
وقيل: الحمد: على ما دفع، والشكر: على ما صنع.
وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن، فسألته عن حاله، فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي؛ وهي كذلك كانت تهواني؛ فانفق أنها زوجت مني، فليلة زفافها قلنا: تعال: حتى تحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا فصلينا تلك الليلة، ولم يتفرغ أحدنا لصاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فمنذ سبعين؛ أو ثمانين سنة، نحن على تلك الصفة كل ليلة: أليس كذلك يا فلانة، فقالت العجوز: كما يقول الشيخ.
باب اليقين
قال الله تعالى: " والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " .
حدثنا الاستاذ الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمود بن خرزاذ الأهوازي بها قال: حدثنا أحمد بن سهل بن ايوب قال: حدثنا خالد، يعني ابن زيد قال. حدثنا سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله وسفيان بن عيينة، عن سليمان التيمي، عن خيثمة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ترضين احداً بسخط الله تعالى، ولا تحمدن أحداً على فضل الله عز وجل، ولا تذمن أحداً على ما لم يؤتك الله تعالى، فإن رزق الله لا يسوقه غليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهة كاره، وإن الله تعالى - بعدته وقسطه - ، جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري، قال: قال أبو عبد الله الأنطاكي: إن أقل اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نوراً، وينفي عنه كل ريب، ويمتلىء القلب به شكراً، ومن الله تعالى خوفاً.
ويحكى عن أبي جعفر الحداد قال:رآني أبو تراب النخشبي، وأنا في البادية جالس على بركة ماء، ولي ستة عشر يوماً لم آكل ولم أشرب فقال لي: ما جلوسك؟ فقلت: أنا بين العلم والقين أنتظر ما يَغلب فأكون معه، يعني " إن غلب على العلم شربت، وإن غلب اليقين مررت " فقال لي: سيكون لك شأن.
وقال أبو عثمان الحيري اليقين: قلة الاهتمام لغد.
وقال سهل بن عبد الله: اليقين: من زيادة الإيمان ومن تحقيقه.
وقال سهل أيضاً: اليقين: شعبة من الإيمان، وهو دون التصديق.
وقال بعضهم: اليقين: هو العلم المستودع في القلوب. يشير هذا القائل إلى إنه غير مكتسب.
وقال سهل: ابتداء اليقين: المكاشفة، ولذلك قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، ثم المعاينة والمشاهدة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: اليقين تحقق الأسرار بأحكام المغيبات.

وقال أبو بكر بن طاهر: العلم: بمعارضة الشكوك، واليقين: لاشك فيه. أشار إلى العلم السكبي وما يجري مجرى البديهي، وكذلك علوم القوم في الابتداء كسبى، وفي الانتهاء بديهي.
سمعت محمد بن الحسين يقول: قال بعضهم: أول المقامات. المعرفة، ثم اليقين، ثم التصديق، ثم الإخلاص، ثم الشهادة، ثم الطاعة. والإيمان اسم يجمع هذا كله. أشار هذا القائل إلى أن أول الواجبات، هو المعرفة الله سبحانه والمعرفة لا تحصل ألا بتقديم شرائطها.وهو النظر الصائب، ثم إذا توالت الأدلة، وحصل البيان، صار بتوالي الأنوار، وحصول الاستبصار، كالمستغني عن تأمل البرهان وهو حال اليقين، ثم تصديق الحق، سبحانه، فيما أخبر عند إصغائه إلى إجابة الداعي فيما يخبر من أفعاله، سبحانه في المستأنف؛ لأن التصديق إنما يكون في الإخبار، ثم الإخلاص فيما يتعقبه من أداء الأوامر، ثم بعد ذلك إظهار الإجابة بجميل الشهادة، ثم اداء الطاعات بالتوحيد فيما أمر به، والتجرد عما زجر عنه.
وإلى هذا المعنى أشار الإمام أبو بكر محمد بن فورك، فيما سمته، يقول ذكر اللسان فضيلة يفيض بها القلب.
وقال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله تعالى.
وقال ذو النون المصري: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب.
وسمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة المخالطة الناس في العشرة، وترك المدح لهم في العطية، والتنزه عن ذمهم عند المنع.
وثلاثة من أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تعالى في كلِّ شيء، والرجوع إليه في كلِّ أمر ولا الاستعانة به في كل حال.
وقال الجنيد، رحمه الله اليقين: و استقرار العلم الذي لاينقلب ولايحول ولا يتغير في القلب.
وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا ما أدركوا من اليقين.
وأصل التقوى: مباينة النهي، ومباينة النهي مباينة النفس، فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين.
وقال بعضهم: اليقين: هو المكاشفة، والمكاشفة على ثلاثة أوجه: مكاشفة الإخبار،ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة بحقائق الإيمان.
وأعلم أن المكاشفة في كلامه، عبارة، عن ظهور الشيء للقلب بستيلاء ذكره من غير بقاء للريب، وربما أرادوا بالمكاشفة ما يقرب مما يراه الرائي بين اليقظة والنوم. وكثيراً ما يعبر هؤلاء عن هذه الحالة بالثبات.
سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يقول: سألت أبا عثمان المغربي، فقلت: ما هذا الذي تقول؟ قال الأشخاص أراهم كذا.. وكذا، فقلت: تراهم معاينة أو مكاشفة؟ فقال: مكاشفة.
وقال امر بن عبد قيس: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
وقيل: اليقين: رؤية العيان بقوة الإيمان.
وقيل: اليقين: زوال المعارضات.
وقال الجنيد، رحمه الله، اليقين: ارتفاع الريب في مشهد الغيب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في عيسى ابن مريم عليه السلام: " لو ازداد يقيناً لمشيء في الهواء كما مشيت فيه " .
قال رحمه الله: أنه أشار بهذا إلى حال نفسه، صلى الله عليه وسلم، ليلة المعراج؛ لأن في الطائف المعراج أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: " رأيت البراق قد بقي ومشيت " .
سمعت محمد الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت إبراهيم بن فانك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السريَّ يقول، وقد سئل عن اليقين، فقال: اليقين: سكونك عند جولان الموارد في صدرك، لتبينك أن حركتك فيها لا تنفك ولا ترد عنك مقضياً.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا جعفر الأصبهاني يقول: سمعت علي بن سهل يقول: الحضور أفضل من اليقين، لأن الحضور وطنات،واليقين خطرات.
كأنه جعل اليقين ابتداء الحضور، والحضور دوام ذلك، فكأنه جوَّز حصول اليقين خالياً من الحضور، وأحال جواز الحضور بلا يقين؛ ولهذا قال النوري: اليقين: المشاهدة، يعني أن في المشاهدة يقيناً لا شك فيه؛ لأنه لا يشاهده، تعالى من لايثق بما منه.
وقال أبو بكر الوراق: اليقين: ملاك القلب،وبه كمال الإيمان، وباليقين عرف الله تعالى، وبالفعل عقل عن الله تعالى.

وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء، ومات بالعطش أفضل منهم يقيناً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفراً يقول: قال إبراهيم الخواص: لقيت غلاماً في التيه، كأنه سبيكة فضة، فقلت: إلى أين يا غلام؟ فقال: إلى مكة: فقلت: بلا زاد، ولا راحلة، ولا نفقة! فقال لي: يا ضعيف اليقين، الذي يقدر على حفظ السموات والأرضين لا يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا علاقة قال: فلما دخلت مكة إذا أنا به في الطواف وهو يقول:
يا عين سحى أبداً ... يا نفس موتي كمداً
ولا تحبي أحدً ... إلا الجليل الصمدا
فلما رآني قال لي: يا شيخ، أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين؟! وسمعته يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء مصيبة.
وقال أبو بكر الوراق: القين على ثلاثة أوجه: يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة.
وقال أبو تراب النخشبي: رأيت غلاماً في البادية يمشي بلا زاد، فقلت: إن لم يكن معه يقين فقد هلك. فقلت: يا غلام، في مثل هذا الموضع بلا زاد؟ فقال: يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غير الله عزَّ وجلَّ؟ فقلت: الآن إذهب حيث شئت.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت محمد بن عيسى يقول: قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك، واليقين: ما حملك.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيَّ يقول: سمعت أبا عثمان الآدمي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: طلبت المعاش لأكل الحلال! فأصطدت السمك، فيوماً وقعت في الشبكة سمكة، فأخرجتها، وطرحت الشبكة في الماء فوقعت أخرى فيها فرميت بها ثم عدت، فهتف بي هاتف: لم تجد معاشاً إلا أن تأتي من يذكرنا فتقتلهم..! قال: فكسرتُ القبصة، وتركت الاصطياد.
باب الصبر
قال الله، عزَّ وجلَّ: " واصبر وما صبرك إلا بالله " .
وأخبرنا عليُّ بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمدبن عبيد البصري، قال: حدثنا أحمد بن علي الخراز قال: حدثنا أسيد بن زيد قال: حدثنا مسعود بن سعد، عن الزيات، عن أبي هريرة، عن عائشة، رضي الله عنها، رفعته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الصبر عند الصدمة الأولى " .
وأخبرنا علي بن أحمد قال: أخبرنا بن عبيد قال: حدثنا أحمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن مرداس قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصبر عند الصدمة الأولى " .
ثم الصبر على أقسام: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على ما ليس بكسب له.
فالصبر على المكتسب، على قسمين: صبر على ما أمر الله تعالى به، وصبر على من نهى عنه.
وأما الصبر على ما ليس بمكتسب للعبد: فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله فيما يناله فيه مشقة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت السحين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله تعالى شديد، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد، والصبر مع الله أشد.
وسئل الجنيد عن الصبر، فقال: هو تجرع المرارة من غير تعبيس.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بنزلة الرأس في الجسد.
وقال أبو القاسم الحكيم: قوله تعالى: " واصبر " أمر بالعبادة، وقوله: " وما صبرك إلا بالله " عبودية، فمن ترقىَّ من درجة لك إلى درجة بك؛ فقد انتقل من درجة العبادة إلى درجة العبودية.
قال صلى الله عليه وسلم: " بك أحيا وبك أموت " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمت أبا جعفر الرازي يقول: سمعت عياشاً يقول: سمعت أحمد يقول: سألت أبا سليمان عن الصبر، فقال: والله ما نصبر على ما نحب، فكيف على ما نكره؟ وقال ذو النون: الصبر: التباعد عن المخالفات، والسكونُ عند تجرع قصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وقال ابن عطاء: الصبر: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى.
وقال أبو عثمان: الصبار: الذي عوَّد نفسه الهجوم على المكاره.
وقيل: الصبر: المقام مع البلاء بحسن الصحية، كالمقام مع العافية.

وقال أبو عثمان: أحسن الجزاء على عبادة: الجزاء على الصبر، ولا جزاء فوقه، قال الله عزَّ وجلَّ: " ولنجزين الذين صبرواأجرهم بأحسن ما كانون يعملون " .
وقال عمرو بن عثمان: الصبر. هو الثبات مع الله سبحانه وتعالى، وتلقي بلائه بالرحب والدعة.
وقال الخوَّاص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشدُّ من صبر الزاهدين، واعجباً، كيف يصبرون؟ وأنشدوا:
الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لايحمد
وقال رويم: الصبر: ترك الشكوى.
وقال ذون النون: الصبر: هو الاستعانة بالله تعالى.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: الصبر كأسمه.
وأنشدني الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أنشدني أبو بكر الرازي قال: أنشدني ابن عطاء لنفسه:
سأصبر، كي ترضى، وأتلف حسرة ... وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الصبر على ثلاثة أقسام، متصبر، وصابر،وصبار.
وقال عليُّ بن أبي طالب، رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على الشبليَّ فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله عزَّ وجلَّ، فقال: لا، فقال: الصبر لله، قال: لا. قال: الصبر مع الله، قال: لا. قال: فاي شيء؟ قال: الصبر عن الله.
قال: فصرخ الشبلي صرخة طادت روحه أن تتلف.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: الصبر: أن لايفرق بين حال النعمة والمحنة، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبر: هو السكون، مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة.
وأنشد بعضهم:
صبرت ولم أطلع هواك على صبري ... وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر
مخافة أن يشكو ضميري صبابتي ... إلى دمعتي سرَّاً فتجري ولا أدري
سمت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: فاز الصابرون بعزِّ الدارين؛ لأنهم نالوا من الله تعالى معيته: قال الله تعالى: " إن الله مع الصابرين " .
وقيل في معنى قوله تعالى: " اصبروا وصابروا ورابطوا " الصبر: دون المصابرة، والمصابرة: دون المرابطة.
وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله تعالى، وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله، ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله.
وقيل: أصبروا في الله، وصابروا بالله، ورابطوا مع الله.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي، وإنَّ من أخلاقي أنني أنا الصبور.
قويل: يجرَّع الصبر، فإن قتلك قتلك شهيداً، وإن أحياك أحياك عزيزاً.
وقيل: الصبر لله: عناء، والصبر بالله: بقاء، والصبر في الله: بلاء. والصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله: جفاء.
وأنشدوا:
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود
وأنشدوا:
وكيف الصبر عمن حل منى ... بمنزلة اليمين من الشمال
إذا لعب الرجال بكلِّ شيء ... رأيت الحب يلعب بالرجال
وقيل: الصبر على الطلب عنوان الظفر، والصبر في المحن علامة الفرج.
سمعت منصور بن خلف المغربي، رحمه الله، يقول: جُرِّد واحد للسياط، فلما ردَّ إلى السجن دعا ببعض أصحابه فتفل على يده، وألقى من فمه دقاق الفضة على يده فسئل، فقال: كان في فمي درهمان، وكان على حاشية الحلقة لي عين، فلم أرد أن أصيح لرؤيته إياي.. فكنت أعض على الدرهمين.. فتكسروا في فمي.
وقيل: حالك التي أنت فيها رباطك، وما دون الله تعالى أعداؤك، فأحسن المرابطة في رباط حالك.
وقيل: المصابرة: هي الصبر على الصبر، حتى يستغرق الصبر في الصبر فيعجز الصبر عن الصبر، كما قيل: صابر الصبر فاستغاث به فصاح المحب بالصبر صبراً وقيل: حبس الشبلي وقتاً في المارستان، فدخل عليه جماعة؛ فقال: من أنتم؟ فقالوا: أحباؤك جاءوك زائرين.
فأخذ يرميهم بالحجر، وأخذوا يهربون.
فقال: يا كذابون، لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي.
وفي بعض الأخبار. بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي.
وقال الله تعلى: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " .

وقال بعضهم: كنت بمكة.. فرأيت فقيراً طاف بالبيت، وأخرج من جيبه رقعة، ونظر فيها، ومر، فلما كان بالغد، فعل مثل ذلك، فترقبته أياماً وهو يفعل مثل ذلك، فيوماً من الأيام طاف ونظر في الرقعة، وتباعد قليلا، وسقط ميتاً، فأخرجت الرقعة من جيبه، فإذا فيها: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " .
وقيل: رؤي حدث يضرب وجه شيخ بنعله، فقيل له: ألا تستحي!؟ تضرب حر وجه شيخ بمثل هذا؟: فقيل: جرمه عظيم. فقيل: وما ذاك؟ فقال: هذا الشيخ يدّعي أنه يهواني، ومنذ ثلاث ما رآني.
وقال بعضهم: دخلت بلاد الهند، فرأيت رجلا بفرد عينيسمى فلانا الصبور فسألت عن حاله، فقيل: هذا في عنفوان شبابه سافر صديق له، فخرج في وداعه، فدمعت إحدى عينيه ولم تبك الأخرى، فقال لعينه التي لم تدمع: لِمَ لم تدمعي على فراق صاحبي؟ لأحرمنك النظر إلى الدنيا وغمض عينه، فمنذ ستين سنة لم يفتح عينه.
وقيل في قوله تعلى: " فاصبر صبراً جميلا " : الصبر الجميل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو.
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لو كان الصبر والشكر بعيرين، لم أبال أيهما ركبت.
وكان ابن شبرمة، رحمه الله، إذا نزل به بلاء قال:سحابة ثم تنقشع.
وفي الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة " .
أبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن طاهر الصوفي قال: حدثنا محمد بن التيجاني قال: حدثنا محمد أبن إسماعيل البخاري قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا سويد بن حاتم قال:حدثنا عبد الله بن عبيد، عن عمير، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة " .
وسئل السري عن الصبر، فجعل يتكلم فيه، فدب على رجله عقرب، وهي تضربه بابرتها ضربات كثيرة، وهو ساكن: فقيل له: لِمَ لم تنحها؟.
فقال: استحييت من الله تعالى أن أتكلم في الصبر، ولم أصبر.
وفي بعض الأخبار: الفقراء الصبر هم جلساء الله تعالى يوم القيامة.
وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: أنزلت بعبي بلائي، فدعاني، فماطلته بالإجابة، فشكاني، فقلت: يا عبدي، كيف أرحمك من شيء به أرحمك.
وقال ابن عيينة في معنى قوله تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا " ،قال: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤساء.
سمعت الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق يقول: أن الصبر حده أن لا تعترض على التقدير؛ فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: " إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوًّاب " مع ما أخبر عنه تعالى أنه قال " مسنى الضر " .
وسمعته يقول: استخرج الله منه هذه المقالة: يعني قوله: " مسني الضر " ؛ لتكون متنفسا لضعفاء هذه الأمة.
وقال بعضهم: إنا وجدناه صابراً، ولم يقل صبوراً لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر، بل كان في بعض أحواله يستلذ البلاء، ويستعذبه، فلم يكفني حال الاستلذاذ صابراً؛ فلذلك لم يقل: صبوراً.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: حقيقة الصبر: الخروج من البلاء على حسب الدخول فيه، مثل أيوب عليه السلام فإنه قال في آخر بلائه: " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " فحفظ أدب الخطاب حيث عرض يقول: " وأنت أرحم الراحمين " ولم يصرح بقوله ارحمني.
واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين، وصبر المحبين.
فصبر العابدين، أحسنه: أن يكون محفوظاً، وصبر المحبين أحسنه: أن يكون مرفوضاً. وفي معناه أنشدوا:
تبين يوم البين أن اعتزامه ... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
وفي هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: أصبح يعقوب، عليه السلام، وقد وعد الصبر من نفسه فقال: " فصبر جميل أي: فشأني صبر جميل، ثم لم يمس حتى قال: يا أسفاً على يوسف " .
باب المراقبة
قال الله تعالى: " وكان الله على كل شيء رقيباً " .

أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن اسحق، قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن اسحق، قال: حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، قال: حدثنا خالد بن يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم؛ عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فقال: يا محمد، ما الايمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته " وكتبه، ورسله، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره. قال: صدقت. قال: فتعجبنا من تصديقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني ما الاسلام؟ قال: الاسلام أن تقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: صدقت. قال فأخبرني ما الاحسان؟ قال: الاحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال صدقت.. " الحديث.
قال الشيخ: هذا الذي قاله صلى الله عليه وسلم: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إشارة إلى حال المراقبة، لأن المراقبة، علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا أصل كل خير له.ولا يكاد يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة، فإذا حاسب نفسه على ما سلف له، وأصلح حاله في الوقت، ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب، وحفظ مع الله تعالى الأنفاس، وراقب الله تعالى في عموم أحواله، فيعلم أنه سبحانه؛ عليه رقيب، ومن قلبه قرب، يعلم أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع أقواله، ومن تغفل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة، فكيف عن حقائق القربة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: كان لبعض الأمراء وزير، وكان بين يديه يوماً، فالتفت إلى بعض الغلمان الذين كانوا وقوفاً، لا لريبة، ولكن لحركة أو صوت أحس به منهم، فاتفق أن ذلك الأمير نظر إلى هذا الوزير في تلك الحالة فخاف الوزير أن يتوهم الأمير أنه نظر إليهم، فجعل ينظر إليه كذلك، فبعد ذلك اليوم كان هذا الوزير يدخل على هذا الأمير، وهو أبداً ينظر إلى جانب، حتى توهم الأمير أن ذلك خلقه؛ وحول فيه. فهذه مراقبة مخلوق لمخلوف، فكيف مراقبة العبد لسيده؟ سمعت بعض الفقراء يقول: كان أمير له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من غلمانه؛ ولم يكن أكثرهم قيمة، ولا أحسنهم صورة، فقالوا له في ذلك، فأراد الأمير أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره. فيوماً من الأيام كان راكباً، ومعه الحشم، وبالبعد منهم جبل عليه ثلج، فنظر الأمير إلى ذلك الثلج وأطرق رأسه، فركض الغلام فرسه، ولم يعلم القوم لماذا ركض!. فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء ومعه شيء من الثلج. فقال له الأمير: ما أدراك أني أردت الثلج؟ فقال الغلام: لأنك نظرت إليه، ونظر السلطان إلى شيء لا يكون عن غيره قصد صحصح فقال الأمير: إنما أخصه بإكرامي وإقبالي، لأن لكل أحد شغلاً، وشغله مراعاة لحظائي، ومراقبة أحوالي.
وقال بعضهم: من راقب الله تعالى في خواطره، عصمه الله في جوارحه.
وسئل أبو الحسين بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيباً.
وقيل: كان ابن عمر؛ رضي الله عنه، في سفر، فرأى غلاماً يرعى غنماً، فقال له: تبيع من هذه الغنم واحدة؟ فقال: إنها ليست لي فقال: قل لصاحبها إن الذئب أخذ منها واحدة، فقال العبد: فأين الله!! فكان ابن عمر يقول بعد ذلك إلى مدة: قال ذلك العبد: فأين الله.
وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف فوت حظه من ربه عز وجلا لا غير.
وكان بعض المشايخ له تلامذة.. فكان يخص واحداً منهم بإقباله عليه أكثر مما يقبل على غيره، فقالوا له في ذلك، فقال: أين لكن ذلك.. فدفع إلى كل واحد من تلامذته طائراً، وقال له: إذبحه بحيث لا يراه أحد، ودفع إلى هذا أيضا، فمضوا.. ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طائره، وجاء هذا بالطائر حياً فقال: هلا ذبحته؟ فقال: أمرتني أن اذبحه بحيث لا يراه أحد، فقال: لهذا أخصه بإقبالي عليه.
وقال ذو النون المصري: علامة المراقبة: إيثار ما آثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى.

وقال النصراباذي: الرجاء: يحركك إلى الطاعات، والخوف: يبعدك عن المعاصي، والمراقبة: تؤديك إلى طرق الحقائق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سألت جعفر بن نصير عن المراقبة، فقال: مراعاة السر، لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائماً.
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم البغدادي يقول: سمعت المرتعش يقول: المراقبة: مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة.
وسئل ابن عطاء: ما أفضل الطاعات؟ فقال: مراقبة الحق على دوام الأوقات.
وقال إبراهيم الخواص: المراعاة تورث المراقبة، والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أفضل ما يلزم به الإنسان نفسه في هذه الطريقة: المحاسبة، والمراقبة، وسياسة عمله بالعلم.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول سمعت أبا عثمان: يقول: قال لي أبو حفص إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك،ولا يغرنك إجتماعهم عليك، فنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعتأبا جعفر الصيدلاني يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: قال لي بعض مشايخي عليك بمراعاة سرك والمراقبة. قال: فبينا أنا يوماً أسير في البادية، إذ أنا بخشخشة خلفي، فهالني ذلك.. وأردت أن ألتفت فلم ألتفت.. فرأيت شيئاً واقفاً على كتفي.. فانصرف، وأنا مراع لسري.. ثم التفت، فإذا أنا بسبع عظيم.
وقال الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات. وهو: أن لا يطالع العبد غير حده، ولا يراقب غير ربه، ولا يقارن غير وقته.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب الرضا.

تعليقات

المشاركات الشائعة